وداعاً كارمن.. عندما يُشهِر الرّيف ورقة الإبداع السينمائيّ

وداعاً كارمن.. عندما يُشهِر الرّيف ورقة الإبداع السينمائيّ
الأحد 16 نونبر 2014 - 05:50

كانت تلك من المرّات القلائل التي تتعالى فيها تصفيقات الجمهور في الدورة الخامسة لمهرجان الداخلة الدولي السينمائي.. خرج الجمهور وهو يناقش تلك المشاهد الجميلة للطفل عمار في حكايته مع الإسبانية كارمن وفي عشقه اللا محدود للسينما الهندية. ممثلة عراقية لم تفهم اللغة الأمازيغية الريفية التي ينطق بها الفيلم، ولم تفهم اللغة الفرنسية التي تُرجمت بها حواراته، ولكن مع ذلك، جاهرت بأنها شاهدت واحداً من أجمل الأفلام في الآونة الأخيرة، فيلم لا يحتاج لترجمة ولا حتى إلى فهم حواراته.. فيلم يحتاج فقط ذهنا صافياً وقدرة على تقبل الجمال السينمائي.

لم يكن غريباً أن يتوّج الفيلم ذاته بالجائزة الكبرى لهذا المهرجان، حتى وهو يتنافس مع الشريط الفلسطيني “عمر” الذي تم ترشيحه في القائمة المختصرة لأوسكار أفضل فيلم أجنبي، وحتى وهو يتنافس مع الشريط المغربي “الصوت الخفي” الذي حقق مجموعة من جوائز النسخة الأخيرة من المهرجان الوطني للفيلم، فـ”وداعا كارمن” لمحمد أمين بنعمراوي، وكما قال رئيس لجنة تحكيم المهرجان، محمد برادة، استطاع أن يرفع قصة أسرة بسيطة إلى مستوى إنساني رائع، واستطاع أن يبيّن لنا عمق علاقة بين طفل مغربي وسيدة إسبانية، عبر الأفلام الهندية التي تحتل جزءاً كبيراً من ذاكرة جماهير السينما الشعبية بالمغرب.

استمد هذا الفيلم الجميل قوته من كثير من المقوّمات، من بينها ذلك أمان الله بن الجيلالي الذي شخصّ دور بطولته، والذي قدم دوراً يعكس براءة طفل مغربي يعاني من قسوة عمه السكير وغياب والدته التي سافرت إلى بلجيكا واعتداءات أقرانه عليه الذين ينعتونه بالجبان، فـ”عمار” لم ينجح فقط في تقريبنا فقط من طفولة المئات من الأطفال المغاربة الذين يعانون الحرمان، ولكنه نجح كذلك في تقريبنا من خصوصية المناطق الريفية. ولم يكن “عمار” ليكون بهذا التميز، لولا أنه أدى دوره بصدق كبير كما لو أنه يقدم لنا فصولاً من حياته اليومية.

ولا يمكن الحديث عن مشخصي أدوار الفيلم دون الإشارة إلى الاسبانية باولينا كالفيز التي أدت دور “كارمن” بكثير من البراعة، المواطنة الإسبانية التي تمقت الجنرال “فرانكو” وتجد نفسها في علاقة حب مع مصلح دراجات مغربي، يكون الطفل “عمار” هو الرسول بينهما. زيادة على الممثل المغربي سعيد المرسي الذي أدى دور عم “عمار”، والذي استطاع أن يتقمص شخصية قاسية تمارس العنف حتى على الأطفال والنساء. فضلاً عن مجموعة من الممثلين الآخرين الذين قدموا لنا هذه الوثيقة السينمائية التي تدور في سنوات السبعينيات، خاصة منهم أصدقاء الطفل “عمار”، ففي شقاوتهم وعراكهم، يقتفي البعض منا ملامح طفولة مغربية شكّل الشارع جزءاً كبيراً من طقسها اليومي.

ولا يتوقف الفيلم عند علاقة بين “عمار و “كارمن”، بل تجاوز ذلك لإسقاطات أخرى، منها بالأساس تفاعل ساكنة بلدة ريفية مع المسيرة الخضراء، حيث يربط جمهور القاعة السينمائية التي تعمل بها “كارمن” خطأ تقنياً وقع أثناء تقديم نشرة إخبارية (كانت السينما في ذلك الوقت تعرض الأخبار الرسمية قبل بدء الفيلم) بجنسية أصحاب القاعة، ويعتبرون ذلك نية سيئة من الإسبان ضد مغربية الصحراء.

من مقومات الفيلم الجميلة كذلك، الإخراج الجميل لمحمد أمين بنعمراوي، هذا الشاب الأمازيغي الذي صوّر جزءً من ذاكرة طفولته قبل أن يرحل إلى الديار البلجيكية حيث درس وامتهن السينما، ليقدم بعدها مجموعة من الأفلام الوثائقية والأفلام القصيرة فضلاً عن إنتاجات تلفزيونية، حتى جاء موعد فيلمه المطوّل الأول “وداعاً كارمن”، ليقدم الدليل على نضج السينما المغربية، عبر عمل لم يتطلب الإمكانيات المادية العالية والممثلين النجوم، بل تطلب رؤية إخراجية مبدعة، ترجمتها قصة إنسانية وصدق في التشخيص.

ولا يمكن استرجاع جمالية الفيلم دون استدعاء تلك مشاهد الأفلام الهندية التي كان “عمار” يتابعها بعينين دامعتين، ثم يحكيها لصديقه الذي يحرس دراجات المشاهدين، هي تلك الأفلام التي كانت القاعات السينمائية المغربية تغصّ بمشاهدين حفظوا أغانيها عن ظهر قلب. فغالباً ما كانت سهام الانتقاد توجه لهذه الطينة من الأفلام لإغراقها في الميلو-دراما وفي العواطف، بيدَ أنه من الإجحاف المرور على دورها، ليس فقط في درّ مداخيل على أصحاب القاعات السينمائية، بل كذلك في تشكيل ذاكرة سينمائية للكثير من المغاربة، ومنهم محمد أمين بنعمراوي، الذي أكد سابقاً أنه عانى من أجل الحصول على حقوق عرض هذه المشاهد الهندية، وأنه أصرّ على ذلك، لأن سيناريو الفيلم لم يكن لينجز على أرض الواقع دون الاستعانة بهذه المشاهد.

سيحزن “عمار” عندما تخبره “كارمن” أنها ستعود إلى بلدها بشكل نهائي بعد وفاة الجنرال “فرانكو” وتصاعد التوتر بين المغاربة والإسبان في المغرب، ليس الحزن فقط على رحيل امرأة حنونة احتضنت طفلاً لا يجد أحياناً حتى ما يأكله، ولكنه كذلك حزناً على فقدان قاعة السينما التي تعمل به “كارمن” رونقها بعد رحيلها، حيث سيفقد الطفل تلك المتعة التي كان يجدها في أفلامه الهندية التي طبعها وجود امرأة إسبانية في شباك تحصيل التذاكر.. لذلك لم يمنح عمار كارمن حتى فرصة توديعه، ففي قلبه، كان هناك جرحاً عميقاً من رحيل مفاجئ لسيدة طبعت شخصيته، خاصة بعد سفر أمه إلى أوروبا.

سيناريو متماسك، إخراج مبهر، أداء صادق قصص متشابكة، موسيقى تصويرية مبهرة.. تتعدد معالم الجمال في “وداعاً كارمن”، لتجعله واحداً من أفضل الأفلام المغربية التي أنتجت مؤخراً، ولتجعله حملاً ثقيلاً على بنعمراوي الذي سيجد نفسه مجبراً على التفكير بشكل مضنٍ في فيلمه القادم كي لا يحيد عن خط الإبداع الذي رسمه في فيلمه الأول. وإلى ذلك الحين، يتجوّل الطفل “عمار” بثقة في المهرجانات المحلية والعالمية، حاصداً الجوائز.. والحب كذلك.

‫تعليقات الزوار

11
  • مفقوص
    الأحد 16 نونبر 2014 - 07:33

    ما زلت أتأسف عن ترشيح القمر الأحمر و ترك جانبا هذه التحفة السينمائية.
    لا تقدير و لا احترام لتلك اللجنة التي كانت وراء اختيار اللا قمر لتمثيل المغرب.

  • محمد الوطني
    الأحد 16 نونبر 2014 - 08:01

    الأبداع موجود في كل مكان…..ليس هناك منطقة أو مكان ينفرد بالأبداع دون غيره ….الابداع ممكن أن يكون ريفيا ، فاسيا، مكناسيا، صحراويا،سوسيا …. الخ …هنيئا للفيلم المغربي القادم من شمال المغرب "وداعا كارمن" وكفانا مزايدات…

  • متفرج
    الأحد 16 نونبر 2014 - 08:14

    الذين سبقوا وأخبروني بأن الفيلم هو تحفة سينمائية فنية لم يغلطوا أو جانبوا الصواب. الشريط في مجمله رائع. نجح محمد أمين بنعمراوي في منحنا متعة فنية هائلة. شكرا له وشكرا لكل من ساهم في هذا الإنجاز. ولا سيما جميع الأطفال الذين قدموا أدواراهم باقتدار؛ الأدوار التي كنها ذات سنوات من العمر الجميل. مخرج مغربي وأمازيغي قادم بحق. بالتوفيق سي محمد أمين. نراك قريبا في تحفة أخرى..

  • ali afa
    الأحد 16 نونبر 2014 - 08:55

    شكرا سي اسماعيل على هذا المقال الجميل الذي جعلنا نعيش أحداث و مشاهد فيلم "وداعا كارمن". ما يمكن للمرئ أن يستخلصه كدرس من هذه التجربة هو أن صناعة و ابداع سنيما ناجحة لا تحتاج دائما الى ممثلين "نجوم" و الى امكانيات مادية كبيرة، كما لا يحتاج الى المشاهد الساخنة المجانية التي تعج بها السنيما المغربية. تحياتي

  • عابر
    الأحد 16 نونبر 2014 - 08:58

    وداعا كارمن .. حببتني فيه و شوقتني لمشاهدته عزيزي اسماعيل

  • rifi walakin amazighi
    الأحد 16 نونبر 2014 - 11:15

    التلفزيون المغربي عامر غير بأﻷفﻻم العروبيه…..فيهم غير لغوات والصطحيه…..

  • Bnadam
    الأحد 16 نونبر 2014 - 11:42

    تحية للمخرج الامازيغي على هذا الفيلم الراىع
    مسيرة موفقة

  • moha
    الأحد 16 نونبر 2014 - 12:39

    le titre est un peu bisaroïde
    la constitution marocaine reconnait ce brassage culturel, chaque région a sa propre identité qui font l'ensemble de l'identité marocaine
    est ce que ce titre veut dire que avant la culture et l'identité de RIF étaient marginalisés? c'est une question, ce film est un film marocain, on doit pas donner plus d'importance à une idéologie hors notre cher Maroc de juger nos œuvres pour avoir confiance qu'elles sont de qualités
    sauf si ce juge est neutre, qui reconnait toutes les créations artistiques universelles de valeur

  • Mohammed
    الأحد 16 نونبر 2014 - 17:42

    L’identité marocaine est multiple, rifi, sousi, arabe, sahraoui, fassi, nous nous félicitons de cette oeuvre certainement, d’autre vont venir incha allah, plus grande encore, on aimerai bien voir dans un avenir proche, des films sahraouis marocains avec la langue Hassania, incha allah.

  • موحا الحكيم
    الأحد 16 نونبر 2014 - 20:59

    إذا كان الفيلم تحفة فنية ويعانق ، من خلال مضمونه الانساني ، افقا كونيا يتجاوز الجغرافيا والاعراق ، فلماذا هذا الرقص المسعور حول الذات الاأمازيغية الذي تشم رائحته بين تلافيف المقال و بعض الردود ؟؟؟؟ أنا أمازيغي لكني أجدني متضايقا و غير مرتاح كلما أبدع أحد منا شئيا يستحق التقدير في مجال من المجالات فيتكالب عليه أمثل هؤلاء الأطفال الكبار ( صاحب المقال و أصحاب التعليقات المريضة ) ليفقدوه القيمة التي استحقها و منحها له مختصون في معزل عن النعرات القبلية البسيكوباتية . حصاد القول : تحياتي الى سعيد المرسي الأخ والصديق و رفيق دروب الفلسفة في الرباط سنوات 1986 …1991 ، الريفي الذي تعلم من الكبار كيف ان لا نزعة يمكن ان يكتب له البقاء سوى النزعة الانسانية الكونية التي لها معنى واحد : الانسحاب على جغرافيا الفقراء و المسحوقين ..بصرف النظر عن لغتهم و وطنهم ودينهم و لونهم ومذهبهم في الحياة .

  • جمال جبور
    الخميس 20 نونبر 2014 - 12:30

    هذا هو الفن الحقيقي الذي يسمو بالذوق الفني، يقدم رسائل هادفة تمس في الصميم المشاكل التي يعاني منها المجتمع، ليست تلك السينما التي تتعالى على هموم الأمة فهي تنظر إلى الأمور من برج عاجي، فالسينما يكمن دورها الرئيسي إلى تثقيف المتلقي و محاولة تقديم وصفات علاجية من منظور فني تتماهى مع المشاكل التي يعاني منها المحتمع على خلاف الفن الرخيص الذي يحاولة الاستعاضة بتدني المستوى الفني إلى إدراج صور خليعة ومشاهد عري تحت لافتة تصوير الواقع والشعار المشهور: (الحمهور عاوز كده)، و الهدف منها هو شباك التذاكر، فن لا يقدم لا رسالة و لاقيما فالفن في المغرب و بصريح العبارة أصبح مهنة ما لامهنة له فنانون تحولوا بقدرة قادر من التمثيل إلى الإخراج كما لو أنهم برعوا في التمثيل ليتحفونا بأفلام فارغة شكلا و مضمونا.
    في الختام لا يصح إلا الصحيح: ( رحم الله عبدا عمل فأحسنه)

صوت وصورة
"حوت بثمن معقول"
الأحد 17 مارس 2024 - 19:29 3

"حوت بثمن معقول"

صوت وصورة
الفهم عن الله | كلام الناس
الأحد 17 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | كلام الناس

صوت وصورة
خلف الستار | مسلسل إيبوهاسن
الأحد 17 مارس 2024 - 17:30

خلف الستار | مسلسل إيبوهاسن

صوت وصورة
أسرار رمضان | فضل الصدقة
الأحد 17 مارس 2024 - 17:00 1

أسرار رمضان | فضل الصدقة

صوت وصورة
جني الفراولة في ضيعات الغرب
الأحد 17 مارس 2024 - 14:12 2

جني الفراولة في ضيعات الغرب

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | اعتقال العثماني
السبت 16 مارس 2024 - 23:00

شهادات للتاريخ | اعتقال العثماني