من "سبارتاكوس" إلى "نابوليون" .. كاميرا "كوبريك" تؤرّخ للمنهزمين

من "سبارتاكوس" إلى "نابوليون" .. كاميرا "كوبريك" تؤرّخ للمنهزمين
الإثنين 15 يوليوز 2019 - 02:00

عشرون سنة مرت على رحيل ستانلي كوبريك (1928-1999)، واثنان وستون سنة مرت على أول أشهر أفلامه “دروب المجد” 1957. يمر الزمن ولا تشيخ أفلام كوبريك.

أرخت كاميرا كوبريك لزمن طويل وصورت تاريخ المنهزمين. هنا محاولة لتتبع أفلام المخرج ليس بناء على زمن صدورها، بل بناء على الزمن التاريخي الذي تناولته:

يعود فيلم “سبارتاكوس” إلى ما قبل ميلاد المسيح، ليعرض كيف كسرت ثورة العبيد صولجان الإمبراطورية الرومانية. بعد لحظة النصر فعل العبيد بأسيادهم السابقين نفس الشيء، أرغموهم على أن يقتلوا بعضهم بعضا. غرس البطل سبارتاكوس (كيرك دوغلاس) سكّينه في عاصمة الكون حينها، لكن الفيلم ينتهي والبطل مصلوبا، مصلوبا كالمسيح بينما تقبّل مريمته قدميه.

تجري أحداث فيلم “باري لندن” في منتصف القرن الثامن عشر. لم يترك الفيلم أثرا كبيرا، لكنه فيلم معْلمة لمدراء التصوير، لأن كوبريك استحدث طرقا وحيلا للتصوير غير مسبوقة، ليلعب بالإضاءة التي تنبع من قلب المشهد.

تجري أحداث فيلم “دروب المجد” في بداية القرن العشرين أثناء الحرب العالمية الأولى. يكفي فيلم دروب المجد أنه درْس في اللقطات المتواصلة المشهدية plan séquence وهي لقطات لا يجرؤ عليها إلا المخرجون الكبار. لقد رتب كوبريك منذ اللقطة الأولى وقائع تتقدم الكاميرا لتلتهمها بالتتابع في ترافلينغ طويل للأمام. وفي مشهد الخندق يتكرر نفس الشيء، ترافلينغ إلى الخلف لرصد تقدم العقيد داكس (كيرك دوغلاس) ليتفقد رجاله ويقف على درب الذل الذي مر منه الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الأولى.

يبدو أن كوبريك ألقى نظرة على لوحات الرسام الألماني أوتو ديكس Otto Dixووظفها في الفيلم، وليس صدفة تشابه اسم العقيد واسم الرسام الذي كان قناصا، وكان يسدد على جنود الحلفاء، ومنهم المغاربة الذين تساقطوا أمامه في الحرب العالمية الثانية. وقد رسم ديكس بشاعة القتل، جماجم مقسومة لم يبق منها إلا نصف الفك العلوي.

في فيلم “لوليتا” أرملة تكري بيتها ولها ابنة مراهقة اسمها لوليتا، وهذه الأخيرة هي طُعم الأرملة الذي تجذب به عشاق ابنتها. ذات مرة جاء مكتر كهل متردد يبالغ في المساومة، أدخلته الأرملة إلى حديقة بيتها، رأى المراهقة الفاتنة فغير رأيه.

إن درس فيلم “لوليتا” هو أن الحب في زمن الشيخوخة ذل. النصف الثاني من الفيلم استعراض بصري لهذا الذل الذي يحاول أن يبدو كمتعة. لا متعة في نكاح القاصر.

تجري أحداث فيلم “ميتال جاكيت” في بداية سبعينيات القرن العشرين. فيلم عاد فيه كوبريك لتناول الحرب باعتبارها النموذج الأعلى للشر البشري. في الفيلم يرد الأمريكيون على رصاصة فيتنامية واحدة بألف رصاصة. يبدو تدريب الجنود في الفيلم شبيها بالإهانات التي تلقاها كانديد الغبي في رواية فولتير. محاولات إذلال تولد رد فعل عنيف تسبب في موت الشخصية الرئيسة. بعد أربعين دقيقة ينتقل الجنود من قاعدة التداريب في أمريكا إلى ميدان الحرب في فيتنام. وهذا انتقال مكاني يوحي كأن فيلما جديدا قد بدأ.

يمثل فيلم “ميتال جاكيت” شبيبة مكرهة على التجنيد بدءا من جلسة حلق الشعر؛ بينما يمثل بطل فيلم “البرتقالة الميكانيكية” سوداوية شباب السبعينيات. أليكس شاب عنيف جدا يدفع من جسده ثمن أخطاء الماضي ويخضع للتدجين، وحين يقنعه الوزير بالوقوف إلى جانبه كدليل على نجاح التدجين يتصرف اليكس بحكمة ويصغي بأدب؛ إلا أن طريقة فتح فمه للأكل الساخرة تنسف ما سبق. أدرك البطل في النصف الثاني من الفيلم أن عليه تصنع البلاهة ليعيش بسلام وربما يأكل مجانا دون أن يعمل.

في فيلم “شاينين” يعتبر جاك (نيكلسون) أن طفله هو مصدر فشله الأدبي. لا يظهر السببان الحقيقيان للأزمة إلا تدريجيا، وهما أولا وضع جاك الاقتصادي الذي اضطره لقبول عمل صعب وثانيا عقمه الأدبي، لقد جفت موهبته. لم يعد جاك قادرا على الكتابة وقد جاء إلى مكان معزول علّه يكتب وكأن المشكلة في المكان.

في المكان الجديد كتب جاك جملة واحدة في خمس مائة صفحة، وعندما اكتشفت الزوجة ما كتب أدركت عمق أزمته وخطره عليها وعلى الطفل. لقد خلق كوبريك توترا ورعبا لثلاثة ممثلين في مكان قفر، نقطة قوته أنه يبدو كمتاهة. عندما أسير في بهو فندق كبير أتذكر مسار الطفل داني المرعوب.

في فيلم “عيون مغلقة على اتساعها” يعرض كوبريك أزمة الأسرة المعاصرة. نرى زوجة طبيب منزعجة لأن الطبيب يرى مريضاته عاريات.. تسأله هل تغريه صدورهن؟ يزعجها الشك بمن يمكن الوثوق؟ فيسألها أحدهم “أنت تظنين أن من ضمن جاذبيات الزواج جعل الخيانة ضرورية للطرفين؟”.

زوجة يحطمها الشك، تلتقي دبلوماسيا هنغاريا يلقنها فلسفة أفيد، يلومها لأنها تزوجت مع أنها جميلة تستطيع الحصول على أي رجل تشتهيه، ويؤكد أن النساء كن يتزوجن في القديم ليتخلصن من بكاراتهن فقط قبل عيش لحظات الحب الحقيقي..يبدو أن نيكول كيدمان طبقت النصيحة.

لم يعمل كوبريك على الماضي فقط، عمل أيضا على استشراف المستقبل كما في فيلم “أوديسا 2001”. وقد عرضت كاميرا المخرج أوديسا الفضاء بدل أوديسا الأرض وحقق سبقا خياليا مدويا عن اكتشاف الفضاء والإنسان الآلي. فيلم سبق الحدث وربط الماضي بالمستقبل من حركة قطع زمني عبرت أربعة ملايين سنة، إنها أذكى لقطة مونتاج.. أثناء اقتتال القردة على الطعام يكتشف أحدهم السلاح الكاسر للتوازن ويقتل الأعداء ويسيطر ويرمي بالعظمة السلاح في الفضاء وتقطع الزمن والمكان وتصير مركبة فضائية. هكذا أخذ المخرج متفرجيه في لقطة قطع ELIPSE واحدة تختزل تاريخ الإنسان وحلمه الذي توقع كوبريك تحققه وقد تحقق.

نختم هذه الاستعادة لمسار كوبريك بفيلم “نابليون” الذي لم ينجز.

عندما خطط كوبريك لفيلم عن نابليون نقب عن مصدر عظمة نابليون الذي لم تهتم به الأفلام السابقة. فكل الأفلام السابقة مجدت عبقريته الحربية بينما اختار كوبريك تناول سيرة نابليون من وجهة نظر خاصة به.

لتوفير أرضية لسيناريو يخدم وجهة النظر هذه اتصل كوبريك بالروائي أنتوني بيرغس في 1972 واقترح عليه تأليف رواية عن نابليون ليستند عليها سيناريو الفيلم. (الاستشهاد وما بعده من سيرة كوبريك التي ألفها Vincent LoBrutto ترجمها علام خضر وصدرت ضمن سلسلة الفن السابع عن وزارة الثقافة السورية. دمشق 2005).

يقول نابليون إن “سر الانتصار في الحرب يكمن في متانة خطوط الإمداد والاتصالات”. كان نابليون يعرف هذا ورغم ذلك ورطه الثلج في روسيا. جواب كوبريك في مشروع فيلمه لتفسير الهزيمة هي:

“نابليون لم يكن يعرف الثلج”.

ذات مرة صب الماء من إبريق ولم يخرج منه. تجمد الماء. كان نابليون متوسطيا من جنوب فرنسا لم يعرف الثلج ولم يضعه في إستراتيجيته. أثناء الهجوم على روسيا العنيدة لم تكن جياد نابليون تصلح للسير على الثلج لذا انهزم حين قطع الثلج طرق الإمدادات والعودة. للإشارة يستخدم الروس جيادا قصيرة بقوائم فطحاء لتسير في الثلج، جياد قزمة من نوع بوني. هذا هو المدخل الذي وضعه كوبريك لتفسير هزيمة الإمبراطور الذي كان كوبريك معجبا به لأنه سياسي كبير أطاح تماما بالإقطاع في أوروبا.

‫تعليقات الزوار

6
  • الطنز البنفسجي
    الإثنين 15 يوليوز 2019 - 02:25

    هاد الافلام شفتهم.. طبعا مشي كلهم.
    ولكن حنا غيييير متفرجين.. ماكاندخلوش لاعماق الافلام باش نفهمو المضمون..
    حنا كنعرفو غير الى كاين شي تفرشيخ.. الى كاين شي لحم ابيض متوسط.. الى كاين شي اكسيون.. الى كاين شي تكركير وصافي.
    حيت بصراحة عقدونا الافلام المغربية للي كانو كيديرو.. كتبقى تفرج ومافاهم والو وحتى كتبغي تفهم كتطلع الكتبة..
    انا بعدا عقدني فيلم ..جزيرة الشاكرباكربن..

  • جنون
    الإثنين 15 يوليوز 2019 - 03:06

    سبارتاكوس ونابوليون كانا مصابين بجنون العظمة وكوبريك مصاب بجنون الشهرة.

  • مغربي
    الإثنين 15 يوليوز 2019 - 09:30

    شكرا جزيلا على هذه القراءة لأحد عمالقة الفن السابع.لكن للأسف وكما ستلاحظ ستكون التعليقات على مقالتك منعدمة إن لم تكن هزيلة بعكس المقالات الأخري التي تتناول مواضيع سياسية أو اجتماعية تافهة لأن غالبية الشعب المغربي لم يصل إلى درجة من الوعي الثقافي حتى يهتم بمثل هذه المواضيع .

  • بلفارسي
    الإثنين 15 يوليوز 2019 - 11:42

    المخرج الذي أنقذ الإدارة الأمريكية من فضيحة النزول على سطح القمر في 1969 .

  • متتبع
    الإثنين 15 يوليوز 2019 - 12:18

    هدوك ما زال التاريخ يتكلم عنهم و يراهم كأبطال
    اما المنهزم فلا يرى الا الانهزام
    والفاشل لا يرى الا الفشل
    و اكمل من عندك

  • karim lmeknassi
    الإثنين 15 يوليوز 2019 - 17:53

    Stanley Kubrick a marqué le cinéma mondial, j'ai vu quelques un de ses chefs d'oeurvre qui te poussent à la reflexion, l'exemple d'Orange Mecanique qui ne te laisse pas indifferent (une violence psychologique que j'ai jamais sentie dans un autre film, le realisateur provoque le telespectateur).

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 7

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء

صوت وصورة
“أش كاين” تغني للأولمبيين
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:52 1

“أش كاين” تغني للأولمبيين