ثروة المغرب بين الحقيقة والوهم

ثروة المغرب بين الحقيقة والوهم
الإثنين 18 غشت 2014 - 16:32

في خطابه الأخير الموجه للأمة بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لتربعه على عرش أسلافه الميامين، أكد صاحب الجلالة على أنه :” سبق للبنك الدولي أن أنجز في 2005 و2010 دراستين لقياس الثروة الشاملة لحوالي 120 دولة، من بينها المغرب. وقد تم تصنيف بلادنا في المراتب الأولى على الصعيد الإفريقي، وبفارق كبير عن بعض دول المنطقة. غير أنني بعد الاطلاع على الأرقام والإحصائيات، التي تتضمنها هاتين الدراستين، والتي تبرز تطور ثروة المغرب، أتساءل باستغراب مع المغاربة : أين هي هذه الثروة وهل استفاد منها جميع المغاربة، أم أنها همت بعض الفئات فقط ؟ الجواب على هذه الأسئلة لا يتطلب تحليلا عميقا : إذا كان المغرب قد عرف تطورا ملموسا، فإن الواقع يؤكد أن هذه الثروة لا يستفيد منها جميع المواطنين. ذلك أنني ألاحظ، خلال جولاتي التفقدية، بعض مظاهر الفقر والهشاشة، وحدة الفوارق الاجتماعية بين المغاربة”.

فحديث الملك عن الثروة وعن مآلاتها ومدى استفادة المغاربة منها، لم يأت محض الصدفة، فقد جاءت نتيجة لعدة تراكمات أهمها الفوارق الاجتماعية الواضحة التي أصبحت ظاهرة للعيان، من بينها التشغيل والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية، أمور ساهمت بدون أدنى شك في ترسيخ وتعميق الفوارق الاجتماعية ما بين الطبقات والزيادة في حدتها، وأدت في نهاية المطاف إلى تكديس الثروات في يد الطبقة الغنية.

فالثروة “LA RICHESSE” كما يعلم الجميع تعني على مستوى الدولة جميع السلع والخدمات المنتجة من قبل الشركات والحكومات (مثل التعليم، والصحة)، وعلى المستوى الفردي، هي مرادف لوفرة الدخل المالي والممتلكات الذاتية. ولكنها لم تكن دائما على هذا النحو، فثروة بلد ما يتم قياسها عن طريق إجمالي الناتج المحلى (PIB) وهو مجموع السلع والخدمات المنتجة سنويا. ويمكن القول كذلك بأن مجتمعا ما ثري باعتبار التماسك الاجتماعي القوي أو مستوى التعليم والأمن الاجتماعي به، لكن في عصرنا الحالي أصبحت الثروة رؤية اقتصادية ومالية ومعرفية بحتة.

فالمغرب كما هو الشأن لباقي الدول السائرة في طريق النمو، عرف في السنوات الأخيرة تحولات وانتقالات تختلف حدتها وقوتها، حسب سياقاتها، حيث يعتبر من أهمها الدستور الجديد للملكة المغربية لسنة 2011، الذي يعتبر قفزة نوعية في مجال ترسيخ الحقوق والحريات وتوسيع مجالات الديمقراطية والحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، وأيضا ترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق الاجتماعية.

لكن، هذا الدستور الجديد بالرغم من مرور ما يزيد عن الثلاث سنوات على تطبيقه، مازالت العديد من الأوراش لم تعطى لها الأولوية ولم تحظى بالإهتمام اللازم من طرف المسؤولين، من أهمها الجهوية المتقدمة وربط المسؤولية بالمحاسبة، ومحاربة الفقر والهشاشة، والقضاء على التهميش، وتقليص الفوارق الاجتماعية الواسعة والبارزة بين طبقات المجتمع، التي تؤدي لتكديس رؤوس الأموال والثروات في جهة واحدة وفي طبقة واحدة.

فلا شك أن للثروة المادية قيمة جوهرية في حياة الشعوب خصوصا في ظل الحديث عن ارتفاع مستوى المعيشة وانخفاضها، وأثر الحياة الاقتصادية في وجود الأفراد والجماعات وفي وجود العالم بأسره، فالحياة الاقتصادية تعتبر موجهة لسياسة الدول، وهي التي تستغرق جهود الملايين من الناس بإنتاجها، وللحصول على لقمة العيش من طريق العمل في هذا الإنتاج.

في نفس السياق، فإنه لا يمكن الحديث عن ثروة مادية وتغييب الثروة الإنسانية، فقد اعتمدت الدول المتقدمة في نهضتها العلمية والعملية على هذه الثروة البشرية، فوجهت جل استثماراتها نحو تنمية هذه الثروة البشرية وتمكينها، من أدوات ووسائل العلم النظري، والتطبيق العملي المتقدم، وهدفت من وراء ذلك إلى رفع كفاءتها وتميزها، وهو ما تم بالفعل، فقد حققت هذه الدول هدفها، والواقع خير دليل على ذلك.

ففي إنجلترا مثلا، يعتبر ليونارد سبنسر تشرتشل رئيس وزراء المملكة المتحدة من العام 1940 وحتى العام 1945 أول من تمنحه الولايات المتحدة وسام المواطنة الفخرية، وقبل ذلك مُنح تشرتشل جائزة نوبل في الآداب، مع أنه لم يكن لتشرشل أي إنتاج مادي، بل كان كل إنتاجه إنسانيا محضا، من عقله وأسلوبه في الكتابة، لذلك فهو يعتبر في انجلترا ثروة إنسانية أفاد منها إنجلترا وأفاد منها الأدب الإنجليزي والثقافة الإنجليزية.

وكذلك في الهند، فمن بين رموزها الغير منسية نجد اسما معروفا هو المهاتما غاندي، تؤمن به بعد موته كما كانت تؤمن به في حياته، ولم يكن غاندي من عناصر الثروة الاقتصادية في الهند، بل كان إنسانيًّا بحتًا، فقد أثر وبشكل كبير في الثروة الإنسانية لهذا البلد ما جعل الهند تسمو به إلى مثل مقام براهما وبوذا وأمثالهما ممن يشكلون أسس الإيمان لدى أفراد هذا البلد، فالهند تعتز إلى غاية يومنا هذا بالثروة المعنوية الهائلة التي شكلها غاندي دون أن يحتاج إلى أي عنصر غير إنساني.

فالعلماء أرباب هذه الثروة الإنسانية الذين اكتشفوا العديد من الأساسيات التي أقامت حضارات العالم هم أصحاب الفضل في إقامة الحضارة المادية التي ينعم العالم اليوم بها، كاكتشاف قوة الكهرباء، ثم القوة الذرية، هؤلاء العلماء لم يحتاجوا إلى غير عنصرهم الإنساني في هذه الاكتشافات، وهم مع ذلك الذين أتاحوا لِمَنْ يلونهم من أرباب التفكير العملي في الصناعة أن يضعوا هذه القوى في خدمة الإنسان، وأن يُيسِّروا له المتاع بآثارها، وأن ينقلوا الإنسانية على القرون من كهوفها الأولى إلى الصروح التي يعيش الأكثرون فيها، وهم الذين أنشَئُوا من مظاهر الفن ما تهوى إليه النفوس وتطمئن له القلوب.

لهذا تُعنَى الشعوب والأمم بجامعاتها ومعاهدها العلمية والفنية، ولا يفكر أحد في الأمم المتحضرة في تحديد عدد المتعلمين بحجة أن المتعلم الذي لا يجد عملًا يندفع إلى طريق غير سليم، أَمَا والأمر كذلك فجدير بالمسئولين عندنا عن التعليم الجامعي وعن سائر المعاهد العلمية والفنية أن يوجِّهوا إلى هذا الأمر الخطير في حياة الأمة وفي مستقبلها جُلَّ عنايتهم لتستطيع أن تنهض بعبء الحضارة، ولتتعاون مع غيرها من الأمم لزيادة الثروة الإنسانية والثروة المادية في العالم كله.

لذلك فالثروة الإنسانية تلعب دورا جد مهم في بناء الحضارات وبناء الأمم وبناء الثروة، الأمة الواعية العارفة التي ترتكز على العلم والعلوم في بناء حضاراتها وفي تكوين أبنائها لاشك في أنها تتربع على عرش التقارير العالمية سواء التي تصنف الدول على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو العلمي، لذلك على المغرب أن يحدوا حدوا الدول المتقدمة في هذا المجال، وذلك بإعطاء المجال العلمي مصدر الصدارة في أي سياساتها المستقبلية، سواء عن طريق الرفع من القيمة المالية المرصودة للبحث العلمي أو عن طريق بناء مؤسسات تعنى بالبحث العلمي والتقني والمعلومياتي والفني، حتى ترقى لمصاف الدول المتقدمة والمتطورة، لأن التكوين العلمي الجاد للثروة البشرية وللمورد البشري هو الذي ينتج الثروة المادية وليس العكس، فمن غير المعقول أن عاهل البلاد يتحدث عن تقوية وتعزيز البحث العلمي ببلادنا، في حين أن الواقع هو خلاف ذلك، فقد خصص على سبيل المثال في سنة 2013 لجامعة محمد الخامس أكدال وبالضبط لأحد المختبرات ميزانية حددت في أقل من 35.000 درهم، فعن أي بحث علمي نتحدث وعن أي ثروة إنسانية نتكلم في ظل هذه الميزانيات التي لا ترقى حتى لمستوى التطلعات، أرقام تحمل في طياتها العديد من التساؤلات حول واقع ومستقبل البحث العلمي والثروة الإنسانية ببلادنا.

من هذا كله فعلى أصحاب الأموال والثروات، أن يساهموا بشكل جدي ومسؤول بالإنخراط في مسلسل التنمية المنشودة بببلادنا، وذلك من خلال المساهمة في بناء وتمويل المختبرات العلمية، وأيضا خلق نموذج خلاق من التعاون ما بين أصحاب الثروات وما بين الجامعات المغربية، والمساهمة في التكاليف العمومية من خلال تضريب أصحاب الثروات والأموال، كل هذا في سبيل الرقي بالبحث العلمي ببلادنا، وتعزيز أواصر التلاحم والاستقرار بين كل مكونات الجسم المغربي في ظل الحكامة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس.

*باحث جامعي في العلوم والتقنيات الضريبية

‫تعليقات الزوار

8
  • abdo
    الإثنين 18 غشت 2014 - 23:31

    مشكور الأخ يونس على هدا العمل الجيد ،ونجدعوا لك بالمزيد انشاء الله

  • yassin
    الإثنين 18 غشت 2014 - 23:34

    لقد وفقت وبشكل كبير في تحديد مفهوم الثروة الحقيقية الكامنة في الثروة الإنسانية، لأن هذه الأخيرة هي التي تنتج لنا الثروات الأخرى، لهذا فيجب الإهتمام بها أشد إهتمام حتى ترقى لما هو مأمول ولما هو مطلوب، لكن واقعنا المغربي يظل بعيدا كل البعد عن الوصول بالثروة البشرية لمصاف الدول المتقدمة وواقع جامعاتنا خير دليل على ذلك، شكرا لك على هذا المقال الجميل، مسيرة موفقة

  • arsad
    الثلاثاء 19 غشت 2014 - 01:24

    في صميم الحقائق لا نحتاج الى تسائلات اعجازية فارغة وانما يكون تسائلنا حينها عبارة عن محاولة تبرئة الدمة فالمواطن الخمسيني حتى لو كان عاميا يذرك ما يعانيه محيطه ومجتمعه ويذرك اسباب معناته ويبقى السؤال قديما جديدا في كل مراحل حياته فالاوراش المدرة قد انطلقت مند ولادة الخمسيني ولازال حاله هوحال يتجدد حوله نفس السؤال فاهاهو البحر امامنا قد شفطت رماله بعد اسماكه فهل اكل المغاربة السمك ونفس السؤال يطرح على مملكة الفسفاط وكهوف المعادن التي لم نرى منها غير اسر مكلومة وبيئة ملوثة واسراب ايتام لابناء عمال المناجم والبحار وغيرهم بسب وضع صحي لا يليق حتى بتطبيب الحيونات نحن لا نحتاج الى اسئلة لاننا نعلم ماالداء الذي ينخر مجتمعنا ونعلم جيدا نواقصنا وعيوب مركباتنا ومركبتنا اذا السؤال عبارة عن رماد اوربما حائط او مايشبه ذلك والحقيقة اننا لا نحتاج لسؤال اين وكيف ولمذا وخصتا عندما يكون الجواب في وعند علم السائل .

  • خ/*محمد
    الثلاثاء 19 غشت 2014 - 01:29

    اولا يجب فصل السلطة عن الثروة *
    ما تذهب إليه الجمعيات الحقوقية والثقافية . وجميع التنظيمات غير الرسمية من أن الشعب المغربي لازال عليه أن يناضل من أجل تقرير مصيره الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي .حتى تصبح سيادته على نفسه مضمونة .
    هل اختار الشعب المغربي رهن اقتصاده الوطني بالنظام الرأسمالي العالمي ؟
    هل اختار أن يبقى الاقتصاد الوطني في خدمة الدين الخارجي ؟
    هل اختار تجميع الثروة الوطنية في يد قلة قليلة لا تتجاوز في أحسن الأحوال 10% من مجموع أفراد شعب المغرب؟
    هل اختار أن يخرج معظم أبنائه من الاستفادة الثروة الوطنية ؟ هل اختار هل اختار حرمان خريجي المدارس والجامعات من العمل، والحصول على دخل محترم يغنيهم عن مد اليد إلى الأهل؟

  • أحمد
    الثلاثاء 19 غشت 2014 - 14:35

    يعتبر من ضمن أحسن المواضيع التي تنير جريدة هسبريس، موضوع أنيق كصاحب الصورة، مزيد من الإزدهار والرقي والعطاء العلمي

  • وجهة نظر
    الثلاثاء 19 غشت 2014 - 20:12

    صناعة الثروة وعدالة التوزيع
    اعتقد أن الثروة المادية والرمزية تصنعها الشعوب بوعيها المتقظ وطموحها المبدع وإصرارها على التميز والريادة. أما عدالة توزيعها فتتوقف على مدى استيعاب الشعوب وحكامها لدرس الديمقراطية وقيمة الإنسان.
    "الإنسان هو الثروة الحقيقية"

  • ahmed
    الأربعاء 20 غشت 2014 - 16:22

    الغنى الحقيقي للمغرب في ابناءه كما يقول اشهار الاحصاء في الثامنة
    "Atig n tmazight ngh rimzdagh nss"
    بمعنى ثروة بلدنا في ساكنتها غير ان حكامنا يعتبرون ان مصيبة بلدنا في ساكنتها

  • صالح مظيجي
    الإثنين 25 غشت 2014 - 12:20

    شكرا على هذا الموضوع ،والذي له دلالات متنوعة في إصلاح العباد والبلاد والحفاظ على القيم الوطنية الحقيقية لهذا البلد ، بوابة القارات الخمس ، وشكرا

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات