التغيير بين التمكين والتمكن

التغيير بين التمكين والتمكن
الأربعاء 27 غشت 2014 - 15:42

التأصيل المفاهيمي

إذا كانت حالات التدين تحتاج إلى الإصلاح فإن المفاهيم تحتاج إلى التصحيح، فتحديد المصطلح و تقنين التأويل مقصد أصولي، بل إن تأسيس علم الأصول كان نتيجة للعلاقة بين ” المشكل السياسي “و ” الفهم الديني”، ف”الحكم على الشيء جزء من تصوره “، و لا دراسة علمية دون تحديد للمفاهيم، و لكل مفهوم ” ما صدق” يفهم من السياق، وهناك المفاهيم التي تهاجر عبر الأنسقة، و المفاهيم التي قد تغير دلالاتها عبر التاريخ.

إن “المفاهيمية “، أو التأصيل المفهومي، آلية في التدافع الحضاري، حوارية واقعية، و جزء من رؤية الإنسان ومن فاعليته في الواقع، يحدد آليات اشتغاله ويمكنه من بلورة مشروعه التغييري وتوفير شروطه الذاتية والموضوعية.

إن “المفاهيمية ” تمنح قوة للفكر، وتوسع من الدوائر والأدوار، وتصب في إيقاع ثقافة الأمة عامة، من خلال مرجعيتها، وبما أن المفهوم نتيجة لسلوك وتصور ومنهج، فإن غياب عناصر المرجعية يجعله مفهوما فاقدا للحرارة والحركة والأثر، وقد يكون مآله صادما للآخر.

إن وحدة المجتمع وانسجامه تتجلى في علاقاته بالمفاهيم التي يتداولها، مفاهيم تكون ثقافته الخاصة، فتمكنه من وحدة التصور ووحدة الحركة، فيتم التوجه نحو الهدف والمواقف الفكرية البانية والمؤسسة باتجاه سليم ومتراكم.

إن الحس المفهومي كآلية للتعبير والتغيير الفردي يدفع إلى الاجتهاد داخل المنظومة العامة للتصور المنطلق منه، وتصبح الذات متناغمة ومنسجمة مع “المفاهيم الإلاهية” الشرعية التي تحرك الكون، خاصة عندما تكون مبنية على مصدر القرآن والسنة.

بين التمكين و التمكن:

تتحدد دلالات التمكين في النص القرآني بمعاني مختلفة، فهو يفيد مرة القوة والسلطان وسعة الرزق والنفوذ (الم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مَكناهم في الأرض ما لم نُمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا )) الأنعام الآية 6

و مرة بمعنى التسخيـر والعمران (( ولقد مَكناكم في الأرض وجعلـنا لكـــم فيها معايش قليلاُ ما تشكرون)) الأعراف الآية10

أو بمعنى علو المكانة والمركز((وكذلك مَكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث)) يوسف الآية 21

أو نفاذ القول و الائتمان (إنك اليوم لدينا مَكيـن أميـن ))يوسف الاية54، أو الثبات و قوة المركز ((وكذلك مَكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ))سورة يوسف الآية 56

و قد يعني الإدراك و المعرفة و المال و القوة، (ولقد مَكناهم فيما إن مَكناكم فيه وجعلنا

لهم سمعاً وإبصاراً وأفئدةً ) الأحقاف الآية 26

و قد يعني النصر و الفوز على الطغيان (ونُمكنُّ لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) الآية 6 القصص,

و الملاحظ أن الآيات المذكورة كلها تحمل الفعل ” مكناهم ” ” مكناكم “لم نمكن” “مكنا” مرتين “و نمكن لهم” ثم صيغة الصفة المشبهة ” مكين “.

فالتمكين مصدر مَكَّنَ ، سَعى إلَى تَمْكِينِهِ مِنَ النَّجَاحِ : جَعْلُهُ مُتَمَكِّناً مِنَ النَّجَاحِ، و في القانون، تمكين المستأجر من العين المؤجَّرة : تخويله السّلطة عليها إمّا بالإقامة فيها أو باستغلالها، و في الصرف و النحو، تنوين التَّمكين هو الذي يلحق الأسماء المتمكِّنة في الاسميَّة ، أي : غير المبنيَّة وغير الممنوعة من الصرف.

إن التمكين قوة خارجية تساعد على التمكن و هي في قدر الله، عوامل مساعدة، سياق تاريخي، وضع دولي …

أما التَمَكُّن ف مصدر تَمَكَّنَ، و التَّمَكُّنُ مِنْ أمْرٍ مَّا هو القُدْرَةُ عَلَيْهِ، و تَمَكُّنُ الْحَاكِمِ أي حصوله على مَنْزِلَةٍ وَمَكَانَةٍ، و تمَكُّنُ الرَّجُلِ بِالبِلاَدِ: اِسْتِقْرَارُهُ بِهَا.

إذا فالتمكن حركة ذاتية فاعلة توفرت فيها شروط التمكين، فلا يمكن أن تمكن غير المتمكن، ف”لا تمكين إلا بمقدور”، و لا يصح التكليف إلا مع التمكين و القدرة و الاستطاعة شروط نسعى إلى تحقيقها و ليست قضايا انتظارية، و التغيير بدون قدرة يؤدي إلى الفشل و يوهن العزائم.

إن التمكين قدرة لفعل الشيء و إقدار عليه، أما التمكن هو قدرة على فعل الشيء، التمكين مؤهلات بينما التمكن قوة و إرادة، فلا يوجد إنسان لا يقدر على شيء، بل إنسان لا يريد فعل الشيء، و هي معادلة ” القدرة و الإرادة ” “فحين نريد نقدر “، فالقدرة ضد العجز و التمكن ضد التعذر كما تشير الفروق اللغوية، فقد تكون لك القدرة على التغيير لكن النسق و الواقع لا يسمح لك بذلك، حين ذاك لن تتمكن، و ذلك بيت القصيد و سر النقاش.

إذا التفاعل بين التمكين و التمكن ضروري و شرط للاستحقاق الإصلاحي، هو قانون الفعل بين الذات و الموضوع، و أقول استحقاق لأن الإصلاح ليس رغبة ذاتية بل شروط و إمكانات لابد من تحصيلها.

أما صيغة مَكين فجمعها ، مُكَنَاءُ و هي صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من مكُنَ أي ذو منزلة ورفعة شأن، و مكين أي قويّ ، متين ، ثابت لا يتزحزح عن موضعه { أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } ، أي حصين محميّ .

و فعل مكين هو مكُنَ يمكُن، مكانةً، مكُن الرَّجلُ عند النَّاس: صَارَ ذَا مَنْزِلَةٍ وَرِفْعَةٍ وشَأْنٍ، مَكُنَ البِنَاءُ: صَارَ قَوِيّاً.

إذا بالتمكين تصبح متمكنا فتأخذ صفة المكين، فيوسف عليه السلام لم يأخذ هذا الاستحقاق إلا بعد المحنة و التمحيص و التأمل في الواقع و الدراسة في السجن و تغيير “السياق” المؤثر في “النسق”، فإذا كان التمكين هو الإقدار، فالتمكن هو رفع الموانع ، و إذا كان التمكين هو الدوافع والأسباب فإن التمكن هو ما لا يصح الفعل إلا به و لا يحصل إلا معه .

الفقه الواقعي برزخ بين التمكين و التمكن:

إن البرزخية، هي “ثقافة المعية “، قوامها “الإضافية “، و هو مفهوم علائقي نبحث فيه عن الإضافات الجوهرية، عن البرازخ في فكرنا و ثقافتنا بعيدا عن الثنائيات المتخاصمة.

إن البرزخية هي العلاقة بين الفعل و الانفعال، يصبح المنفعل فاعلا و العكس، فلا إقصاء للغيرية، بل حوارية وجودية و حضارية، احتفاء بالبينية و الوسطية ، أداة فصل و وصل، أداة حفظ للاختلاف الأنطلوجي.

هذه البرزخية هي التي تمنحنا فقها بالواقع يمكن من استخلاص القوانين القدرية المحددة

لحركة الواقع و اتجاهه، يقول ابن القيم الجوزية : ( لا يتمكن المفتي و لا الحاكم من الفتوى و الحكم إلا بنوعين من الفهم: أحدهما، فهم الواقع و الفقه فيه و استنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن و الأمارات و العلامات حتى يحيط بها علما .

و النوع الثاني، فهم الواجب في الواقع و هو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق احدهما على الآخر، فمن بذل جهده و استفرغ وسعه في ذلك لم عدم أجرين او أجرا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع و التفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله) أعلام الموقعين ج1 ص69

إن التمكين الواقعي، أو ما يمكن أن نسميه ” معرفة الناس”و الأحوال و القرائن، أصل أساسي في الفقه الواقعي لمعرفة المكر و الخداع و الاحتيال و العوائد و العرفيات، فالفتوى تتغير بتغير الأحوال، و الحكم التكليفي لا يكون حكما شرعيا إلا إذا ارتبط بالحكم الوضعي المتعلق بالشروط و الأسباب و الموانع.

إن معرفة الواقع كخبرة لا أخبار،أصل في حكمة الدعوة، والحكمة هي حاسة الصواب الكامنة في إحساس الداعية، محددة له في الواقع سبيل الوصول إلى غاياته، فواقع الناس مخالف لما يدرس في الكتب، فالحكمة هي سياسة الفرد و السياسة هي حكمة الجماعة في الواقع.

‫تعليقات الزوار

1
  • الأستلاب الفقهي
    الخميس 28 غشت 2014 - 22:48

    ماهده اللهوتيات ،والكلأميات والتفيقهيات .التغيير ،التمكن والتمكين ،عالم الدلالات ،أنبياء وآيات ،علم وعلم العلم فقه حوار وبرزخ ،دين وسياسة ،عبتا تحاولون ،الفقه مند عشرة قرون وهو في غرفة الإنعاش المعرفي ،بل اصبح الخوض فيه كالسباحة في الماء الموحل والاسن ،فلا نظريات ولا مناهج ،فقط قياسات وأبواب فلو كان الفقه دواء ،لا عالج وآشفى داته قبل غيره ،فهل أصبحتم مستلبون فقهيا ?كن مسلم سعائر ،فهي بسيطة واضحة لا تحتاج الى مترجم او منظر او عالم ، ولا تصاحب ابدا فقيها يخوض في الالاهيات، يخرجك عن الشعائر الى مواضيع ثقافته الاسلامية الداتية وتأويلاته للاحدات ،ببضعة آيات ،متغيرات وفق الأحوال والسياقات ،حتى ولو شهدت له الناس بالعرفان والمعرفة ومن جاكرتا الى الأرجنتين ،ان فقهائنا اصبح يحق عليهم التوصيف السلبي على انهم مشحنين ومهيجين يعملون على تعقيد علاقة الناس بالواقع ،فهل هدا هو دين الفطرة ? والتوافق بين الانسان وواقعه ?

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 6

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08 4

بيع العقار في طور الإنجاز

صوت وصورة
مستفيدة من تأمين الرحمة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:35

مستفيدة من تأمين الرحمة

صوت وصورة
مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:28 8

مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير

صوت وصورة
تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس
الإثنين 15 أبريل 2024 - 15:55

تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس