مقاربة تاريخية لآثار العدل في إقامة العمران
كتاب ” مشاريع إصلاح القضاء بالغرب الإسلامي ” للمؤرخين: د محمد البركة و د سعيد بنحمادة يبين معالم محاولات الإصلاح للفقهاء و العلماء خلال العصر الوسيط بالغرب الإسلامي، عبر رسائل مستقلة أو مضامين مؤلفاتهم، و يعبر عن وعي بأهمية القضاء في سير المجتمعات و استقرار الدول.
لقد كان القضاء في تاريخ الغرب الإسلامي وسيلة لتحقيق الأمن و حفظ العدل و إقامة العمران، و كانت تجارب العلماء و الفقهاء استجابة للواقع و وعيا بسياقه، وضبطا لمناطه.
و قد بلغ نظام القضاء نضجا ميز بين الفتوى و الحسبة و أنواع أخرى من المهن القضائية.
و ارتبطت مشاريع الإصلاح بالسياق و الزمان، مرة تحقيقا للعمران و مرة حفظا للمذهب، متتبعة آثار الإطار المرجعي للفقه الإسلامي على الناس، فمعرفة تفاصيل المذهب المالكي هو مفتاح لفهم قضايا المجتمع المغربي و تطوره، و هذا أمر يرتبط باجتهاد القضاة في إصدار الأحكام أو تنفيذها، و تجاوز الحسابات السياسية الضيقة.
و من الآفاق التي يطرحها الكتاب ضرورة إقامة حفريات معرفية بالتراث القضائي بالغرب الإسلامي بين ثنايا كتب الفقه و الأقضية و النوازل، بحثا عن الآليات التصورية و التقنية و بسطا لخصوصياته تحقيقا للرؤية الإصلاحية الأمثل.
فالمقاربة التاريخية لها مشروعيتها لحل القضايا المجتمعية المعاصرة، و التأريخ لسير المجتمعات، و التحسيس بقيمة العدل في حماية الحضارة و بقاء العمران، و إصلاح القضاء مهمة يشترك فيها الفقيه و القاضي و السياسي.
القضاء بين الفصل و نفوذ الفصل:
يقول ابن خلدون: ( و أما القضاء فهو منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسما للتداعي و قطعا للتنازع )المقدمة 2.627. فالقاضي له صفة الفصل وصفة نفوذ الفصل، أي له حكم و نفوذ حكم، دون اعتبار لرضا الأطراف، فهو يخبر بالحكم على وجه الإلزام اقتناعا لا إملاء.
و اللجوء إلى القضاء لجوء إلى العدل الإلهي و تحقيق له، لذلك كان القاضي من بين ( الحكام الذين تجري على أيديهم الأحكام )، و ترتبط به ” مهن العدالة ” كولاية الشرطة و ولاية المظالم و الحسبة و ولاية العقود و ولاية التحكيم المرتبطة بالقضايا المالية، و ولاية جباية الصدقة المرتبطة بالأحكام الخاصة بالزكاة، و ولاية الخرص التي تهتم بتقدير الثمار و ولاية صرف النفقات و ولاية القسم والكتب و الترجمة ثم ولاية الجرائم، و يستعين القضاة بالأطباء لإجراء الخبرات المتعلقة بتحديد بعض العيوب.
و قد عرفت تجربة القضاء في الغرب الإسلامي تعددا في المهن فرضت اجتهادا قضائيا أي التمييز بين ” فقه القضاء” كمجال أعم، و ” علم القضاء” أي البحث في كيفية التنزيل على النوازل الواقعية، و هذا ما يجعل سلطات القضاة مرتبطة بالسياسة العامة و أعراف البلد.
الإطار التاريخي لإصلاح القضاء بالغرب الإسلامي:
كل محاولات الإصلاح القضائي لم تخرج عن موافقة أحكام الشريعة، فالدولة المرابطية قامت على أساس فقهي و إصلاحي و اهتمت بالجانب القضائي، فقد ذكر عن علي بن يوسف بن تاشفين أنه كان لا يقطع أمرا دون مشاورة الفقهاء و كان يشترط على قضاته مرافقة أربعة منهم، و كان ظهير تعيين القاضي يحدد المعالم الكبرى للسياسة القضائية التي تتوخى نشر العدالة الاجتماعية، و تؤكد على استقلالية القضاء.
و تنوعت سلطات القضاة لدى المرابطين بإشرافهم على العديد من الخطط الدينية، كخطة الشورى و الفتيا و الأحكام و الصلاة و الخطبة، و كان ” طابع القاضي” من أهم الضمانات التي تثبت صدق الأحكام القضائية، أحكام تقوم على المذهب المالكي.
أما في العهد الموحدي فقد استند القضاء إلى مذهب المهدي بن تومرت الذي جعل الخليفة مصدر الأحكام و المفسر المرجعي للقرآن و السنة، و ارتكاز الحكم على الخريطة القضائية وفق المذهب المالكي، مع بعض النفحات الظاهرية لبعض القضاة، و قد جمع بعضهم بين التوثيق و الأحكام و الخطبة و الصلاة بالمسجد الجامع، و منهم من جمع بين الحسبة والشرطة، و قد وسعت صلاحيات القاضي في عهد يعقوب المنصور لتشمل مراقبة شؤون الولايات.
و قد كان المرينيون سباقين لنظام الحكامة في تدبير شؤون الدولة ارتكازا على القضاء، و قد كان القاضي مستشارا لبني مرين، و كان القاضي يجرح العدول كوظيفة قضائية، و كانت المجالس القضائية تعقد أحيانا بالمساجد، و كان السلاطين يترأسون ولاية المظالم، و الفصل في الشكاوى يتم بحضور قاضي العاصمة، و للجيش قضاء خاص، و وظفت مؤهلات بعض القضاة لخدمة العلاقات الخارجية للدولة.
بعض مشاريع إصلاح القضاء:
شكل القضاء أهم دعامات دول الغرب الإسلامي، و كان موضع تفكير و إصلاح يواكب التغيرات الاجتماعية مما أفرز مشاريع إصلاحية زاوجت بين الأحكام النظرية و” فقه الواقع”، منها رسالة أبي الوليد بن رشد المالكي الذي أصل شرعية القضاء و حدد جسامة مسؤوليته و الوعي بتفاصيله، و حقوق و واجبات القاضي، و شروط تنصيب القضاة.
و كان مطلب العدل لدى ابن رشد مرتكزا على وعي فقهي و تاريخي بظروف الأندلس و مرحلة ملوك الطوائف، و ممارسته للقضاء مكنه من الاجتهاد في المسطرة القضائية و تسهيل الخدمات.
و من رسائل إصلاح القضاء رسالة عبد الرحمان بن خلدون المرتبطة بمفهوم العمران كضرورة بشرية تحدد حاجة الإنسان إلى الاجتماع المفتوح على التنازع، و القضاء هو المانع من ذلك، بل يعتبر الباعث إلى السعي أو التقاعس عن الكسب، فهو ضامن للعمران، فعلى قدر الاعتداء يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فالظلم يقبض جهد الإنسان و يؤذن بخراب العمران، و الظلم لا يتصور إلا من أصحاب القوة، و القوي بذاته لا يستطيع أن يمارس الظلم لوجود قوة أقوى من قوته، لذلك كانت الحاجة إلى القاضي المستقل عن تدخل الدولة و أعوانها.
إنها نظرة المتأمل في أحوال الحضارات و أفولها، الذي عايش مكايد السياسة و أمراض القضاء التي تفسد العمران، من هنا ضرورة إصلاح القضاء لإنقاذه، أي رصد العلاقة بين الأمن القضائي و الأمن العمراني، فالعدل أساس القضاء، و القضاء أساس العمران، و فساد القضاء أعظم من فساد الأخلاق، و عدل القضاء مصوب و مقوم لاعوجاج الأخلاق.
ومن الرسائل الأخرى التي أشار إليها كتاب الدكتورين محمد البركة و سعيد بنحمادة، رسالة ابن عبدون التجيبي المتوفى سنة 527 ه 1132م، و رسالة أبي عبد الله بن المناصف المتوفى سنة 620ه 1223م، و رسالة أبي الحسن علي الرجراجي المتوفى سنة 633ه 1235م ، ثم رسالة أبي الحسن النباهي المتوفى سنة 793ه 1390م.
أما بعد، فإن التراث القضائي بالغرب الإسلامي يحتاج إلى حفريات معرفية معمقة، و هذا يستجيب للنقاش الحاصل حاليا في المغرب حول إصلاح القضاء، و ضرورة البحث في عمق التاريخ لرصد التفاصيل القضائية تصورا و ممارسة، بحثا عن الرؤية الإصلاحية الأمثل، و دعم كل محاولة تسعى إلى ذلك، و دور المؤرخ مهما في تقديم النماذج الإصلاحية و المعرفة التاريخية كمقاربة، ضمن مقاربات أخرى لحل القضايا المجتمعية المعاصرة في إطار نقاش عمومي مفتوح.
