المدينة الفاضلة

المدينة الفاضلة
الأربعاء 10 فبراير 2016 - 15:19

مذكرات كاتب فاشل.. -17- المدينة الفاضلة

ترعرعت بمدينة صغيرة جدا، اختلف جل الباحثين في فك لغز إسمها العجيب” قلعة السراغنة” لكن أهلها الذين يبحثون عن المجد وعبق التاريخ يحاولون جاهدين بشرحها ” بسر الغنا” من الغنى طبعا وليس الغناء، لكن الذين يحاولون التنقيص من ساكنتها وإرجاعهم إلى حياة البداوة والتخلف يحاولون شرحها ” بتسرغينت” وهي نبتة مثل الزقوم وهي جد مرة كالعلقم . وللتوضيح فالصراع بين القبائل كان حاضرا بقوة في تاريخ المغرب ولاينطبق على منطقة دون أخرى، وهو يعد من العوامل الرئيسية التي تغدي هذا التراشق في الألقاب. وهو جاء نتيجة لضعف السلطة المركزية و محاولة تحكم بعض القبائل التي كانت تقود نفسها بنفسها في استغلال موارد الجيران. إنها لعنة ما اصطلح عليه المؤرخون بالسيبة ومايدور في فلكها.

وقد يتفق معي الكثير، أن كل منطقة بالمغرب يحاولون إلصاق صفة قدحية بأهلها وبجغرافيتها، وأصبحت مع مرور الوقت تنعث بكذا وكذا… لست مختصا في تاريخ المدن، فهذا عمل المؤرخ ليقربنا جيدا من هذه النعوث كما لايمكنني أن أذكر بعض النكث التي ارتبطت ببعض المناطق حتى لا أتهم بالعنصري وموقظ الفتنة وقليل الحياء. يكفي أن تزور أحد حلقات الأسواق بالمغرب لتسمع ملاحم تستحق أن تنقل إلى السينما أو إحدى الروايات التاريخية.

والحقيقة كنت في كل لقاء أحضره في إحدى الندوات يكون موضوعها ” تاريخ المدينة ” كنت أطالب وألح على ضرورة تدريس التاريخ المحلي لكل منطقة، فلا يعقل أن ندرس تاريخ المغرب المخزني بمعزل عن تاريخ المدن، ومن العار أن نجد أبناء المنطقة الواحدة يعرفون تاريخ الدول و الأسر الحاكمة في تاريخ المغرب ولا يعرفون تاريخ منطقتهم ، وقد تسأل شباب المنطقة عن جزء صغير من تاريخهم فيفاجأ بالسؤال ويبدأ يحرك رأسه كفرس صغير ضاع من أمه.

المهم، أن المدينة لها جذور تاريخية وهذا ليس رأيي، فقد أشار إلى ذلك العديد من الباحثين، وأشهرهم الحسن بن محمد الوزاني الملقب ب ليون الإفريقي ذكرها في كتابه الذائع الصيت : ” وصف افريقيا ” عندما كان ذاهبا إلى مراكش ووصفها بالأرض الخضراء والمشتعلة بالورود والأزهار من كل جانب ، فقد صورها كأنها جنة لما كانت تحبل به من منابع المياه بكل أرجائها . فهي مدينة الماء. وفعلا هذا ما حكاه لي أبي والعديد من الرجال ذوو معرفة بتاريخ المنطقة، لكن لم أكن أثق بهم لأنني أعرف جيدا فانتازيا وكذب التاريخ الشفوي وتحريفه للوقائع والأحداث من أجل توظيفه في الصراعات الإثنية بين القبائل. إنه مرهم رطب لتجميل وجوه المناطق الخشنة. والمشهور لدى الجميع أنها قلعة من قلع مولاي إسماعيل وقد تم إحداثها من اجل حماية قوافل المخزن من هجومات القبائل.

بدوره الباحث “جون بغيريي” في كتابه ” المجال الحضري المكون لتنسيفت الحوز” والصادر سنة 1981 وهو عبارة عن دراسة سوسيولوجية حديثة شملت هذه الجهة ومنها مدينة قلعة السراغنة والتي اعتبرها “مدينة تحولت إلى دائرة إدارية يسمح بظهور سلطة إدارية” . وهذا هو بيت القصيد، عندما يتم التحول فقط إداري ولا يواكبه تحول معرفي وثقافي.

مناسبة هذا القول هو أنني كواحد من أبناء المدينة نشأت في وسط محافظ التحقت بالكتاب وإنا لا أتجاوز من العمر ثلاث سنوات بعد ذلك التحقت بالمدرسة وأنا حافظ ماتيسر من القرآن الكريم، وللإشارة فالمدينة تعرف ” بمدينة القرآن ” لأن أغلب العلماء وهم كثر، اشتهروا جميعا بحفظهم وشرحهم للقرآن ولهذا فلا يبدو غريبا أنه لازالت إلى حدود اليوم العديد من المدارس القرآنية والتي يلتحق بها الطلبة من مختلف المدن المغربية وهناك من التحق بها من افريقيا والدول العربية. إنها في الحقيقة مخزون كبير من حفظة القرآن.

ولازلت أتذكر يوم انتقلت إلى الدراسة بالقسم الإعدادي والذي كان بالفعل مختلفا، فكل أيام الأسبوع كانت تعرف فورة من الإضربات والشعارات وكنت لأول مرة اخرج مع التلاميذ للاحتجاج وأقوم بتكسير زجاج الأقسام وأرفع شعارات كبيرة لم أفهم مغزاها حينئذ، كانت بالنسبة لنا كنوع من التسلية وإثبات الذات. كان الكبار يصنعون الفرجة ونحن من نقوم بالتمثيل . إنها في آخر المطاف لعبة كباقي الألعاب المدرسية ، هذا هو الاعتقاد السائد، لكن مع بداية الأسبوع تبدأ تتداول الأخبار بأن السلطة قامت باعتقالات واسعة في صفوف التلاميذ المشاغبين ولكن لم أكن اعرف لماذا كان يتم انتقاءهم بشكل جيد ؟ تذكرني هذه الطريقة بلعبة الراعي والغنم، فكلما تجرأ واحد من الخرفان وخرج عن تجمع القطيع تم نقله وضرب عنقه على المقصلة. إنها في النهاية لعبة الحياة والموت بين الراعي والقطيع.

كانت المدينة في ذلك الوقت تعرف حركية دائمة في كل شئ، الاحتجاجات، الاحتفالات بالأعياد الوطنية، الألعاب المدرسية كانت على أشدها ، المسابقات الثقافية في جنسي الشعر والقصة ، كانت المدينة مشتعلة كبركان ونحن مقبلون بفرح عارم للارتماء داخل فوهة هذا البركان.

كان العالم من حولنا منظما، وكان حراس المعبد صارمين، وكنا نعبد الله ،الله بيقين، لا مجال لشخص أو جهة أن تتدخل وتقوم بدور الوساطة بيننا، كانت المعرفة مقدسة، أكبر من المال… لم نكن نعرف شيئا عن المدارس الخصوصية، كان السباق على الجمر وكان بالفعل المعلم رسولا.

كانت السلطة تتحكم في كل شئ، في الانتخابات وفي المدارس والأعراس وثمن الكفن، وهي من تحدد تاريخ الدفن. إن المقبرة ملحقة من ملاحق السلطة، إن الموت بدوره لايمكن أن ينفلت من زمن السلطة وقصصها الغريبة. ليس هناك مجال للصدفة، أليس الإنضباط والأمن هما شرايين المدينة في نهاية المطاف ؟

والحقيقة لم أكن أعر اهتماما لهذا الأمر واعتبره مجرد خرافة يستفيد من وراءها تجار الأمن، لأن السلطة يمكنها أن تدبر اليومي بدقة لكن لايمكنها أن تدبر المستقبل. ولهذا فإنني كنت أحلم بأشياء كبيرة يجب أن تكون بمدينتي، كالجامعة ومركب ثقافي، دور السينما ومسرح يضئ المدينة بتراتيله ورقصاته الملتهبة ووسائل للنقل وأماكن للترفيه، وفنادق وحدائق وطرقات حقيقية ومساكن جميلة ليس كالتي أقطنها والتي بنيت من الطين واللآجور…..كنت أبحث عن الماء الذي كان يغمر المدينة فوجدت أنه تم تهريبه بالمجان لمدينة مجاورة من أجل أن يستحم به السياح، عن الورود و”العراصي” التي كانت تعج بها المدينة فوجدتها قد دمرت بالكامل وتم غرس عمارات ودور فارغة أغلب ملاكيها بالخارج ، بحث عن جيل ممن كنت أحفظ معهم النشيد الوطني وجدت أغلبهم أحرقوا الكتب وباعوا الأرض واشتروا تذكرة إلى المهجر. عندما كبرت اكتشفت أنني كنت أحلم بمدينة فاضلة.

‫تعليقات الزوار

1
  • فيتاليس
    الخميس 11 فبراير 2016 - 22:50

    تحية صادقة مايجري ومايسري على مدينتك التي احبها بامتياز واجدفيها راحتي كلما اتيحت لي فرصة التجوال النادرة احيانا ، يسري على مدينتي الصغيرة الملقاة على الساحل الاطلسي والتي تجاهلتها الامواج من كثرة جادبية الاجانب لاراضيها وشواطئها حتى اضحى شبابها غرباء وسط تدافع الراسلمال المادي والرمزي الرهيب ،كلنا غرباء الوطن الرحيم .

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30

احتجاج أساتذة موقوفين