عمً الدمار في كل الأرجاء , وهبت عواصف الافتتان في كل الأنحاء , وتغبر الكون بالحروب و المآسي , وتفشى الفساد و الجدال بين الشعوب بالتوالي , حتى يئس المرء وفقد الآمال , وظن أن هذا خطب العالم على الدوام . وشقت الأرامل ثيابها بكاء و تحسرا , ودمعت أعين الأمهات على فلذات أكبادهن خوفا من عالم متهيجا , ورحنا نشاهد الدمار متمثلا , بيوت و مدن أصبحت هباء مشتتا , رجال ونساء وأطفال يتلاعب بهم أمواج البحر تلاعبا , وآخرون محجوزون وراء قضبان وكأنهم ارتكبوا جنحا محققا .فإن كان الإنسان في ترقيه وسمو همته يسعى إلى مساعدة أقربائه و عائلته و ذويه , لأنه بذلك سيحقق ليس فقط سعادتهم بل سيضمن سعادته و سلامته , فكذلك حان الوقت للدول أن تمد يد العون لجيرانها , وتغظ النظر عن فوائدها ومآربها الشخصية , بل بتعاونها وتجاوبها مع بعضها البعض , تضمن كل الدول رفاهيتها وازدهارها وسلامتها.
ولنا في أروبا خير مثال , وأوضح بيان , فبعدما مزقتها حربين عالميتين شرستين , حيث دمرت الديار , وسفكت الدماء , وتشردت الأقوام , وعلت أصوات العويل والنواح , واشمأزت الأنفس من هول النيران المشتعلة , والآلات الجهنمية المدمرة , جلست بلدان أروبا على طاولة المفاوضات , وأبرمت عهدا متينا , على عقد الصلح والسلام ,وطوي صفحات الحروب و الدمار , حتى توحدت وائتلفت فأصبحت كأنها بلد واحد , ووطن واحد ,تتعاون فيه على كل المستويات , الاقتصادية والاجتماعية والعلمية, وبذلك رفرفت راية السلام والألفة والاتحاد.
ألم يئن الوقت للشعوب الأخرى أن تقتدي بهذا المثال , وتنظر إلى الغريب وكأنه الحبيب , والبعيد وكأنه القريب , وإلى الجار وكأنه ولي حميم , حتى تتوارى من الأذهان والعقول أفكار الظلم والحرب والعدوان , وتتبدل بأفكار أسمى وأرقا منها من عدل وسلم وإحسان.
فدول شمال إفريقيا على سبيل المثال مؤهلة لهذا المآل , وقس عليها دول حوض البحر الأبيض المتوسط , وتكتلات أخرى إن جربت التعاون والتعاضد والاتحاد , لطارت إلى أوج العلى , ومكنت شعوبها من حياة مليئة بالهناء , والطمأنينة والرخاء.
وإن تحققت هذه التجمعات المختلفة عبر العالم , فستشكل مرحلة نحو الالتئام الكامل لسكان الأرض فيحق القول “الأرض وطن واحد وجميع البشر سكانه”.
فمنذ مائة عام كان اتحاد أروبا ضربا من الخيال , وفكرة تحقيقها من المحال , وحلم يراود الرومانسيين والفلاسفة رهيفي الإحساس ,رقيقي المشاعر والخواطر , فالحرب والعدوان كانت سيدة المكان , ومعلمة من معالم الرجال الشجعان , ومادة لتحقيق السلطة والمال , فلا سلم ولا سلام ولا أمان , إلا للمنتصرين الأقوياء الأبطال . فتحرك الزمان وتغير فكر الإنسان , بعدما اتضح بالدليل القاطع والبرهان الساطع بأن الحروب والفتوحات وغيرها , قد ولى عليها الدهر وصارت في خبر كان . فالإنسانية تمر إلى عالم جديد , ويوم فريد , حيث قامت قيامتها وانتهى ماضيها , وحل حاضرها المميز بقوة التآلف والتعاون , المستنير بنور الاتحاد المتشعشع اللامع من أفق السبحان ذو القوة والجلال.
فلا المفكرين ولا الفلاسفة الأجلاء لهم القدرة على إنارة طريق الإنسان , وإصلاح عالم خيم عليه الدمار , بدون النفحات القدسية , والنغمات السبحانية , والكلمات العلوية , التي تصدع من المظاهر الملكوتية , التي بها هم مقتدون ولنفحاتها ناشرون.
فالسلام والاتحاد أضحى مآل الإنسانية في هذا الزمان و مصيرها المحتم من لذا السبحان , فمعارضته أو طلب غيره سيأرق الإنسانية جمعاء وتطول بها فترة الاحتضار مما يرافقها من معانات وآلام .
فإذا وعينا وفكرنا في هذا المقصد النبيل والمنال العظيم , اجتمعت قوانا وتوحدت أفكارنا والتأمت مشاعرنا وإحساساتنا , فانبثقت منها إرادة و حركة لا يولي بعدها الفتور ولا تصدها قوى الهدم المشئوم , فتروح قوى البناء تسري بين الجمهور تداوي و تشافي جروح العموم وتطفئ نيران الحروب , وتعدل بين الأمم والشعوب , وكأنها البلسم الأتم الأعظم أو نسيم الوفاء العبق الأكرم.
فتحقيق السلام مقصد هذا العصر المجيد وروح هذا القرن الفريد فلنواكب هذه الروح علنا نستنشق منها نسائم العرفان و تعبق علينا نسمات الود والامتنان.
الخضوع للسلام اصبح امرا لا مفر منه…
كما سبق الإشارة لتحقيق السلام لابد من الإتحاد لأنه في الإتحاد قوة ، و كما هو معروف متحدين نقف ، متفرقين نسقط …