في ثقافة العنف

في ثقافة العنف
الأحد 29 ماي 2016 - 12:45

العنف قضية إشكالية ومصطلح العنف في نفسه مثير الإشكال يمكن للمرء قراءته بطرق مختلفة في آن واحد، وربما من الأجدى أن يتحدث المرء عن العنف من خلال الحديث عن أسبابه ومسبباته ودوافعه عند مختلف الحركات التي تمارسه وفي أي مكان من العالم.

إن الظلم وفقدان السيادة وعدم وجود موقع تعريف داخل مراكز القرار أو السلطة للمواطنين يولد دائما غضبا ويولد دوما شكاً في الحياة نفسها وفي قيمتها، وفي العنف تجتمع كل هذه الأسباب مع مشاعر أخرى داخل وعي يرى البعض أنه إيديولوجي يبرر ضرورة العنف للوصول إلى غايات وأهداف حتى ولو كان على حساب ذوي القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل الأبرياء، وذلك على أساس عقائدي حيث يتكلم الشخص وكأنه مكلف ومفوض ونائب عن الإله المطلق ويعتقد أنه متواجد في مكان أعلى من سلطة الدساتير والقوانين.

العنف عموما هو إزميل سيء لنحت ورسم المستقبل وصورة القوة المهيمنة على الوعي منذ قرون التوسع سواء بالغزو والحرب أو بالفتوحات والاستعمار أو بأشكال أخرى مختلفة، هذه الصورة التي كانت دوما أرضا ممهدة للعنف، لكن لماذا تصاعدت وانفجرت وتيرة العنف بكل هذه القوة في العقود الأخيرة؟ وهل هذا من صنعنا أو من أصل تكويننا المعرفي والثقافي أم أنه بذور زرع فاسد أُنْبِتَ في وعينا؟

مصطلح العنف من أكثر المصطلحات انتشارا في عصرنا وهو مصطلح يدل على معنى مُجَرٌم ومذموم، ويتسع مفهوم العنف ليطال مجالات عدة منها المجال الأسري في العلاقة بين الزوجة والزوج وبين الوالدين والأولاد والمجال الاجتماعي بين الملتزم وغيره وبين القابض على السلطة والخاضع لها بالمعنى الواسع لمصطلح السلطة، كما يطرق العنف مفهوم التربية وفلسفتها حيث يطرح كأحد العناوين الإشكالية للعلاقة بين المعلمين والتلاميذ، أما في مجال القانون فيثار مصطلح العنف كعنوان وافد يُرَادُ من خلاله تصنيف العقوبات على المخالفين والمجرمين بين عنيف وغير عنيف.

ذهب عدد واسع من الباحثين من الغرب وحتى من العرب إلى القول بأن الفقه الإسلامي يمارس قدرا واسعا من العنف في شتى المجالات التي أشرنا إليها أعلاه بل وفي غيرها أيضا، وزعم هؤلاء وادعى أولئك أن الفقه الإسلامي يحض على العنف ويجعله الوسيلة الأساس في الدعوة وإقامة ما أسموه بالشرع، وقد اتسع الاتهام مؤخرا وانتشر على نطاق عالمي ليصبح السمة الأساسية للمنهج الإسلامي كما يصوره الإعلام ومواقع الاتصال والتواصل الدعائية المسيطرة على الوعي الكوني في عصرنا.

وإذا كان المقصود من العنف استخدام القوة المادية أو العسكرية لقهر الخصوم بلا وازع ديني ولا ضابط أخلاقي أو قانوني وبلا مبالاة بما يحدث من جرائها من أضرار على المدنيين وأخطار على الأبرياء، فإن هذا يضع التهم التي يُرْمَى بها الإسلام في تصادم مع صريح الخطاب القرآني المؤسس لكل المنظومة الفقهية حيث تجد صريح قوله تعالى في سورة النحل الآية 125 (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) و قوله تعالى في سورة الإسراء الآية 53 (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) وقوله تعالى في سورة فصلت الآية 34 (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، وبالرجوع إلى هذه الآيات المختلفة نجدها تدعو لقيم الخير والحب والسلم والسلام هي أهم ما تنادي به والتي تعتنقه أغلب التيارات، فيا ترى كيف تحول الإيمان إلى وسيلة لقتل واستباحة دم الآخر وكيف استطاع الإنسان أن يُحَوٌلَ وسيلته الوحيدة للتقرب إلى الله إلى وسيلة تبعده عن أخيه الإنسان، كيف؟؟؟؟؟؟إن هذه الخطابات القرآنية المباشرة تدعو المسلمين إلى اعتماد منهج يقوم على الرفق لا العنف وعلى اتباع الخطاب الأحسن لا الأغلظ.

إن فعل العنف والقتل في ذاته وممارسة العنف كممارسة مجردة لا يمكن أن يجد لهما ما يبررهما في عالم القيم فكيف إذا كان القتل فعلا مبنيا على تأمل وتفكير وتخطيط وعلى أساس فلسفة هادئة وبحجة أن فعل القتل هو أمر مشرف، إن النظريات الإلغائية التي تنكر الآخرين وتحط من قيمة وجودهم وتبني حياتها على سحق حياتهم لا تطلب لنفسها السيطرة فقط وإنما تسعى لإذلال الآخرين.

عندما يتسلح العنف بالمحاكمات المنطقية تضيع المعاني في ضباب الجدل وتصير مهمة الوعي شرح معنى الكلمات بطريقة توقظ العقول وتهدئ المذهبيات والعصبيات، لقد أسس القرآن الكريم، والذي اتخذه بعض الفقهاء والخطباء مهجورا كما جاء في الآية الثلاثين من سورة الفرقان، دعوة للسلم مصداقا لقوله تعالى في سورة البقرة – الآية 208 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) كما أسس أيضا منهجا للرحمة والعدل في سورة الشورى–الآية 40 (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَة مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).

إن الإسلام هو صلب السلام وعماد الخصوصية العربية وركن هويتها ومكنونها ومخزونها النفسي وبناؤها الأخلاقي القيمي، ولا حل للمشاكل التي يعانيها العالم العربي بدون تغذية منابع الفكر الديني بكل ما نملك من جديد الزاد، لتتدفق فيها كل ما في شراييننا من دماء الحياة والبحث والتفكير والإنجاز، حتى يتأتى لنا قليل من القدر في تأويل متجدد وجديد للكتاب وتفسير اجتهادي وفني للسنة. لنحقق التواصل المنشود والاستمرارية في التاريخ صعوداٍّ لا دائريٍّا.

أخيرا، إذا كان العنف فظيعا مروعا كما يقول المتشذر عمر ناسنا فذلك لأن الناس يظنون أنهم يفارقون أنفسهم، فيما العنف هو السقوط لأول مرة في الذات، الانسحاب من كل الآخرين نحوك، ولأنهم لا يفقهون ولا يفهمون فَهُم في الغالب يتبعونك بجسدك وهم يحسبون أنك نسيت عقلك فيما تكون أنت قد ظفرت بالانسحاب كي تلتقي أخلص شيء فيك: جوهر إنسانيتك.

الإنسانية هي الحل

‫تعليقات الزوار

2
  • كاتب عمومي
    الأحد 29 ماي 2016 - 16:52

    معادلة حسابية تكشف «ميول العنف» لدى الإنسان!

    ويختم ديفيد كينيدي قائلاً: «نجهل تماماً ما هي عناصر التحليل المعتمدة لإدراج الأشخاص في هذه اللائحة التي تقدم من أوساط جامعية في شيكاغو لم تكشف عن قاعدة حساباتها، في حين يسود القلق في شأن شفافية الحسابات والصور النمطية الكامنة خلف هذه المعادلة».

    واشنطن -أ ف ب

  • ابن طنجة
    الأحد 29 ماي 2016 - 22:17

    تفشي حب المال والجشع والبخل والربا والاحتكار وغيرها من انواع العنف المادي الخطير في مجتمعنا المغربي يؤصل ويذكي بؤر العنف المعنوي والقهري فيسود الظلم والجور ويعم عقاب الله انتقاما للضعفاء والمستضعفين الذين لاحول ولا قوة لهم الا بالله ففي الحديث النبوي الشريف ان النبي صلى الله عليه وسلم حمد الله اثنى عليه بما هو له اهل ثم قال ( يايها الناس ان كل دم كان في الجاهلية فهو هدر واول دمائكم دم اياس بن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هديل وان اول ربا كان في الجاهلية ربا عباس بن عبد المطلب وهو اول ربا اضع ، لكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون )

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات

صوت وصورة
حملة ضد العربات المجرورة
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 11:41

حملة ضد العربات المجرورة

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08

بيع العقار في طور الإنجاز

صوت وصورة
مستفيدة من تأمين الرحمة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:35

مستفيدة من تأمين الرحمة