أسطورة العهد الجديد..

أسطورة العهد الجديد..
الإثنين 27 يونيو 2016 - 05:25

معظم المغاربة باتوا مقتنعين بأن ما اصطلح عليه العهد الجديد مجرد أسطورة وقناع جديد للعهد القديم، وأن القطيعة مع إيديولوجيا الممارسات السابقة لم تكن إلا وهما وسرابا، بل إن الفساد أصبح شاملا ومكونا من مكونات مغرب الألفية الثالثة، ومظاهر الفساد بمؤشراتها ومعدلاتها تفصح عن مستقبل زلزالي تمتد تصدعاته إلى كل مناحي الحياة في المغرب، لا يوجد في المغرب قطاع واحد لا ينخره الفساد، بل إن الفساد هو القانون الذي يسير كل المؤسسات المغربية، والنتيجة: تفقير منتظم وممنهج، فوارق طبقية فلكية، هيمنة منطق العلاقات والولاءات على منطق الاستحقاقات والكفاءات، ارتشاء في معظم الخدمات، جيوش عاطلين تائهين حائرين، وفوضى عارمة تختفي في مفهوم الحرية، واغتيال للحريات العامة، دعارة مقننة وعفوية، ، تقزيم للعمالقة، وعملقة الأقزام والوصوليين..

يعيش مغرب اليوم تخلفا شاملا وترهلا أصاب كل مؤسسات الدولة، وأخطرها الترهل السياسي.

لماذا؟

الجواب حقيقة مرة يجب قبولها وتجرعها، مضمونها وفحواها أن العقل السياسي المغربي الذي راكم وعيا واستنارة وتحررا وحرية بفضل الشرفاء من المناضلين والمقاومين الذين هزموا الاستعمار الفرونكوإسباني، هذا العقل السياسي المستنير تم الانقضاض عليه في سنوات الرصاص، وتزييف كل مكوناته وتدجين كل آلياته، الآلة الجهنمة للدولة العميقة، نجحت في قتل آلية التفكير الحر، النقد البناء، آلية الإبداع.. وتحول العقل السياسي المغربي اليوم إلى وسيلة للتنميط وصناعة مواطن مطواع، صناعة مواطنين متشابهين كحبات الأرز، مواطنين ذائبين ومنصهرين في القوالب الجاهزة لهذا العقل السياسي البغيض.

إن خطورة القصور السياسي نابعة من قصور العقل السياسي في المغرب المعاصر، عقل سياسي مُشَوَّه ومُعاق يمتلك سلطة القرار السياسي وتدبير مؤسسات الدولة، ومخلفاته وإفرازاته وتبعاته على باقي المؤسسات، تخلف المؤسسة الإعلامية الرسمية (حمدا لله على الإعلام الإلكتروني)، الإعلام الرسمي نموذج صارخ للتخلف والتفاهة وصناعة قيم اللامواطنة، اللامسؤولية، العدمية، العبثية.. إعلام الاستحمار والاستبلاد وقلب الحقائق، سترى احتراق الأطفال المشردين بحرائق الاغتصاب والعذاب، وسترى البؤس والسخط في وجوه المُسنِّين جرّاء آلام صحية تجعلهم يطلبون الموت أملا في النسيان، وستبصر جحافل المعطلين يتألمون في اصرار واصطبار.. وسيخبرك الإعلام الرسمي أن مناصب الشُّغل متوفرة حتى لطابور المُتسوّلين إلا ان المتسولين يرفضون العمل، وسيستفزك الإعلام الرسمي بعد قطرات امطار خفيفة هدمت منازل هوت فوق رؤوس سكانها البسطاء، الذي سيفترش منهم من بقي حيا العراء، في حين أن المذيعة الجميلة ستتحدث عن أمطار الخير والنماء، ورغم الداء واحتراق بائعة “البغرير” التي عاشت حياة الضراء لا السراء.. وبعد النشرة مباشرة سيمتعونك بسهرة المساء.. ستشاهد شبابا وشابات لا يعكسون بالمطلق شبابنا المقهور وهم يرقصون وكأن الكارثة حدثت في كوكب الزهراء.

لن أُفصِّل القول في تخلف المؤسسة التعليمية، سيما في مجال القيم (العنف، الغش، المخدرات..) في تخلف مؤسسة العدل، في تخلف مؤسسة السجون مصنع الجريمة والضياع..في تخلف مؤسسة الصحة والصحة النفسية والعقلية على وجه التحديد (طوابير من المجانين تفك الارتباط بعقولها بسبب قساوة وضغوطات الحياة).. في تخلف مؤسسة الزواج.. أما تخلف المؤسسة الدينية في المغرب فكارثي، رغم ادعاءات الإصلاح الديني والتغني بالنموذج الديني المغربي، وأبسط مظاهر تخلف المؤسسة الدينية هو هدر الإمكانات الضخمة للمؤسسة الدينية برساميلها الرمزية والمادية، وتحنيط الفضاء الديني، وعدم تجديد وظائفه كشريك لصناعة الحياة وقيم التقدم والتسامح والإبداع.. لن أطيل في إبراز تخلف كل المؤسسات، باختصار إن الدولة المغربية ينطبق عليها اسم “الدولة الفاشلة” بتعبير تشومسكي.

هذه بعض من مشاهد مغرب اليوم، وإذا كان تاريخ الحركات الاحتجاجية في المغرب المعاصر في خطوطه العريضة مشحونا برفض الاحتقار والمطالبة بالعيش الكريم، فإن كرونولجيا احتجاجات صفرو، مكناس، فاس، الرباط، العيون، الحسيمة، تنغير، تونفيت، خنيفرة..، احتجاجات المُعطَّلين، الأساتذة المتدربين، الشهيدة بائعة البغرير.. (أيضا اجتجاجات 20 فبراير)، هي احتجاجات في معظمها باختلاف حجمها، درجتها وتلاوينها يبقى العامل المحرك لها عاملا اجتماعيا، احتجاجات ضد غلاء المعيشة، ضد غياب الخدمات، ضد الإقصاء…، وتعالجها الدولة بمنطق القمع والعنف، فتزيد من تعميق معاناة المواطنين، وتحويل الاحتجاج من صبغته الاجتماعية إلى احتجاج سياسي ضد الدولة وأجهزتها.

وإذا كان الهدف من وجود الدولة في الأنظمة الديمقراطية هو خدمة المواطنين، وتوفير الحرية والأمن (لا استعباد المواطنين كما يؤكد اسبينوزا) والخدمات وسيادة وتدبير الأزمات، بالحوار العقلاني، وعدم اللجوء إلى العنف تجاه المطالب المشروعة للمواطنين، مما يكسب الدولة صبغة شرعية ويعطيها المشروعية ويمنحها الإجماع الوطني ويجعل كل الأفراد في خدمتها لأنها منبثقة من اختيارهم وإرادتهم، وتوجد رهن إشارتهم، وهذا هو منطق العقلانية المعاصرة التي تعتمد آليات الخطاب العقلاني والإنصات والحوار والتشارك، أما استخدام القهر والاستبداد والتخويف، ينتج مواطنين فاقدين للثقة بالدولة، منافقين لها، ينتظرون سقوطها، وهذا ما أشار إليه ابن خلدون في زمن بعيد، وهو ما نعايشه في وطننا، اغتيال للديمقراطية باسم الديمقراطية، اغتيال للحرية باسم الحرية، اغتيال للكرامة باسم الكرامة، هذا الوضع الاتفصامي خلق مواطنين يمتلكون وجهات نظر متعددة متضاربة بخصوص قضية واحدة، أصبحنا نعيش داخل مجتمع يحترف الفكر الانتهازي، ويستطيع المواطن أن يتخذ شكل الإناء الذي تتواجد به مصلحته الخاصة، الهاجس هو المصلحة الشخصية التي تراق على مذبحها قيم المواطنة، القبول بالاختلاف، العيش المشترك، تضامن الفئات المستفيدة بحكم استحقاقها لا انتهازيتها، والمتموقعة في المجتمع مع الشرائح المهمشة والدنيا، الفئات في وضعية صعبة.

إن استفحال الفساد الشامل في العهد الجديد في كل المجالات، في السياسة، العدل، التعليم، الصحة، الاقتصاد…، خلق يأسا عميقا في إمكانية الإصلاح، واليأس هو بوابة العبثية والعدمية، وإنتاج كل أشكال الفساد والانحراف، وإذا كان إجماع المغاربة على أهمية المؤسسة الملكية في توحيد المغرب والمغاربة على اختلاف مشاربهم وأعراقهم، فإن فساد المسؤولين يعرقلون كل المبادرات الملكية، ويسيؤون إلى روح العهد الجديد، ويجعل العهد الجديد امتدادا للعهد القديم، وحتى مقولة إن الملك ملك الفقراء، بمعنى أنه يشعر بآلام البسطاء، ويُدشِّنُ أوراشا تجعل المغرب بيتا ديمقراطيا لكل المغاربة، مغرب المساواة وتكافؤ الفرص، واحترام كرامة المواطن، لكن أمام استفحال فساد الساسة المغاربة فإن تلك المقولة تتحول من ملك الفقراء إلى ملك على الفقراء، وبالتالي يصبح العهد الجديد مجرد وهم كبير وأسطورة متهافتة، وكتابة هذه السطور نابعة من الغيرة على الوطن.

‫تعليقات الزوار

4
  • aznar
    الإثنين 27 يونيو 2016 - 15:33

    لقد صدقت امثالك قليلون لكن ان نحمل المسؤولية للحكومات وحدها امر غير منصف فالملك دور مهم فيما يقع

  • محمد أيوب
    الثلاثاء 28 يونيو 2016 - 04:24

    نموذج:
    "..ولكن ميلاده في الإيالة الشريفة يحوله كباقي المستضعفين المهمشين والمحتقرين إلى مجرد رقم احصائي لا أقل ولا أكثر.فلتتضافر جهودنا لإيقاف مأساة عادل"…"طبعا المشكل ليس في حامل السوط بل من ينحني لتقبل الجلد برضى وحبور.المشكل ليس في الملكية والمخزن – فهم يدافعون عن مصالحهم ودوائر سلطهم-المشكل في الشعب الذي استلذ السبات الأبدي". الفقرتان بين الهلالين مأخوذتان من أحد المواقع وهما تتعلقان بوضعية الدكتور عادل أوتنيل المعوق الذي تمكن من الحصول على شهادة الدكتوراه متحديا اعاقته وظروفه المعيشية حيث كان يستفيد من بطاقة للانعاش تم حرمانه منها.. ماذا لو كان هذا الشخص يعيش في دولة أخرى غير:"الايالة الشريفة"؟ يقينا كان بلده سيوشحه بأعلى الأوسمة وستتحدث عنه وسائل الاعلام كنموذج للانسان المتحدي لاعاقته ولظروفه المعيشية..ولكن في"أجمل بلد في العالم"لا يتم الاهتمام الا بنخب المافيا التي تعرف كيف تظهر في الواجهة مستغلة حاجة المخزن الجديد اليها لتلميع صورته تحت شعارات فارغة لكنها براقة تستهوي الشعب المغفل.الواقع أن من يتحدث عن"عهد جديد"واهم أومغفل أو انتهازي ووصولي وانبطاحي أو مستفيد أو هو كل ذلك…

  • Ahmed52
    الثلاثاء 28 يونيو 2016 - 14:30

    يقول الاخ: 2 – محمد أيوب

    المشكل ليس في الملكية والمخزن – فهم يدافعون عن مصالحهم ودوائر سلطهم اما المشكل فهو في الشعب.

    يا اخي الملكية والمخزن والنخب السياسية والنقابية والمثقفين وجمعيات المجتمع المدني كلها من هدا الشعب.

    الامر ليس بهده البساطة نعم الحاكم والمحكوم كل منهما مسؤول لكن المشكل الحقيقي يكمن في الامية والجهل في الميدان السياسي والحقل الديني.

    ترهل وسقط التمثال السياسي وشاخ وتجاوز الموروث الديني فخروا وسقطوا في نفس المكان الدي يدافع عنه نفس الشعب الامي الجاهل.

    ةشكرا

  • محمد أيوب
    الأربعاء 29 يونيو 2016 - 05:00

    أين ثرواتنا؟:
    "فلوس الشعب فين مشات؟في السكرة والحفلات…"…هذا شعار يرفعه بعض المحتجين والمتظاهرين بكثير من المناطق ببلدنا..فهل فعلا تذهب فلوس الشعب في السكرة والحفلات؟أعتقد أن الجواب واضح وضوح الشمس في هذا العهد الذي يسمونه جديدا وهو في الواقع لا جديد فيه اطلاقا..فالمخزن هو هو..لم يمت كما ادعى اليازغي في زمن سابق قبل أن يتحول اليازغي ورفاقه الى جزء من هذا المخزن الفاسد..ومن يطبل للعهد الجديد لا يعدو أن يكون واهما ومغفلا أو مستفيد وانتهازيا ووصوليا كحال أغلب نخبتنا التي باعت الجمل بما حمل للمخزن مقابل امتيازات المنصب..والى الأخ المعلق رقم:3 أقول:أنا لم أقل ما قولتني ولكني نقلت عن الآخرين فقط وبالضبط عن الكاتبة هند عروب التي علقت على وضعية الدكتور عادل أوتنيل.وأزيد على ذلك أن صاحب المقال أعلاه أصاب كبد الحقيقة في عنوان مقاله،لكنه افتقد الى الشجاعة الكافية ليشير الى اللص بأنه لص لذلك راوغ في تحليله وتحميل المسؤولية عن الوضع الذي يعيشه بلدنا والذي يتسم بانهيار القيم على مختلف المستويات وشيوع سلوكيات الفساد والنهب والانتهازية والوصولية لدى نخبتنا الفاسدة طولا وعرضا الا من رحم الله تعالى.

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة