الثور الأوروبي يفقد قرنيه !

الثور الأوروبي يفقد قرنيه !
الأربعاء 29 يونيو 2016 - 06:30

بالأمس القريب، عندما كانت اليونان ـ الأخت العانس بالنسبة لأوروباـ تتلجلج في حبائلها، تستنجد وهي تحاول الخروج من ورطتها الاقتصادية، و تمد يدها للأوروبيين لعلهم ينتشلونها من حال الإفلاس و التضخم، لم يكن ذلك حدثا بارزا في عرف السياسيين و مديري معاهد الدراسات.

اليوم الأمر مختلف، ومختلف كثيرا ، فالخارج ليس كأحد من الخارجين ، و بقاؤه من عدمه ليسا سواء، فهو في عرف العارفين بخبايا الاقتصاد و السياسة عماد الأمر كله، وخروج إحدى العربات من فوق السكة ليس كخروج القاطرة.الثور الأوروبي يفقد قرنيه إذا، وربما نراه في القادم من الأيام مترنحا من أثر هذان الفقد.

لم يكن التحاق البريطانيين بالزمرة الأوربية كاملا وسلسا ، كما فعل باقي الأعضاء، وهذا التلكؤ في رفض اليورو ومعاهدة ” شينجن” )اللتان هما عماد الخيمة الأوروبية) كان إشارة قوية ينبغي التقاطها لمعرفة أنّ الانفصال قادم لا محالة.

خرجت بريطانيا ( العظمى) و اختارت الأغلبية من البريطانيين ولو بأغلبية قليلة ( وهذا عيب من عيوب ديمقراطية الأغلبية) أن تنسحب من السفينة الأوروبية، و تبقي على نفسها داخل الجزيرة المعزولة، وهي واحدة من من دول الفيتو الظالم، و إحدى القوى العالمية عسكريا واقتصاديا، تضيق ذرعا بالبرلمان الأوروبي و المحكمة الأوروبية و الناخبين الأوربيين، ليدافعوا عن مصالحها أو ليسيّجوها بالقوانين ، وترفض أن ترهن اقتصادها باقتصاد الآخرين.

التاج البريطاني في عُرف البريطانيين له من العراقة و التقاليد ما يجعله يرفض ذلك كله، بريطانيا بماضيها الاستعماري القريب (المملكة التي لاتغرب عنها الشمس)و العائدة من غزو الهند و أكتر من ثلث إفريقيا ، تختار إذن أن تكون في حل من الأوروبيين، وأن تصطف وحيدة في الضفة الغربية للقارة العجوز.

تخرج بريطانيا إذا بعد الضغط الكبير الذي تحمله “دافيد كاميرون” من قبل اليسار و اليمين المتطرف، فنظم الاستفتاء مُكرها ، ليغادر دفة الحكومة مُكرها. وسيبقى اسمه عالقا في أذهان المتفائلين باعتباره الرجل الذي أخرج البريطانيين من حاضنتهم الأوروبية، أو بتعبير الوزير البريطاني السابق للشؤون الأوروبية دينيس ماك شاين : الرجل الذي أفقدنا أوربا. فما الذي جعل أغلب البريطانيين ينكفئون على أنفسهم و ينكمشون داخل جزيرتهم المنيعة؟

مهما اختلفت التحاليل السياسية والاقتصادية أو اتفقت (التوجس من التحاق تركيا الإسلامية بالركب الأوروبي ـ الأداء الاقتصادي المتواضع لبلدان الشرق الأوروبي ـ صعوبة الانضباط لقرارات البرلمان الأوروبي …).

فإننا لو بحثنا وراء الأسباب التي قد تظهر أو لا تظهر، فإننا لن نجد أكثر من أن البريطانيين شعب عزلهم البحر فعزلوا أنفسهم عن الناس (لا يعني ذلك العزلة المسالمة، فيَدُ أبريطانيا العظمى طالت أقصى بقاع الأرض) . بريطانيا على مر التاريخ تعيش وحدها و تعمل وحدها تبني اقتصادها وحدها ، ولا تدين بالولاء و التبعية إلا لمن تراه أقوى و أجدى و أنفع ( الولاء لأمريكا).

البريطانيون يغلقون باب دارهم ، فعندما يستطلع البريطانيون حدود بحر المانش، وهم يرون جحافل البشر مرابطة فوق الضفة الفرنسية متأهبة للعبور، حتما يصابون بالدهشة ، إن لم يكن الرعب، قبائل كاملة تستوطن منطقة “كالي” الفرنسية ، ومن كل الأعراق: أفغان وعرب وأفارقة و أكراد…بنوا خيمهم و أعشاشهم على مرأى من الشرطة الفرنسية و القانون الفرنسي، الذي لا يستطع القيام بشيء ، و حتى التوزيع الهزيل للاجئين القادمين من بلاد الشرق، رفضه البريطانيون ورفضوا معه كل غرامة جزائية عن كل فرد يتم رفضه.( 290ألف دولار عن كل فرد).

عندما قرأ البريطانيون أوراق تصويتهم، اكتشفوا أن كل أصوات الموافقة جاءت من دولة سكوتلاندا، وأن النسبة الغالبة من الشباب البريطاني صوتت لصالح البقاء، غير أن الذي أمال الكفة لصالح الطلاق من الأوربيين جاء من قلب بريطانيا ، من قلب الاتحاد البريطاني ، من دولة انجلترا، وخاصة من الفئة العمرية المتقدمة في السن ، الفئة التي عاصرت الحرب العالمية الثانية وشهدت القصف النازي ينزل فوق لندن.

الحدث كبير إذن ، ولا مجال للتنقيص من حدته أو التقليص من تداعياته الاقتصادية منها على وجه الخصوص، وهو ما بدا واضحا على ملامح الرئيس الفرنسي وهو يشير إلى أن أوروبا على أعتاب تاريخ جديد، ولعل أكثر الناس تفاؤلا قد تقض مضجعه فكرة عدوى الانفصال و الانعزال ، لتعود الدويلات الأوربية كما كانت، ممالك طوائف قديمة جديدة، قد يستعر بينها الخلاف حد الاقتتال كما كانوا يفعلون بالأمس البعيد القريب. وحتى أكثر الناس تفاؤلا، يعول على إجراءات الطلاق وفك الارتباط، التي قد تستمر عامين كاملين، يبنون آمالهم وتفاؤلهم على الأزمات الاقتصادية التي قد تظهر خلال هاذين العامين، مما يعجّل بطلب الرجوع إلى البيت الأوروبي ، وإلا سيتقلص التاج البريطاني و ينحسر في بلاد الانجليز القديمة.

‫تعليقات الزوار

3
  • ابن طنجة
    الأربعاء 29 يونيو 2016 - 17:54

    هاهي اوربا الراسمالية المتوحشة التي تدعي الديمقراطية وحقوق الانسان بدات تحصد ثمار احقادها تجاه المسلمين والعرب خاصة وموقفها العدائي للربيع العربي تتلقى ضربة قوية ومزلزلة من بريطانيا العظمى التي قررت موفقة الخروج من حظيرة الاتحاد الاوربي فقد ضاقت ذرعا من جحافل المهاجرين من اوربا الشرقية التي انضمت للاتحاد بموافقة فرنسا للحد من وجود المهاجرين المسلمين على اراضيها والتضييق عليهم اضافة الى التسول اللامتناهي لاسبانيا واليونان ان خروج بريطانيا هو انطلاقة وبداية تساقط دول الاتحاد الاوربي كتساقط اوراق التوت الواحد تلو الاخر ولله الامر من قبل ومن بعد

  • KITAB
    الخميس 30 يونيو 2016 - 01:21

    خروج بريطانيا من الاتحاد ستكشف عن أسراره الأيام القادمة،لكني أكاد أرجح رأي الأستاذ في أن وراء الأكمة ما وراءها ، وأن تصويت البريطانيين بالانسحاب له أهميته القصوى فبين أيديهم دراسات وتقارير مستقبلية دقيقة عن المناخ الدولي وما سيؤول إليه في ظل تصاعد الهجمات الإرهابية وأعداد اللاجئين الذين أصبحت حاليا جغرافيا أوروبا تضيق بها وربما تعتبر في المدى القريب قنبلة موقوتة… هناك سيناريوهات عديدة ستتكشف في مستقبل الأيام ، تحياتي

  • saccco
    الخميس 30 يونيو 2016 - 11:55

    الشعوب التي إختارت قوة العقل والحرية نبراسا لمسيريتها تختزن من الامكانات والقدرات والكفاءات الهائلة لتصحيح الاعطاب وتجاوز الحواجز بل هي قادرة على إبداع وإبتكار الحلول التي تنقلها من سيئ الى حسن ومن حسن الى أحسن والتاريخ المعاصر يؤكد ذلك ،فالازمات والحروب التي عرفتها أروربا جعلتها في بعض الاحيان تنهض من رماد ولتصبح أكثر قوة وأكثر ديناميكية وأكثر ابداعا وتطورا
    اما ان تعود أروربا الى دويلات تتقاتل فيما بينها فهذه هي مجرد اضغاة احلام ومع الاسف انك ستغادر هذا العالم دون ان تسعد برؤية احلامك ومتمنياتك تتحقق
    المصيبة هي تكبيل العقل ،:فالعقل المكبَّل لا يخلف إنسانا مبدعا وخلاقا بل إنسانا عصابيا يعيش هلوسات وإرهاصات وسوداوية تقض مضجعه
    تهيمن على رؤيته لنفسك وللعالم

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات