جنة الأطلس

جنة الأطلس
الأربعاء 19 أكتوبر 2016 - 14:00

وأنت جالس في مقهى 2 أكتوبر صباحا، بعد يوم من العمل بالثانوية التي تحمل نفس الاسم، يحق لك أن تكتب مقالا خريفيا عن أرض المقاومة التي كانت محطة بارزة في تاريخ الاستعمار، وشكلت بؤرة ساخنة خرج منها العديد من المجاهدين الأبطال الذين حاربوا ببسالة وضحوا بالغالي و النفيس من أجل تحرير الوطن. منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا.

وأنت جالس بذات المقهى تبصر الغادين والرائحين يوم السوق الأسبوعي “الثلاثاء”. حيث الباعة أخذوا أماكنهم في السوق في انتظار من يشتري بضائهم. تجد بالسوق كل ما قد تحتاجه من لوازم البيت، وأثاث. تجد فيه كذلك مختلف أنواع الألبسة التي قد تقيك قر الثلوج التي لم يعد يفصلنا عنها كثير وقت. تجد فيها أيضا أشياء مستعملة، وصناديق للفواكه الطرية للتو خرجت من البستان، يتولى الفلاحون بأنفسهم بيعها. وكذا الخضر و “الكَركَاع”، وغلّات موسم حبّ الملوك.

بجنبات الطريق الرئيسية يستقبلك بعض التجار ببضائع يعرضونها على الرصيف، وبمحاذاتهم حوانيت أخرى لبيع المواد الغذائية، ومحلات للوجبات السريعة من اللحم، والدجاج، وما شابه. كما تجد على يمين المدخل الرئيس للسوق بعض المقاهي الصغرى متخصصة في تهييء فطور شهي للزوار من “حرشة” و”ملاوي” و”شفنج”..

مقبرة كبرى تأخذ المساحة الأهم من المنطقة، محاطة بسور ولها مدخل رئيسي في الوسط. تضم كبار مقاومي الوطن، ومن أفنوا زهرة شبابهم ذودا عن حمى الشعب، ونشدانا للحرية التي حاول المستعمر لفترة طويلة إقناع أبناء الوطن بأنهم لا يستحقونها. وهي نفس المقبرة التي لا يزال يدفن فيها أهلُ المنطقة جثامين أمواتهم. ويقوم كبار المسؤولين بالإقليم بزيارة رسمية لها في ذكرى 2 أكتوبر1955 من كل سنة لأنه يوم عيد واحتفال هنا.

وأنت داخل إلى مدينة إيموزار مرموشة، تستقبلك طبيعة خام لم يطمثها إنس ولا جان، وهي منطقة تمتد من بولمان، وتسمى عند الأخصائيين بالجنة الجيولوجية، إذ هي مكان خصب يقصده الباحثون للتعرف على نوع الأحجار، وطبقات الأرض، وطبيعة النباتات المتنوعة، وبعض الحيوانات النادرة، والعيون الساخنة، والمنابع المائية التي تسقي كل هذه المساحات الشاسعة.

وأنت مار بكل هذه المساحات المترامية، تبصر من زجاج سيارتك قطعان الماشية، ورعاة اختاروا هذه المهنة للعيش بكرامة، وآخرون صففوا بجنبات الطريق صناديق من البطاطس، والتفاح عالي الجودة. إن كنت تحتاج شيئا من هذا فما عليك سوى أن تركن سيارتك جانبا، وتدفع الثمن، ثم تكمل الرحلة.

كلما اقتربت أكثر، تزداد الخضرة، وتصّاعد في الارتفاع، إلى أن تحتويك صخور عالية، وتحيط بك أشجار سامقة قد شارفت السحاب لتبلغ من الطول الأربعين مترا. وبينهما شلال يسكب ماءه بسخاء، وينثر السعادة على طبيعة المنطقة دون مقابل. ظلال وارفة، ومقاعد تم تصميمها لاستقبال الزائرين، وبعض الأشغال الأخرى التي هي في طريق الإنجاز.

إيموزار مرموشة ترحب بكم، وفي ظهر اللافثة : رافقتكم السلامة. مناطق تختلف في هندسة تضاريسها ومنتوجاتها، وكذا تاريخها الممتد عبر الزمن : آيت العز، آيت ماما، آيت بازة، إيسبوتن، سرغينة، وغيرها مما لست أعرفه، فأنا حديث عهد بهذه الجنة الغناء.

“تاغروت” أو ما يقابل باللغة العربية : الكتف، هي أحد الأحياء بالمدينة البكر، وبها تتواجد الثانوية التي يدرس بها ما يقرب من ألف تلميذ، وهي إعدادية في نفس الوقت، وبجانبها ابتدائية “القدس”، بمحاذاة غابة الصنوبر التي لطالما كانت فضاء لخرجاتي الصباحية قصد الجري لما تمتاز به من الهدوء والهواء النقي و المساحة الكبيرة والتربة الرطبة.

” آيت يافر ” هي حي آخر يختار أغلب الموظفين الجدد الاستقرار به، سواء منهم العاملون بقطاع التعليم، أو الصحة، أو المياه والغابات. أما في الجهة المقابلة، فوق فضاء مقهى الشرشورة فيوجد حي: ” أقجوع “، وهو ممتد على مساحة كبيرة أيضا، تصل إليه بعد مرورك بمدرسة إيموزار مرموشة على اليمين.

في الجهة الثالثة يمتد حي : 18، وهو حي جديد به مسجد عامر، ودور حديثة، وأخرى لا تزال محافظة على طابعها التقليدي الأصيل. كل هذا وذاك يشعرك بالأنس وأنت تتجول بالمدينة في صبحية صيفية أو بعد العصر قبيل الغروب. أما رمضان هنا فله طعم خاص جدا.

إيموزار، هو المقابل اللغوي لكلمة شلال بالعربية، وهو المكان الذي يحبذ الزوار اكتشافه، وتصله بعد نزول درج طويل، وهو النبع الصافي الذي لا يهدأ ولا يتوقف عن التدفق. ولعل أجمل ما يعيشه سكان المنطقة هو فصل الشتاء، حيث تكتسي المنطقة لونها الأبيض بعد تساقط الثلوج، وانخفاض درجة الحرارة إلى ما دون الصفر.

الحل الذي يلجأ إليه الناس هنا هو شراء الحطب وإيقاذه في مدافئ تقليدية لطرد شبح البرد القارس. كما أن هناك من اختار طرقا عصرية لمواجهة البرد باقتناء مسخنات تعمل بالتيار الكهربائي. أما الملابس، فلن تنجيك هنا بذلة أو ربطة عنق، وإنما معاطف جلدية وقطنية تدرأ عنك الصقيع.

بعد استقراري بالمنطقة، أحببت المكان وأهله، وخصوصا منهم أولئك القرويون الذين اعتادوا حياة بسيطة مؤسسة على ما تجود به الطبيعة الغناء عليهم من خيرات حباهم الله بها. أناس تربوا على الطهر والكرم وحسن الجوار. “بلدة طيبة، وربّ غفور”، “اعملوا آل داوود شكرا”.

بالمنطقة أيضا أطر كبرى ومثقفون من الطراز الأول، ومفكرون، وطلبة عصاميون، وتلاميذ نجب، منهم من تعرفت عليه عن قرب، ومنهم من سمعت عنه أو قرأت له.

كثيرا ما أحببت مشاركة وقتي الثالث مع تلاميذي في أنشطة موازية تربي فيهم حب الاكتشاف، وتعلمهم التفكير الحر، وتجعلهم أهلا لطلب العلم بعيدا عن الأنماط التقليدية التي عفا الدهر عنها، وجثمت على صدور النشء لعصور وعصور في هذا الوطن الحبيب.

أن تكون أستاذا شابا بمنطقة مثل هذه يستلزم منك أشياء كثيرة، تتعلمها مع الوقت. ستحتاج جدية قصوى، وصفاء روحيا فريدا، وصبرا كبيرا. وسعة خاطر. وما أن تندمج في العمل والحياة اليومية، حتى يزورك النجاح وتطرق بابك البركة و التوفيق.

أن تحب عملك، هو أول أسرار النجاح، أضف إليه حسن التعامل مع من تربيهم، ناهيك عن ربط علاقات متينة مع أهل المنطقة مبنية على الاحترام والتقدير المتبادل، دون أن تنسى التغاضي عن بعض الزلات، وأن تحسن التصرف حين تقع في مشكل ما، فهذا أمر طبيعي خصوصا وأنك تفتقد التجربة في سنواتك الأولى بمجال التدريس.

ولعل أفضل جزاء تغنمه، هو ثناء الناس عليك، وحبهم لما تبذله لأجلهم، وشكرهم لصنيعك. وهذا يحفزك للعطاء أكثر، والاجتهاد بشتى الطرق لتحقق الغاية المرجوة من عملك، وتبلغ ذروة النجاح مع تلاميذك، وتترك بصمة في أذهانهم يتذكرونك بها خيرا كلما افتقدوك، فيوما ما سترحل.

بعد الانتخابات التي شهدتها المنطقة، وحديث المقاهي، وصخب الأسواق، وكلام الجرائد، يحق للقلم أن يسكب بعضا من شذاه على بوابة الخريف، شاكرا الله على حسن توفيقه، والقدر على اختياره، والناس على كريم أخلاقهم. فحقاً : كانوا لنا سندا وعونا، وكانوا لنا نورا على هداه نسلك، وكانوا لنا مرشدا وناصحا أمينا، وكانوا الأب والأم في غربتنا الأولى، وكانوا المرآة التي نبصر فيها عيوبنا وأخطاءنا، وكانوا نعم المؤنس و الرفيق في حياة لا تزال تحمل لنا من المسارات والعطايا الشيء الكثير. فلله الحمد.

شكراً مرموشة.

*مقال تعريفي ،من مذكرات أستاذ بـ إيموزار مرموشة.

‫تعليقات الزوار

8
  • عبد الله
    الأربعاء 19 أكتوبر 2016 - 14:10

    قرأت المقال كاملا 3 مرات
    شكرا أستاذ حسن على هذا البوح الجميل
    أنا من سكان المنطقة
    وما كتبته ينم عن موهبة وإبداع
    بدورنا نشكرك
    وخصوصا على تعريفك بمنطقة إيموزار مرموشة بهذا الشكل الإيجابي
    أسلوبك ممتع ومعانيه عذبة
    ألف شكر.

  • fouad rabat
    الأربعاء 19 أكتوبر 2016 - 14:35

    j ai lu l article
    vraiment il reflète un coté important dans notre maroc
    j ai bcp aimé ta façon d ecrire, et ton style
    .
    tu as bien fait Mr hassan lorsqué tu as pensé à décrire cette ville de l'aTlas
    aussi le titre est adequat
    "le paradis de l'ATLAS"
    .
    bon courage

  • أمازيغي حر
    الأربعاء 19 أكتوبر 2016 - 14:53

    أحييك عاليا أستاذي الكريم
    مقال جميل، وأحيي فيك هذه المبادرة
    هذا أفضل هدية لهذه الأرض الطيبة
    التي تعمل بها
    أفتخر بك شابا طموحا وكاتبا يضج بالإبداع
    وما أثارني كثيرا هو نظرتك الإيجابية لكل مناحي الحياة، وهذا أمر جيد، خصوصا للنجاح في العمل واكتشاف المنطقة وناسها على الفطرة.
    وهذا عكس الخطاب السلبي و الخريجين الجدد الذين دائما ما يتذمرون من التعيينات خارج المدن.
    صدقني، الحياة في مناطق مثل إيموزار مرموشة جميلة رغم بعض التحديت كالغربة والبعد والتنقل، لكن هذه كلها أشياء تربي فيك كفايات وتقوي عزيمتك أكثر فأكثر.
    نحن بحاجة لناس مبدعين ومبادرين.
    .
    تحياتي لك أيها الفاضل

  • Adam 100
    الأربعاء 19 أكتوبر 2016 - 15:27

    أعجبتني الجملة الأخيرة في المقال
    أحييك عاليا أستاذ حسن
    هذا دليل على نبلك
    أنت شكرت فلذة من الأرض أنشأت أمازيغ أحرار لا تزال مهمشة في أعين المسؤولين
    نتمنى أن تعطى لمثل هذه الربوع من الوطن القيمة التي يستحقونها
    شكرا على المقال
    ونحن بحاجة لمثقفين شباب أمثالك، لإعادة ضخ دماء جديدة في روح هذا الشعب النائم حتى يتحدث ويبصر
    .
    موفق إن شاء الله

  • عبدالله الثاني
    الخميس 20 أكتوبر 2016 - 15:38

    أحييك عاليا أستاذي حسن
    مقال جميل، جمال ايموزار مرموشة
    هذا أفضل هدية لهذه الأرض
    التي تعمل بها والتي سبق لي ان عملت بها .
    هذا المقال هز مشاعري لما يحمل من مشاعر نبيلة تجاه مدينة ايمواز مرموشة وساكنتها الطيبة التي اتشرف بالإنتماء لهم واعتبر مقالكم هذا شهادة سوف يعتز ويفتخر بها كل مرموشي فشكرا لكم أصالة نيابة عن سكان مرموشة على هذه الهديةالتي جاءت في وقتها في عز الإحتفال بذكرى 2 أكتوبر التي احتفلت بها منذوبية المقاومة والبلدية هذه السنة في 17اكتوبر تاريخ الثورةالبلشوفية السوفياتية دون الترحم على لنين المهم تم تخليد الذكرى رغم مرور 2اكتوبر ربما لحنين مديركم لعهد الإتحاد السوفياتي الإتحاد الإشتراكي فسلام عبركم استاذ حسن لمدير ثانوية 2أكتوبر التي تعتبر قطعة لحم من جسدي وعقلي وقلبي ففيها كانت بداية مساري المهني والعملي ولا زال لي هناك اخوة واصدقاء أعزهم كثيرا ولي هناك ذكريات لن تنسى ولن تمحى وتاريخ مجيد تشهد عليه سجلات المؤسسة بمداد من فخر فسلام على تلك البقعة الطاهرة والأرض الطيبة وسلام على كل انسان يذكرني بالخير و مقام طيب لكم وسط الأهل والأحباب وسط جنة الأطلس المفقودة

  • ثلوج
    الخميس 20 أكتوبر 2016 - 17:01

    سلام تام لكل قلم حر
    الكتابة نبض وإحساس و بوح
    إن أجمل ما في المقال أنه عفوي فطري
    فكل كلماته مختارة من الواقع الحي
    جلوس في المقهى
    إلهام يطرق البال
    قهوة صباحية
    وتأمل عميق يستحضر كل التفاصيل
    دقيقها وجليلها
    مشكور أخي الكريم على عملك هذا
    و أتمنى لك مزيدا من التوفيق
    تحياتي لك.

  • sanae beautiful
    السبت 22 أكتوبر 2016 - 22:19

    i like it so much
    100% natural ideas
    good luck teacher
    Hassan

  • tarik
    السبت 29 أكتوبر 2016 - 11:12

    في منطقة الأطلس النائي، تختفي غابات و وديان تؤثت طبيعة غناء تعبر عن ناس من طينة أمازيغية حرة.
    هذا مقال يكتب بماء الذهب، أحييك عليه أستاذي الشاب
    تعريف جميل بمنطقة لطالما حجبها البرد، وأبعدتها الثلوج عن اهتمام المسؤولين. تحياتي الخالصة لك أيها الفاضل.
    .
    أخوكم : طارق

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات