الطلياني لشكري المبخوت .. مأساة بطل إشكالي يساري

الطلياني لشكري المبخوت .. مأساة بطل إشكالي يساري
السبت 15 يوليوز 2017 - 19:55

جنازة مهيبة، حزن يعم المقبرة، رجال يرددون أذكارا، شاب يهاجم إماما يلحد جثة ميت ويوجه إلى وجهه ضربة موجعة. بهذه الوقائع يفتتح شكري المبخوت روايته “الطلياني” الحائزة على جائزة البوكر لعام 2015.

الطلياني لقب أطلقه المبخوت على الشخصية المركزية، التي تيتمت، بسبب وسامته وملامحه الإيطالية. يبدو أن الكاتب منبهر بالجمال الغربي مثل مجتمعه، يرى فيه النموذج والمثال.

هو طالب بكلية الحقوق، تشبع بالفكر الاشتراكي حتى صار يساريا متطرفا وزعيم تنظيم داخل الجامعة. تصور الرواية واقع الجامعة في تونس: الدولة تتخلى عن تمويلها نزولا عند إملاء البنك الدولي و صندوق النقد الدولي، الفصائل المتناحرة تعشش فيها ( الإسلاميون، اليساريون)، الأمن يتدخل لقمع المحتجين.. أتأمل وصف المبخوت للجامعة التونسية فيخيل إلي أنه يصف جامعاتنا في المغرب.

يدخل الطالب المندفع في صراع مع النظام المستبد، نظام المجاهد الأكبر، لكنه يعرف في سره أنه يواجه قوة منظمة وذكية، تعرف عنه كل شيء حتى مكان نومه ومواقيت راحته البيولوجية بفضل المعلومات الثمينة التي تنقلها منظفة البيت، مما جعله يتساءل: هل تستحق البروليتاريا المسحوقة الواشية شرف الدفاع عنها؟

بفضل نشاطاته الجامعية تعرف عبد الناصر إلى “أنروز” المعروفة بزينة، طالبة ريفية في شعبة الفلسفة، جذبه إليها ذكاؤها الحاد الذي يقلقه وثوريتها الجامحة التي تسحره. الطلياني سليل العائلة الأندلسية التركية الأصول يتزوج ابنة الفلاح الريفي المعدم: البطل يمارس الثورة ولا يكتفي بالتنظير لها كما يفعل الكثير من الرفاق. رفيق نادر لا انفصام لديه.

تشتغل زينة في التعليم الثانوي فتخاف أن يأكلها، لذلك تفعل المستحيل للالتحاق بالجامعة. يظهر أن التعليم المدرسي مقبرة للكفاءات يدخله من افتقد الإمكانات المادية لمتابعة الدراسة ليكتشف بعدئذ عجزه عن مغادرته. يفضل خبزه على حلمه.

عمل عبد الناصر المناضل الرافض في جريدة رسمية متخصصة في تلميع حذاء النظام. الثوري يتحول إسكافيا. تكشف الرواية واقع الصحافة أواخر عهد بورقيبة: تعاني الحصار الرقابي و التسلط السياسي، ويشكل التملق والانبطاح وسيلتين ناجعتين للترقي داخل دواليبها التي يتحكم فيها مخبر يملي على مدير الجريدة ما يملأ به ما حُذف. “ضع شريطا أسود يكتب داخله تحذير من الإفراط في السرعة أو نصيحة للمترجلين أو التنبيه إلى أخطار التدخين” هذا هو الحل الجاهز الذي يقدمه الرقيب لملء فراغ تركه حذف مقال لا يلائم توجهات الدولة.

يطبق صحافيو الجريدة ومثقفوها تعليمات المخبر، لكن المثقف ليس مثاليا. ينقل المبخوت، على لسان زينة، موقفه من المثقف الذي سبق أن عبر عنه في أحد الحوارات الصحفية. المثقف عنده ” من ينقد دون حسابات. ينقد كل شيء. يطلق النار على كل ما يتحرك… يطرح الأزمة بالسؤال والاستفهام. يخلخل السائد”. هذا تنظير طوباوي، فلننزل إلى الواقع. كثرة الثقافة في تونس تسبب مشاكل كثيرة تبدأ بمعاقرة الخمر لتصل إلى الإحباط واليأس والعدمية والجنون القاتل أحيانا.

ينتقد الروائي تونس بكثير من الحرقة، هي خانعة خاضعة بسبب قابليتها للفتح والإخضاع، ركبها الكثيرون وسيركبها آخرون. نزل بورقيبة وركب بن علي. تونس آلة عمياء لسحق الذكاء، تمجد الخانعين المتزلفين وتحتقر الأذكياء. يُحمل المسؤولية لشعبها الذي ” يرتعد من ظله، يصفق لكل قادم، ينسجم معه مهما كان، يقبل القهر ويسهم فيه عن طواعية”. عندما كان الأمراء يتقاتلون في فاس كان التجار والفقهاء يرفعون شعار ” اللهم انصر من صبَّح”. إنهم مع الغالب. الديكتاتورية يصنعها العبيد الخانعون المتملقون.

إن ضعف البلاد وخوف شعبها هما سر قوة الدولة . الدولة البوليسية هي الداخلية كما يصرح رئيس الجريدة في لحظات سكرهومكاشفته، والداخلية تعرف كل شيء بفضل التقارير الدقيقة التي ينجزها مخبروها. تتغاضى عن اليساريين وتعتبر رائحة الخمر دليل براءة، وتتتبع تحركات الإسلاميين الذين يهددون استقرارها وتعتبر رائحة المسك دليل إدانة. الاستقرار مطلب النظام والداخلية تحققه بكفاءة.

تعمقت الهوة بين عبد الناصر وزينة بسبب غرقها في كتبها، فعاش علاقات عاطفية جنسية مع نساء أخريات، آخرهن ريم التي شخصت اضطرابه النفسي. يكتشف القارئ أن البطل ضحية اغتصاب في طفولته: الفاعل أخرق كان يشتغل ناظر مسجد الحي قبل أن يترقى إماما. في كشفه عن حادثة الاغتصاب، يُـرَكًز المبخوت على الجانب الجنسي في انتقاد الإسلاميين.

وإذا كان عبد الناصر قد تعرض للاغتصاب في طفولته فإن زوجته هي الأخرى لم تسلم منه. ربما القصة حكاية جيل أو شعب بأكمله مغتصب رمزيا من قبل النظام.

اختار الكاتب سرد الحكاية على لسان راو منكشف يراقب أكثر مما يشارك، صديق مقرب للبطل وزميل لزوجته في الدراسة، يعرف كل شيء ويتدخل بشكل مباشر متحدثا بضمير المتكلم، بل إنه أحيانا يخاطب القارئ مباشرة موظفا ضمير المخاطب.اختيار قد يكون سببه هرب الروائي من تهمة السيرة الذاتية التي نفاها فيما بعد عن عمله.

لقد ركزت “الطلياني” على مرحلة مفصلية في تاريخ تونس، وقد اعتمد المبخوت على شكل سردي “تقليدي” في نقله تفاصيلها؛ شكل لم يتردد في الدفاع عنه عندما اعتبر التجريد الروائي وصل إلى طريق مسدودة، بحيث وصلنا إلى روايات لا نستطيع أن نتجاوز فيها عشرين صفحة. إنها حكاية بطل إشكالي تونسي متردد بين ذاته وعالمه، يعيش تمزقا في مجتمع جاهل فض، حمل قيما أصيلة فشل في تثبيتها في واقعه المنحط المطبوع بالخنوع والاستسلام والاستلاب، مما جعل بحثه عبثيا ووجوده منحطا لا جدوى منهما.

‫تعليقات الزوار

5
  • كاتبة مغربية
    السبت 15 يوليوز 2017 - 22:04

    رواية متميزة. الكاتب جعلني أستعيد أحداثها و شخوصها و عوالمها.

  • الحسين بنبادة
    الأحد 16 يوليوز 2017 - 10:00

    قراءة هادئة في متن روائي صاخب بعوالمه وشخصياته وأبعاده الكونية. ما أحواجنا إلى مثل هذا الفن الذي يضع الأصبع على الجرح العربي المخضب بدماء التخلف والقهر الاجتماعي والسياسي. شكري المبخوف عرفناه ناقدا عميقا وهو الآن روائي مبدع أطل بعمل سردي باذخ. تحية على هذه المقال.

  • Youssef Lamrabet
    السبت 29 يوليوز 2017 - 22:27

    عمل جيد و متميز استعملت فيه اسلوب التشويق لحث القارئ علي إتمام القرائة .
    اعجبني واصل عملك و مني لك التشجيع وكامل الاحترام

  • Zakaria chmikhou
    السبت 29 يوليوز 2017 - 22:31

    رواية متميزة. مثابرتك الدائمة وعملك المتواصل يؤهلك للتفوق و التميز تابع ثم تابع ،

  • علي
    السبت 29 يوليوز 2017 - 22:32

    رواية مميزة تشعرك بانك في قلب الحدت

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة