السلوك التنظيمي وبعض أبعاده المنسية

السلوك التنظيمي وبعض أبعاده المنسية
الجمعة 18 غشت 2017 - 18:48

إن ما يميز تخصص علم النفس الراهن كممارسة مهنية هو كونه أصبح قادراً على تقديم خدماته في شتى مجالات الحياة الحديثة؛ إذ لم يعد يقتصر فقط على الحالات الإكلينيكية المرضية الشاذة، بل شمل أيضا مجموعة من القطاعات المهمة كالعسكرية والأمنية، والمؤسسات التعليمية والإصلاحية، ووكالات الأنباء والدعاية، وكذا كبرى الشركات والمصانع التي تتوفر على رأس مال بشري مهم.

فقبيل حدوث الثورة الصناعية في الغرب، كان صاحب المصنع هو الذي يقوم بإدارة جميع الأمور التسييرية، مما يحد من تدخل موظفيه ويجعل منهم مجرد آلات منفذة للأوامر، لكن بعد انتشار موجة التخصص نشأت عدة أقسام ومصالح لتسيير شؤون الموظفين، بما في ذلك تغطيتهم الصحية، امتحانات الترقية وبرامج التكوين، إلخ. وتجدر الإشارة إلى أن معظم التنظيمات الكبرى في أوروبا وأمريكا تتوفر على أخصائي نفسي متخصص في مجال الشغل يسهر على نجاح وتطوير سيرورة العمل، وخلق أجواء ودية ملائمة تحفز على الإنتاجية وكذا التطوير الذاتي.

بيد أن في سياقنا التنظيمي، الاستعانة بالأخصائي النفسي غالبا ما يطغى عليها نوع من التحفظ والتردد نظرا لتوارث بعض التمثلات المغلوطة التي قد تلخص في عبارة “ليس من الضروري طلب خدماته فنحن لا نتوفر على موظفين ذوي خلل عقلي”، دون تكليف أنفسهم عناء البحث عن مختلف مهام وممارسات هذا الأخير. كما يجب الإشادة ببعض المبادرات التي قامت بها مجموعة من المؤسسات وعلى رأسها الأمن الوطني، الدرك الملكي، المندوبية العامة لإدارة السجون وعدة مراكز إستشفائية جامعية، التي تمثلت في تنظيم مباريات توظيفية لفائدة الأخصائيين النفسيين وعيا منها بأهمية الحفاظ على الصحة النفسية وسلامة موظفيهم.

ولعل أهم المواضيع التي أثارت اهتمام العديد من المنظرين والباحثين والممارسين هو حقل السلوك التنظيمي الذي يسعى إلى كشف ودراسة السيرورات السلوكية الناتجة عن تفاعل الفرد مع الجماعات وكذا مع البيئة التنظيمية؛ حيث يشتق من عدة مجالات علمية كعلم النفس الاجتماعي، علم النفس الصناعي والتنظيمي، والعلوم التسييرية الإدارية.

ومن بين خصائص هذا المجال الدراسي الدينامي أنه يركز على التشخيص والتنبؤ بمجموعة من الأبعاد الغامضة والمركبة التي يا ما شكلت حاجزاً منيعاً أمام بعض المتدخلين غير المتخصصين، بما في ذلك “تقييم شخصية العامل ودوافعه، مستوى حافزيته ورضاه العملي، طريقة تفكيره وإدراكه للعمل، ميوله وقيمه، قابلية تفاعله داخل فريق العمل، إمكانية التوفيق بين حياته المهنية والعائلية ومدى انخراطه في ثقافة ومعايير وأهداف المنظمة”. ويقصد هنا بالمنظمة كل تنسيق عقلاني لنشاط ما من طرف مجموعة من الأفراد بغية تحقيق هدف معين؛ وذلك بالاستناد إلى تقسيم عملي جيد للمسؤوليات والتراتبية على حد السواء.

كما يمكن تعريف السلوك التنظيمي، باختصار شديد، بكونه عبارة عن سلوكات ناتجة عن الأفراد داخل قطاع تنظيمي محض. ونعني بالسلوك كل الاستجابات التي يصدرها الفرد بعد تلقيه عدة مثيرات خارجية أو داخلية محيطة به كالتواصل والتعبير عن المشاعر والانفعالات، إدراك صعوبات ومخاطر العمل، القيام بأعمال لا مسؤولة أو غير إنتاجية، إلى غير ذلك من المظاهر…

نأخذ على سبيل الذكر لا الحصر، عامل الدافعية الذي يعتبر من المؤثرات الأساسية التي تلعب دوراً محوريا في تحديد وتأطير سلوك الأفراد؛ فالرغبة في النوم، مثلا، تأتي من واقع طبيعي فطري هو الإحساس بالعياء، فبمجرد إشباع هذه الرغبة ينجلي هذا السلوك إلى حين تكرار ظهوره. من هنا تتضح لنا جليا أهمية الدافع في التأثير على تركيز الفرد وأدائه الفردي والجماعي. كما توجد علاقة ترابطية بينه وبين الحافزية وجب شرحها؛ إذ إن الحوافز هي التي تعزز قوة الدافع كتلقي المنحات أو الحصول على ترقية ما؛ فهي كذلك بمثابة محرك يشبع حاجيات ورغبات العامل، خاصة إذا كانت تتوافق مع أهدافه وطموحاته. كما لا يخفى عنا وجود نوعين من الحوافز، منها ما هو ذاتي داخلي كالإحساس بالرضا عن أجواء العمل، والمردودية، ومستوى تطوير المهارات، وهناك نوع ثان خارجي مستمد من البيئة الخارجية كالمحيط العائلي، والأصدقاء، والمجتمع ككل.

كما حدد عالم النفس الأمريكي “أبرهام ماسلو” الحاجيات الأساسية للفرد في خمسة مستويات على شكل سلم هرمي موضحا بذلك أن: الحاجات البيولوجية هي الأولى والضرورية لحياة الإنسان كالأكل والشرب، التنفس، النوم والنسل، وتأتي بعدها: حاجة الأمان: ويمكن أن تلخص في الإحساس بالسلامة الجسمية والنفسية حيث لا يتحقق إشباعها إذا لم يتوفر شرط إشباع المستوى الأول. ثم نجد في المستوى الثالث: الحاجة إلى الانتماء، بمعنى أن الفرد في حاجة إلى الانصهار داخل جماعة ما والشروع في التفاعل مع كافة أفرادها. وتأتي في القسم الرابع: الحاجة إلى تقدير الذات كالشعور بالاحترام والاعتراف من الآخرين، مما يساهم في تكوين الثقة في النفس. أما في المستوى الأخير، فنجد الحاجة إلى تحقيق الذات وتأكيد وجودها بتطوير القدرات والكفايات وتحقيق عدة نجاحات تتلاءم مع أهداف الفرد.

ويمكن أن نستحضر كذلك مصطلح ”التنشئة التنظيمية” كمظهر من مظاهر التعلم الاجتماعي التي تعد من بين الأبعاد المهمة داخل مادة السلوك التنظيمي لكونها تتضمن عدة جوانب نفسية واجتماعية متعلقة بسيرورة التكوين الأولي؛ حيث يتم تلقين القيم، الأعراف والسلوكات التنظيمية المرجوة تماشيا مع سياسة المنظمة وهويتها وأنشطتها الداخلية. وهي في حد الذات، مرحلة انتقالية من وضعية موظف جديد إلى عضو مندمج وفعال غالباً ما تحتاج نوعا ما من المرافقة، والتشجيع والتوجيه المستمر حتى يحصل هناك توازن بين الضرورة للامتثال والحفاظ على ثقافة المنظمة، وكذا محاولة تفعيل الطموحات الشخصية المرتبطة بالابتكار والإبداع بالاستفادة من تبادل الخبرات مع الموظفين المجربين ذوي الأقدمية، مما يحد من إمكانية حدوث صراع الأجيال ويعزز الفعالية الجماعية ويحسن في الوقت نفسه من سمعة التنظيمات.

لذا فتغيير النظرة إلى الأخصائي النفسي في العمل أصبحت ضرورة ملحة مع الحث على الاهتمام بالصحة النفسية وسلامة الموظفين. ويمكن تحقيق ذلك بإعطائه جميع صلاحيات تصميم برامج الاستثمار الإيجابي ونهج سياسة الانفتاح والدعم النفسي المستمر، مما قد يساعد التنظيمات على الحصول على فهم دقيق لسلوك العاملين وكذا كيفية التعامل معهم بطريقة إجرائية احترافية واتخاذ كل التدابير السلوكية التصحيحية الهادفة إلى الحفاظ على سيرورة العمل وفق مقاربة تعاقدية تشاركية مندمجة داخل مناخ تنظيمي صحي.

*أخصائي وباحث في علم النفس والشغل والتنظيمات

[email protected]

‫تعليقات الزوار

1
  • Lamya
    السبت 19 غشت 2017 - 14:09

    شكرا للكاتب على هذا المقال المهم. تنظيم و تدبير و تاطير و تنظيم و تطوير الموارد البشرية , لازال ناقصا في المغرب. فهذه شعبة تدرس في الجامعات و تدخل فيها عدة مواد متخصصة في عالم الشغل, كعلم النفس و علم الاجتماع و علم الاخلاق Ethics بالاضافة الى مواد علمية اخرى لتحفيز و تكوين وجلب والمحافظة على الكفاءات في الشركة او الادارة العمومية…اما ربط علم النفس بالخلل العقلي, فهذا جهل و تخلف,لان هناك امراض نفسية و سلوكات و ظواهر اجتماعية خاصة بعالم الشغل مثلا Mobbing في الشغل او Burnout بسبب الاجهاد في العمل, وهناك حاجة لعلم الاجتماع ايضا مثلا اليات لحل النزاعات داخل الشركة بشكل حضاري….وكتبت في هذا المجال مجلدات و بحوث كثيرة.

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 7

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء

صوت وصورة
“أش كاين” تغني للأولمبيين
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:52 1

“أش كاين” تغني للأولمبيين