في أنطولوجيا الشر

في أنطولوجيا الشر
السبت 1 دجنبر 2018 - 21:33

ينطلق الفيلسوف الفرنسي بول ريكور Paul Ricœur في مبحثه الفلسفي حول الشر ودلالته الأنطولوجية من الحقيقة الوجودية التي يجب الاعتراف بها: هو أن الشر واقع بشري وقد تجلى في تأثيره في كل مراحل التواجد الإنساني. وعليه فإن كان الشر حقيقة لا مفر منها، فلماذا الشر؟ وهل الحكمة من وجوده في العالم البشري حتمية لتأسيس المعيار الأخلاقي؟ هل الشر طبيعة تكوينية في الإنسان أم أنه ذو طبيعة خارجة عنه؟ وإن كان كذلك فمن المسؤول عن وجوده؟ هل للإنسان قدرة على التخلص من الشر، أم أنه يكتفي بالتعايش معه وقبوله كحقيقة أنطولوجية ملازمة لوجوده؟

إن الشر في معناه لدى بول ريكور “ليس حقيقة نظرية بقدر ما هو تجسيد للفعل الإنساني؛ فلا يمكن فهم الشر والنفاذ إلى عمقه إلا بواسطة الفعل أو الممارسة التي تصدر عن الإنسان. وهو طبعا قرار ناتج عن اختيار وحرية ووعي، باعتباره لصيقا بإرادة الإنسان ومن اختياره، دون الاختباء وراء الطبيعة لتبريره. لأن ضعف النفس البشرية يجعل الشر ممكن الحدوث، فأي انفلات لقوة العقل هو نقطة البداية لدخول امبراطورية الشر. فالسبب كامن في النفس الإنسانية ذاتها، حيث يبدأ الظهور مع الشعور بالنقص واضطرابات الشخصية وتعدي الذات على الآخر بمختلف أساليب القهر والتعذيب، مما يؤدي إلى توليد العنف والسلطة الظالمة”1..”. فالإنسان لا يمكنه أن يخترع سوى الفوضى والشرور الإنسانية كذلك، لأن الكلام هو قدرة قد يتجلى عبرها الشر.

إن اللاعصمة Infaillibilité لدى الإنسان كما تناولها ”ريكور” كمفهوم، هي شرط تواجد الشر، لأنه لو افترضنا وجود مثال الإنسان المعصوم، فإنه علينا الاعتراف النهائي بتواجد الخير دون نقيض له في هذا العالم. غير أن الحقيقة المنطقية تفرض علينا الاعتراف بتلك الهشاشة، وذلك الضعف الإنساني الذي يلاحق قراراته وأفعاله لحظة بعد لحظة؛ فارتباط الشر بالإرادة الإنسانية يجعل من الحرية شرطا من شروط وجوده واتساع نطاقه. فالشر إذن يتولد من صميم الحرية، مما يؤدي إلى تحمل الإنسان للمسؤولية، وهذا هو الأساس في حضور معنى الأخلاق لكبح الشر وتلجيمه. إن هشاشة الإنسان تعني أنه يعيش في تصارع الأهواء والرغبات، حيث ينكشف ضعفه من خلال عدم قدرته على إشباع كل ما يرغب فيه، لأنه محدود بقدرات وفرص توفرها حالة الظروف الخارجية. فسعْي الإنسان الدؤوب لتحقيق مطالبه النفسية دليل على أن السعادة هي هدفه الأساسي. يرى ريكور أن “اللاتناسب القائم يبن اللذة والسعادة يكشف بدوره عن هشاشة الإنسان العاطفية، وعن الإمكانية الأساسية للصراع. والشعور وحده كان بإمكانه أن يكشف هذه الهشاشة” .(2)فضعف النفس أمام مطالبها ولذاتها وشعورها بالعجز يعد فرصة من فرص الوقوع في الشر، ولذلك يلجأ الإنسان إلى تغطية هذا العجز والنقص من الناحية العملية إلى التسلط، ومن ثمة نشوب الحروب والاستغلال.

إن محدودية الإنسان تلك هي التي تجعل الشر ممكنا، واللاعصمة تمثل حالة ارتكاب الخطأ، كنقطة الضعف تبرز عدم قدرة الإنسان على المقاومة، لأنه يجمع مختلف الأضداد. ومهما تجلت قدرته في الفعل والتغيير والتحرر من مختلف حتميات الواقع، إلا أنه ضعيف أمام نفسه، فهو غير قادر على إحداث ذلك التناسب المطلوب بينه وبين ذاته، وبينه وبين العالم الخارجي.

ومن ثم ف “القول بأن الإنسان خطاء، يعني أن المحدودية النوعية الخاصة بالكائن الذي لا يتطابق مع ذاته هي الضعف الأصلي الذي ينبثق منه الشر. ومع ذلك فالشر لا ينبثق من هذا الضعف إلا لأنه يتموضع” (3). فوقوع الإنسان في الخطأ ناتج عن ضعفه ومحدوديته، أي أنه نسبي في تقدير أحكامه، والشر يتواجد أينما يتواجد الإنسان. لكن إذا كان الشر كيانا يلاحق الإنسان رغما عن إرادته واختياره، فما الذي يسببه الشر للإنسان؟ وما مدى تحديه لمطلب السعادة التي تمثل أقصى غاية بشرية؟

إن الإجابة عن مثل هذا السؤال تدفعنا حتما إلى الحديث عن الوعي الإنساني بالخطأ ومدى اعترافه به. وهذا الاعتراف مبني عن اختيار ومسؤولية الإرادة لدى الإنسان التي تدفع به إلى الفعل وتجسيده في الواقع. مما يشكل لدى ”بول ريكور” تجاوزا للمقاربة الطبيعية التي تعتبر الشر والعنف من مظاهر الطبيعة البشرية كما ورد ذلك مع ”سيحموند فرويد” خصوصا. وعليه فكيف يستطيع الإنسان إذن أن يتجاوز مستوى الحزن و المأساة والتراجيديا التي ترسمها له الحياة بعيدا عن حريته؟ يجيب ‘ ريكور: “إن الخطيئة، التألم والموت، تعبر جميعها بكيفيات مختلفة عن الواقع الإنساني في وحدته العميقة” (4)، مع ما يستدعي ذلك من تبني فكرة مقاومة الحزن، وذلك بالفعل بالممارسة وتجاوز هاجس الألم والموت التي تسيطر على فكر الإنسان. إن الحكمة الفلسفية تدعونا إلى تجاوز أفق المأساة عبر تطويع الشر؛ فإذا كان الإنسان لا يستطيع مهما حاول أن يستأصل الشر من وجوده، فانه بإمكانه أن يتعايش معه وفقا لظروف ومعطيات يوفرها الإنسان لنفسه وغيره، كي يؤكد جوهره وفطرته الخيرة، وذلك بالتخلي عن اللذات والشهوات التي تقوده نحو الخطيئة، وتوجيه حياته وفقا للقيم الأخلاقية والإنسانية الكونية.

****

1- بول ريكور: الإنسان الخطاء: فلسفة الإرادة، ترجمة عدنان نجيب الدين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الأولى 2003. ص16*

2- عدنان نجيب الدين: مسألة الشر في فلسفة بول ريكور، دار الفكر اللبناني، الطبعة الأولى، 2008، ص 148

3- بول ريكور: صراع التأويلات: دراسات هرمنيوطيقية، ترجمة د. منذر عياشي، مراجعة د.جورج زيناني، دار الكتاب الجديدة المتحدة،الطبعة الأولى ،2005 ، ص .35

4- بول ريكور: الإنسان الخطاء: فلسفة الإرادة، ترجمة:عدنان نجيب الدين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الأولى 2003، ص222.

*باحث وكاتب

‫تعليقات الزوار

9
  • peace
    الأحد 2 دجنبر 2018 - 05:34

    مفهوم الشر و بالتالي الخير اختلف فيه العلماء و الفلاسفة, كل حسب انتمائه الاديولوجي, و بالتالي كيف يجب التعامل مع الانسان الشرير لتجنب شره?!

    هذا نقاش طويل جدا, على اي من منظوري الخاص و هو منظور اسلامي صوفي, ان الانسان لا يولد شريرا, اي براءة الاطفال, بالقول انهم "ملائكة" لكن عندما يبلغ الانسان يبدا بالتخلي عن براءته شيئا فشيئا و لذلك يجب لجم بوادر الشر فيه منذ الطفولة المبكرة وو تربيته على التحكم في نفسه الامارة بالسوء بفعل الخير و الايمان بثماره و التفكير الايجابي بان الغلبة للحق و ان الباطل زهوق و ايضا التحكم في الغرائز اللذات, بالتدرب على التخلي عنها من حين لاخر او كلية, في ايطار المسموح به, ما يسمى بالحلال الطيب و الابتعاد عن الخبائث و الفواحش, و انه يمكن الوقوع في الخطيئة و لكن يجب الاعتراف بالخطا و طلب المسامحة و العفو. و لكن هذا كله لن ينجح الا بالايمان بالحق و هو الله و انه هو القوي المتين, و انه رغم ضعف الانسان يمكن استمداد القوة من قوة الله, بان تكون عبدا له, اي ان تتخلى عن حريتك المطلقة او عن حريتك بشكل مطلق. و تطلب التسليم و هو الاسلام لتدخل من باب السلام و تظفر بالنجاة..

  • arsad
    الأحد 2 دجنبر 2018 - 06:41

    مفهوم الشر هو التضادد الماء والتراب شر على شرارة النار ويولد الانسان كوعاء فارغ يحتاج الى الإمتلاء و بالغذاء يمتلء بطنه حتى اذا تفتح بصره يبدأ الامتلاء بالمعرفة والتعليم وإذا بلغ الرشد واشتد عوده دخل مرحلة الاختيار هنا تسقط حجة الفيلسوف الفرنسي بقوله الشر هو عمل الانسان لكون الشر كان موجودا قبل الانسان في تضادد مع الخير فالغذاء والمعرفة والتعليم اول ما يعرض على المهد ولطبيعة البشر كونه ينطلق من مرحلة الضعف فالمعرفة تحتمل النسيان والتعليم عنده يحتمل الخطأ وهذان الفعلان هما باب من ابواب الشر اذا الانسان في أصله مكرم نظيف والشر هو الداخل عليه.

  • زينون الرواقي
    الأحد 2 دجنبر 2018 - 11:41

    الشر طاقة توجه وتستخدم في غير محلها وبشكل سلبي متى حالت دون تفجرها الإبداعي ظروف عدة تتظافر لتجعل الفرد يرى من خلال ذاته كمحور محروم مما يدور حوله وينعم به الأخرون الكل هدف لشظايا هذه الطاقة المكبوتة .. ومتى لم تتفجر طاقة الشر هذه ارتدت داخلياً على صاحبها فيما نسميه بالدارجة " بالفقسة " وما اصطلح على تسميته طبّياً و علمياً se faire de la bile المشتقة من la vésicule biliaire أي المرٌارة وإفرازاتها وهو ما يعادل بدارجتنا " طرطقات له المرٰارة " وهي حالة ناتجة عن الضغوط النفسية الداخلية المرتبطة بكثرة الهموم والسوداوية .. الشرٌ إذن يبقى ردٌ فعل تجاه عوامل خارجية تحيط بالانسان ولا اعتقد ان يكون الانسان شريرا بطبعه ان وضع في بيئة لوحده دون احتكاك مع غيره من البشر …. يتبع ..

  • بلال
    الأحد 2 دجنبر 2018 - 12:13

    فكرة الشر والخير هي فكرة انسانية حضارية تختلف باختلاف الازمنة والامكنة ، لا وجود لها في الطبيعة طبعا ولا هي من طباع الانسان فالطبيعة تعرف فقط التوازن او اللاتوازن

  • الشر طريق النجاح .
    الأحد 2 دجنبر 2018 - 13:24

    في المسلسلات والأفلام العربية ، كما في الرسوم المتحركة دائما ينتصر الخير والطيبة والسذاجة على الشر والضغينة والحقد . ولكن في الحياة الحقيقية غالبا وبفارق كبير تكون الغلبة للشر والضغينة ويكون الخسران للخير والطيبة والسذاجة .

  • مغربية
    الأحد 2 دجنبر 2018 - 16:09

    مفهوم الشر فعلا يرتبط باهداف و غايات الانسان في الحياة ، فمهما كانت الغاية سعادة او ما وراءها فالشر سيتجلى بشكل من الأشكال أمامه ، لذلك حتى لو كانت كل الوسائل متوفر لديه و تمنعه ان يجد مبررا للشر الذي يتعرض له او ينهجه فهو بالضرورة يجد نفسه في دائرة تجد مساحة للشر فيها ، لذا نرى انه لا خير بدون شر و لا شر بدون خير كطبيعة متأصلة في الانسان .. و كما قيل الشر يوجد حيثما يوجد الانسان بمعنى ان الشر تطوقه النظرة الذاتية لهذا الأخير ، لذا قد يكون تطويع الشر شرا و العكس صحيح ، مبدأ الثنائية هذا يجعل الانسان دائما في صراع مستمر و على هذا يحيى الانسان ..

  • تصحيح ضروري
    الأحد 2 دجنبر 2018 - 21:11

    صاحب المقال يترجم:
    اللاعصمة Infaillibilité?!

    وهذا للأسف غير صحيح، بل العكس هو الصحيح:
    العصمة Infaillibilité
    واللاعصمة faillibilité

    Ricoeur parle des violences de l'infaillibilité
    ريكور يحذر من العنف الصادر عن العصمة وليس العكس.
    وهذا العنف الصادر عن العصمة يبدو للوهلة الأولى غريباً ، لكن لتقريبه للأذهان يكفي أن نتذكر المثل القائل: طريق الجحيم مفروش بالنيات الحسنة. فمثلاً جرائم النازية والفاشستية والستالينية والدواعش كلها عنف إجرامي صادر عن اعتقادهم في عصمتهم من الخطأ وكل من يعارضهم فهو عندهم خاطئ ويجب القضاء عليه. بول ريكور يتوجس خيفة من كل أصحاب المشاريع الشمولية حتى الفلسفية منها وهذا هو قصده من عنف العصمة وهذا عكس ما ذهب إليه المقال.
    وشكراً

  • على ما أظن
    الإثنين 3 دجنبر 2018 - 14:17

    الإنسان الذي يتعلم ويترسخ لديه قيم نبيلة نظريا وفعليا ومن أهمها أن لا راحة في الدنيا بل عمل و تعب ومرض ويجب الصبر و التحمل و التعود على القناعة و عدم الطمع و الرغبة في الاستحواد على ماعند الغير و سلبه بالقوة و الحيلة والمكر.
    أٍى أن هذه طريقة فعالة للتقليص من وجود الشر داخل المجتمع ، أضف إلى ذلك نشر قيم التضامن و التآزر و المحبة و المساعدة و عدم إقصاء و تهميش أي فئة من المجتمع . و الله أعلم .

صوت وصورة
الفهم عن الله | رضاك عن حياتك
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | رضاك عن حياتك

صوت وصورة
أسرار رمضان | نعمة الأم
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 17:00

أسرار رمضان | نعمة الأم

صوت وصورة
أطباق شعبية | اللوبيا
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 16:00

أطباق شعبية | اللوبيا

صوت وصورة
الحيداوي يغادر سجن الجديدة
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 11:32 4

الحيداوي يغادر سجن الجديدة

صوت وصورة
ملفات هسبريس | ثورة البيتكوين الثانية
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 11:00 1

ملفات هسبريس | ثورة البيتكوين الثانية

صوت وصورة
إفطار رمضاني داخل كنيسة
الثلاثاء 26 مارس 2024 - 09:31 3

إفطار رمضاني داخل كنيسة