هل الحديث عن دور الأفراد ذكورا وإناثا وما أسدوه من خدمات لمجتمعاتهم أو المجتمعات الإنسانية بصفة عامة أمر بعيد عن الواقع ومشاكله وأحداثه؟ هذا سؤال كثيرا ما طرح عندما يتعلق الأمر بإحياء الذكريات التاريخية وطنية كانت أو دينية خاصة أو عامة، والواقع أن السؤال وان كان وجيها إلا أنه في الواقع يخفي خلفيات ومواقف معينة لدى البعض.
وإذا أخذنا الأمر مأخذ الجد واعتبرنا التساؤل او السؤال بريئا، فإن الحاضر في الواقع هو امتداد للماضي كما ان المستقبل يؤسس على الحاضر، ومن هنا كان انفع وأجدى للناس التذكير الدائم والمستمر وهو ما دعا إليه القرآن والكتب السماوية إنما هي تذكير برسائل ودعوات رسل سابقين، ومن أجل ذلك جاء الأمر «وذكرهم بأيام الله» فلذلك نحن نذكر بهذه الأيام ما كان منها وما يجب أن يستخلص منها من عبر وتوجهات.
وإذا نظرنا اليوم إلى واقع الناس في العالم العربي والإسلامي وما هم فيه من مرج وهرج، وما يعيشون من أحداث كبرى يتعلق بها المصير المقبل لكتلة من الناس تقترب من مليار ونصف من البشر فإنه يمكن القول إنها أحداث ووقائع تحدد مصير البشرية كلها، وعن هذا المصير الذي يحب المخلصون أن يكون أفضل وأحسن يجب التذكير بدعاة الخير والساعين إلى القسط والآمرين به من الناس. هؤلاء الذين يتم اغتيالهم وقتلهم أحياء وأمواتا «إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم».
ومن بين الآمرين بالقسط من الناس في القرن العشرين رجل شهيد ومفكر صلب –سيد قطب- رغم ما يقال ورغم كل ما كتب فهو لا يزال كما كان فكره فاعلا ومؤثرا.
ولذلك فإن هذا التبشير الاستهزائي ولاشك ربما سيلحق الذين قاموا بإعدامه.
وقد استحضرنا ذكراه من خلال ما كتبه عنه علال الفاسي ومن خلال مقال له حول (العبيد)، والعبيد في عرفه هم جوقة المنافقين وضعفاء النفوس من الناس، ولاشك أن ما قاله ينطبق على كثير من الحالات في عالمنا العربي والإسلامي في هذه الظروف التي تحياها المجتمعات الإسلامية بكل أبعادها السياسية والعقدية والفكرية وغيرها.
***********
بين تصورين
(الموت في سبيل الفكرة هو الصعود إلى مستوى الفكرة) هذه الجملة أو قريب منها علق بذهني منذ أمد القراءات الأولى، وهي لمفكر غربي اختلف الناس في وصف ما جرى وأدى إلى وفاته أهو حادث عادي، أو انتحار لوضع حد لحياة لم يكن ليطيقها؟ وهو الذي اختار اعتبار حياة الناس وواقعهم عبثا، ومن هنا اعتبره النقاد فيلسوفا أو مفكرا منظرا للتوجه العبثي العدمي، مع نخبة من أدباء ومفكرين آخرين، وفي هذا الوقت الذي كان هذا الأديب يرى الواقع أعظم وأكبر من تغييره اختار الطريق الذي يناسب عدميته ليضع بها حدا لحياة العبث، كان هناك صنف آخر من الناس له تصور آخر يرى أن الحياة ليست عبثا وإن كان الواقع شاقا ومضنيا ولكنه قابل للإصلاح والتغيير والحياة صالحة لئن تعاش وحب الحياة هو الذي يدفع الناس إلى اتخاذ مواقف عبثية، وهذا المفكر العبثي يلتقي مع هؤلاء عندما يرى أنه لا يجب أن نحب الحياة إلى الحد الذي ننتحر فيه من أجل هذه الحياة، هكذا كان يرى الأديب المفكر الفرنسي “البيركامو”.
الأمر المطلوب
وحب الحياة أمر مطلوب، ولكن من وجهة النظر الأخرى باعتبار الحياة طريقا للخلود ولحياة أخرى يسعد فيها الإنسان بما يحققه من طمأنينة وهناء، وما يشعر به من سكينة النفس وهدوء البال، وهذه لا تكتسب إلا مع الإيمان ليس بالحياة كما هي، ولكن بالإيمان الذي ينظر إلى حياة أخرى يستحضر فيها عظمة الخالق وقدرته فالإيمان بالله واستحضاره مع ذكره يكتسب الإنسان قوة المواجهة وهي قوة معنوية أشار إليها القرآن في قوله: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب» كما أشار إلى حياة التمزق والعبث في آية أخرى (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق) فهما نموذجان من الناس ومن الواقع الفكري الذي عرفه الفكر الإنساني في مختلف العصور.
ذكرى تقديم النفس
ولا نريد في هذا الحديث أن نتوغل في الموضوع أكثر لأنه ليس هدف هذا الحديث شيئا من ذلك وإنما هي إشارة أملتها لحظة استحضار ذكرى تقديم النفس قربانا لفكرة وعقيدة من طرف بعض الأصفياء الذين اختارتهم العناية لتعبد أمامهم طريق الشهادة في سبيل العقيدة ومن ثم الصعود إلى مستوى الفكرة هذا الصعود الذي هو التبرير الوحيد للدفاع عن الفكرة والعقيدة عندما يختار الطرف الآخر القيام بما يفضي إلى ذلك.
يوم متميز
نحن اليوم في اليوم التاسع والعشرين من شهر غشت والذي يذكرنا بنفس التاريخ عام 1966م، ولهذا اليوم في تاريخ الصراع الفكري والعقدي في دنيا الناس مكان متميز لا تزال آثاره سارية المفعول بين الناس أنه اليوم الذي انتهى فيه أجل داعية ومفكر أحب الحياة وأحبها نقية طاهرة نظيفة، فكانت الشهادة هي السبيل إلى هذه الحياة أنه اليوم الذي نفذ فيه حكم الشنق إلى الموت على الشهيد “سيد قطب”.
الفعل العاجز
ولكن هذا الشنق لم يقو على إعدام ذلك العمل الجبار والمشروع الفكري والعلمي الذي ترك الظلال التي يفيء إليها الناس عند حرارة القيظ وجفاف النفوس من برد الإيمان واليقين ليشعروا بالاطمئنان والسكينة (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). كما لم يتم بذلك الشنق انتهاء صرخة الدعوة إلى العدالة الاجتماعية. بل اشتد أمر هذه الدعوة والإلحاح في سبيلها، وما يصرخ به أبناء بلده وغير بلده من أقطار الدنيا إنما هو الشوق إلى العدالة الاجتماعية، ورغم أكوام الأوراق التي كتبها البعض في موضوع الدراسات التراثية، فإن التصوير الفني في القرآن لا يزال رائدا في الموضوع وهكذا دواليك مما تركه من دراسات وكتب تسعى لإسعاد الإنسان في دنياه وآخرته.
وإذا كان الصراع احتدم من جديد في بلده وفي غير بلده وهو صراع يحضر فيه فكره سلبا وإيجابا حسب اختيار الناس وفهمهم فإن الموضوعية الممكنة تفرض أن لا يحمل الرجل وفكره ما اعترى فهم الناس من عياء وكلل، أو ما اختاروه أسلوبا للمواجهة، فالرجل لم يكن هدفه ما حاول ولا يزال يحاول خصومه تثبيته في العقول حول بعض المقولات مثل الحاكمية والجاهلية والإيمان والكفر فمسؤولية تأويل هذه المقولات يتحمل نتائجها المؤولون والمحرفون والمنحرفون.
استحضار وشهادة
وفي سياق حمل كلامه محمل التوجه الحق والصادق نستحضر اليوم أمرين آتيين في هذه المناسبة الأمر الأول شهادة مفكر وصديق ومناضل عايش الرجل مفكرا أو داعية ومجاهدا واختار بعض الناس نكران هذه العلاقة رغم توثيقها كتابة وأعنى بذلك شهادة المفكر والمجاهد علال الفاسي في (سيد قطب) إذ كتب في بحث نشره في حينه ثم أعيد نشره ضمن كتاب “إعلام من الشرق والغرب” جمع وتحقيق الأخ الدكتور عبد العلي الودغيري ونقتبس منه بعض الفقرات التي يقول فيها والمقال بعنوان: سيد قطب الداعية الإسلامية الكبير:
القضاء الموجه
افتتح المرحوم علال الفاسي مقاله بالحديث عن الجو الذي كان سائدا أثناء المحاكمة والتي فوجئ الناس فيها بالسرعة التي صدر بها الحكم وتم تنفيذه في الحال، وهذه حالة يمتاز بها القضاء في بعض الدول التي تنعدم فيها أصول المحاكمة العادلة واستقلال القضاء وهذا أمر لا يزال قائما في دنيا العروبة والإسلام فقال:
لا مبالاة
«لقد قضى القضاء، وحق الأمر. لقد حكم بالإعدام على الداعية الإسلامية الكبير المجاهد الشهيد سيد قطب وعلى ثلة من رفاقه.
وعلى الرغم من الاستعطافات التي وجهتها النخبة المسلمة في العالم تطلب العفو والقناعة بما دون الإعدام من الأحكام، فإن الحكم قد نفذ واغتصب روح البطل الإسلامي سيد قطب واثنين من إخوانه.
إن ذلك مصير الدعاة إلى الخير. ذلك ما يترقبه المجاهدون الذين يقولون الحق ولو كان مرا».
الدعوة بالحسنى
لقد اتهم سيد قطب وصحبته بالتآمر على الدولة وعلى قتل رئيسها. ونحن لا نعلم من سيد قطب إلا الدعوة بالحسنى والصدق في القول وعدم التستر في شيء من أعماله. فإن كان تم تآمر من معارضي النظام العرب، فلا نشك في أن سيد قطب بريء منه. وإن الفئة التي يتزعمها لا تدين بغير النضال السلمي والدعوة بالحكمة والكتاب.
التآمر العلني
وهل يعقل أن يتآمر في السر من يعلنون عن أنفسهم أنهم معارضون، ويسطرون في مؤلفاتهم آراءهم بكل صراحة ووضوح؟ لقد جرت العادة أن يتظاهر المتآمرون بغير ما يسرون. وأن يتمسكنوا ليتمكنوا. ولم يكن ذلك طبع سيد قطب ولا سبيله في عمله.
إنما نحن مع ما نعلمه عن سيد قطب. ويعلم الله أن ما نعلمه عنه هو الدين المتين، والعلم الواسع، والنضال المستميت. لا لشيء. لا لدنيا يصيبها أو جاه يتبوأه، أو عدو ينتقم منه، ولكن لينجح القرآن، ويسمو بنو الإسلام.
المجاهد النزيه
وعلال الفاسي يرى في الشهيد سيد قطب الرجل النزيه ويقول في ذلك:
كان سيد قطب مجاهدا نزيها، حريصا على الخير، عامر القلب بالله، طاهر النفس، زكي الضمير، يحب الخير للناس كما يحبه لنفسه، وكان إلى جانب ذلك عالما كبيرا، مقتدرا ومفسرا لكتاب الله، نافذا لأعماق معانيه ودارسا اجتماعيا بصيرا.
شهادة معرفة
وعلال الفاسي لا يتحدث عن سيد قطب لأنه التقى به في الشارع او قرأ له مقالا أو كتابا أو قرأ غيره فكر سيد قطب وحرفه وحدثه بهذا التحريف في الكلام ولكنه قرأه وتعامل معه وخيره ودخل معه في نقاش وسجال بل وتصويت وفي هذا يقول:
«ولقد عرفته في آخر هذه المرحلة، حينما كان يشرف على مجلة العالم العربي، وقد أخذ مني أحاديث عن القضية المغربية، عني بنشرها والتعليق عليها في هذه المجلة، ثم كتبت بطلب منه بحثا عن السياسة الأمريكية إزاء العرب، نشر في هذه المجلة. وكان له اثر كبير في الأوساط الأجنبية، إذ ترجمه كثير من المعلقين الإنجليز والأمريكان.
الصلة القوية
وعن متانة العلاقة بينهما وقوتها يقول علال:
ولقد ازدادت صلتنا متانة حينما كنا نتصل في الاجتماعات العامة التي كانت تعقد في المركز العام للإخوان المسلمين.
وبعد عودته من رحلته للتخصص في أمريكا، وقد آمن بأن المجتمع الغربي غير صالح للاقتداء، وتأثر لقضية الزنوج، رجع ينظر في الإسلام، فألف كتابه العدالة الاجتماعية، فأخذنا نتناقش في موضوعه، ولاحظت عليه –رحمه الله- ملاحظات ترجع إلى حكمه على معاوية –رضي الله عنه- وبعض أقاربه. فقال لي: سأنظر في الأمر. وفي الطبعة الثانية جاءني بنسخة من الكتاب إلى مكتب المغرب العربي، وهو مغتبط. وإني لأراه جالسا إزائي وهو يقول مبتسما: إنك ستجد مناك قد تحقق في هذه الطبعة.
التجاوب والتعديل
وعن المناقشة والأخذ والرد بينه وبين سيد قطب يتحدث علال الفاسي ويذكر كيف عدل بعض مواقفه تتجه لهذه المناقشة في كتابه العدالة الاجتماعية فيقول:
لقد راجع الأستاذ كتابه، وأعاد تهذيب الفقرات المتعلقة بالصحابة رضوان الله عليهم. وكنت قد قرأت كتابه الذي أهداه لي قبل ذلك بقليل: الإسلام والسلام العالمي، فقلت لسيد: إني قد فرغت من قراءة كتابك عن السلام، وقد سررت به كثيرا حتى إني أعده من قلائل الكتب التي تمنيت، بعد فراغي من قراءتها، أن لو كانت من مؤلفاتي. فسر بذلك كثيرا، وقال لي: إني أعتز بهذا التقدير وأعرف أنه صادر من قلب صادق، كما صدر من قبل نقدك لجوانب من كتاب العدالة الاجتماعية.
عدم الدقة
وإذا كان بعض الباحثين المغاربة لا يريدون ان يعترفوا بالحقيقة أو لم تمكنهم السرعة وعدم الدقة في الأحكام إلى نفى بالمرة معرفة علال الفاسي بسيد قطب فإن علال يقول عكس ذلك حيث يقول:
عكس الادعاء
لقد عاشرت سيد قطب زمانا من مقامي في القاهرة، وتعاونت معه حينما كان يصدر جريدته الأسبوعية سنة 1953. وكنت أكتب فيها. واجتمعنا في المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في القدس، برئاسة علامة العراق المجاهد السيد أمجد الزهاوي، أمد الله في عمره، فرأيت من قطب المناضل المتواضع الذي لم يكن يتطلع لشيء من المناصب أو الألقاب، بل يتأثر حينما يرى بعض أصدقائه يتهافتون عليها.
وشاية ومواخذة
ويتحدث علال الفاسي عن التعاون في المؤتمر الإسلامي الذي عقد بالقدس وكان يرأس اللجنة السياسية ومعه فيها سيد قطب وكيف وشى بهم احد المشايخ.
ولقد عملنا معا في لجنة المؤتمر السياسية التي كنت أترأسها، وصلينا وأعضاء هذه اللجنة بأثر وشاية من بعض شيوخ فلسطين المشهورين ذوي الصلة بغلوب باشا. وكان هذا الباشا الانجليزي قائدا عاليا للجيش العربي، ومهيمنا، بمقتضى ذلك، على توجيه كثير من المصالح في الأردن. وقد استطعنا أن نوضح الأمر للمسؤولين المسلمين، وأن نبلغ الأمر لجلالة الحسين الذي أصلح الأمر بما عرف عنه من حنكة ومعارضة لغلوب.
علال في بيت آل قطب
ويتحدث علال الفاسي عن زيارته لبيت آل قطب عند اطلاق سراح شقيقه محمد قطب ويغتنمها فرصة للحديث عن محمد قطب ومكانته الفكرية فيقول:
ثم التقينا في القاهرة. واعتقل سيد قطب وأخوه، فيمن اعتقلوا من الإخوان المسلمين. ثم أطلق محمد، فزرته في بيت آل قطب بحلوان مهنئا بسراحه، وسائلا عن سيد، فأكد لي ما به من آلام، وما يشغل به وقته من عبادة وكتابة. وكان ذلك آخر عهدي بهذه الأسرة الكريمة. ولكن اتصالي بكتابة القطبيين سيد ومحمد كانت دائمة.
الحديث عن الظلال
ويتحدث الزعيم علال عن تراث سيد قطب وكتاباته ويخص الظلال بالقول:
ومن المعلوم أن سيدا كتب تفسير القرآن: في ظلال القرآن. كتب نصفه قبل اعتقاله، ثم كتب نصفه الآخر وهو في السجن. وكان النظام العربي يسمح بطبع ما يكتبه من السجن وبرواجه دون أن يرى المسؤولون في ذلك ما رآه الذين أدانوه اليوم.
وظلال القرآن، تفسير يرتفع بقطب إلى قمة علماء الإسلام السلفيين. وهو في عمقه، وفي ظروف كتابته في السجن مضاه للمصلح الكبير الحافظ ابن تيمية.
ويمتاز ظلال القرآن بالتلخيص لأحسن ما كتبه العلماء المسلمون في الموضوعات التي يطرقها دون حكاية للأقوال، ولا تنويه بالخلافات، إلى جانب اختيار أحسن التأويل التي يحتاج إليها العصر، والتي توفق، في ذهن الناشئة المسلمة، بين روح القرآن وروح التقدم الحديث.
هذه بعض المواقف التي ارتأيت اقتباسها من البحث والدراسة التي كتبها الزعيم علال الفاسي عند استشهاد الرجل كما كتب قصيدة شعرية رائعة جاء في مطلعها:
في ظلال القرآن دوما مشيت
قد أنرت السبيل للسالك الحر و
لم تزل في ضمائر الناس هدايا
فــــــيفعليك السلام حيا وميتا
نورك البهي احترقت
نبويا آياته ما شرحت
العبيد
وفيما يلي نص المقال للشهيد (سيد قطب) عن عبيد العصر:
ليس العبيد هم اللذين تقهرهم الأوضاع الاجتماعية، والظروف الاقتصادية، على أن يكونوا رقيقا، يتصرف فيهم السادة كما يتصرفون في السلع والحيوان، إنما العبيد الذين تعفيهم الأوضاع الاجتماعية والظروف الاقتصادية من الرق، ولكنهم يتهافتون عليه طائعين.
العبيد هم الذين يملكون القصور والضياع، وعندهم كفايتهم من المال، ولديهم وسائلهم للعمل والإنتاج، ولا سلطان لأحد عليهم في أموالهم أو أرواحهم. وهم مع ذلك يتزاحمون على أبواب السادة، ويتهافتون على الرق والخدمة، ويضعون بأنفسهم الأغلال في أعناقهم، والسلاسل في أقدامهم، ويلبسون شارة العبودية في مباهاة واختيال.
العبيد هم الذين يقفون بباب السادة، يتزاحمون وهم يرون بأعينهم كيف يركل السيد عبيده الأذلاء في الداخل بكعب حذائهن كيف يطردهم من خدمته دون إنذار أو إخطار، كيف يطأطئون هاماتهم له فيصفع أقفيتهم باستهانة، ويأمر بإلقائهم خارج الأعتاب، ولكنهم بعد هذا كله يظلون يتزاحمون على الأبواب، يعرضون خدماتهم بدل الخدم المطرودين، وكلما أمعن السيد في احتقارهم زادوا تهافتا كالذباب.
العبيد، هم الذين يهربون من الحرية، فإذا طردهم سيد بحثوا عن سيد آخر، لأن في نفوسهم حاجة ملحة إلى العبودية.
لأن لهم حاسة سادسة.. أو سابعة، حاسة الذل.. لابد لهم من إروائها، فإذا لم يستعبدهم أحد أحست نفوسهم بالظمأ إلى الاستعباد، وتراموا على الأعتاب، يتمسحون بها، ولا ينتظرون حتى الإشارة من إصبع للسيد، ليخروا له ساجدين.
العبيد، هم الذين إذا أعتقوا وأطلقوا حسدوا الأرقاء الباقين في الحظيرة، لا الأحرار المطلقي السراح، لأن الحرية تخيفهم، والكرامة تثقل كواهلهم، لأن حزام الخدمة في أوساطهم هو شارة الفخر التي يعتزون بها، ولأن القصب الذي يرصع ثياب الخدمة هو أبهى الأزياء التي يتعشقونها.
العبيد، هم الذين يحسون النير لا في الأعناق ولكن في الأرواح، الذين لا تلهب جلودهم سياط الجلد، ولكن تلهب نفوسهم سياط الذل. الذين لا يقودهم النخاس من حلقات في آذانهم، ولكنهم يقادون بلا نخاس، لأن النخاس كامن في دمائهم.
العبيد، هم الذين لا يجدون أنفسهم إلا في سلاسل الرقيق، وفي حظائر النخاسين، فإذا انطلقوا تاهوا في خضم الحياة وضلوا في زحمة المجتمع، وفزعوا من مواجهة النور، وعادوا طائعين يدقون أبواب الحظيرة، ويتضرعون للحراس أن يفتحوا لهم الأبواب.
والعبيد مع هذا جبارون في الأرض، غلاظ على الأحرار شداد، يتطوعون للتنكيل بهم، ويتلذذون بإيذائهم وتعذيبهم، ويتشفون فيهم تشفي الجلادين العتاة.
إنهم لا يدركون بواعث الأحرار للتحرر، في فيحسبون التحرر تمردا، والاستعلاء شذوذا، والعزة جريمة، ومن ثم يصبون نقمتهم الجامحة على الأحرار المعتزين، الذين لا يسيرون في قافلة الرقيق.
إنهم يتسابقون إلى ابتكار وسائل التنكيل بالأحرار، تسابقهم إلى إرضاء السادة، ولكن السادة مع هذا يملونهم ويطردونهم من الخدمة، لأن مزاج السادة يدركه السأم من تكرار اللعبة، فيغيرون اللاعبين ويستبدلون بهم بعض الواقفين على الأبواب.
ومع ذلك كله فالمستقبل للأحرار. المستقبل للأحرار، لا للعبيد ولا للسادة الذين يتمرغ على أقدامهم العبيد. المستقبل للأحرار، لأن كفاح الإنسانية كلها في سبيل الحرية لن يضيع. ولأن حظائر الرقيق التي حطمت لن يعاد سبكها من جديد.
إن العبيد يتكاثرون. نعم: ولكن نسبة الأحرار تتضاعف والشعوب بكاملها إلى مواكب الحرية، وتنفر من قوافل الرقيق، ولو شاء العبيد لانضموا إلى مواكب الحرية، لأن قبضة الجلادين لم تعد من القوة بحيث تمسك بالزمام، ولأن حطام العبودية لم يعد من القوة بحيث يقود القافلة، لولا أن العبيد – كما قلت- هم الذين يدقون باب الحظيرة، ليضعوا في أنوفهم الخطام.
ولكن مواكب الحرية تسير؛ وفي الطريق تنضم إليها الألوف والملايين.. وعبثا يحاول الجلادون أن يعطلوا هذه المواكب أو يشتتوها بإطلاق العبيد عليها. عبثا تفلح سياط العبيد ولو مزقت جلود الأحرار. عبثا ترتد مواكب الحرية بعدما حطمت السدود، ورفعت الصخور، ولم يبق في طريقها إلا الأشواك.
إنما هي جولة بعد جولة. وقد دلت التجارب الماضية كلها، على أن النصر كان للحرية في كل معركة نشبت بينها وبين العبودية.
قد تدمى قبضة الحرية، ولكن الضربة القاضية دائما تكون لها. وتلك سنة الله في الأرض، لأن الحرية هي الغاية البعيدة في قمة المستقبل، والعبودية هي النكسة الشاذة إلى الحضيض الماضي.
إن قافلة الرقيق تحاول دائما أن تعترض موكب الحرية ولكن هذه القافلة لم تملك أن تمزق المواكب يوم كانت تضم القطيع كله، والموكب ليس فيه إلا الطلائع، فهل تملك اليوم – وهي لا تضم إلا بقايا من الأرقاء- أن تعترض الموكب الذي يشمل البشرية جميعا؟
وعلى الرغم من ثبوت هذه الحقيقة، فإن هنالك حقيقة أخرى لا تقل عنها ثبوتا، إنه لابد لموكب الحريات من ضحايا.. لابد أن تمزق قافلة الرقيق بعض جوانب الموكب.. لابد أن تصيب سياط العبيد بعض ظهور الأحرار، لابد للحرية من تكاليف، إن للعبودية ضحاياها وهي عبودية، أفلا يكون للحرية ضحاياها وهي الحرية؟
هذه حقيقة، وتلك حقيقة. ولكن النهاية معروفة، والغاية واضحة، والطريق مكشوف، والتجارب كثيرة، فلندع قافلة الرقيق وما فيها من عبيد تزين أوسطهم الأحزمة، ويحلي صدورهم القصب، ولنتطلع إلى موكب الأحرار وما فيه من رؤوس تزين هاماتها ميامم التضحية، وتحلي صدورها أوسمة الكرامة. ولنتابع خطوات الموكب الوئيدة في الدرب المفروش بالشوك، ونحن على يقين من العاقبة، والعاقبة للصابرين.
*أستاذ الفكر الإسلامي
دون محاكمة للنوايا, فان فكر سيد قطب ينطوي على العنف.
فكرة تكفير و تجهيل المجتمع ككل هي اصل المصائب, و هي تمييع للازمة وليس حلا .
فلم يكن الناس مقصرين في صلاة او صيام ….. ليتم حل المشكل بتقييم الناس ايمانيا
وسيد قطب كان ايضا من الرواد الذين طرحوا مفهوم" الحاكمية" الذي يستأثر فيه الحاكم بالسلطة "للتحكم باسم الله" في رقاب الناس و حياتهم….
و ما كان مطلوبا حقيقة هو الاعتراف بالتخلف الحضاري للمسلمين والعمل على ايجاد مخرج للعقم المعرفي الذي ساد الامة لقرون .
وان كان قد نادى"للحرية" فان معناها قد اختزل في تغيير النظام وهو كان احادي النظرة ولا يؤمن بالتعددية الفكرية و السياسية.
وكان ممن غلفوا الحراك السياسي بغيبيات و ألبسها لباسا دينيا, استثمره متطرفون قاموا باعمال عنف ونتج عنه ايضا ظهور حركات سياسية مسلحة تؤمن بان التغيير يقوم على القتل والظلم و التشريد……
واظن ان الاخطرهو كيف تعامل اتباع الفكر القطبي مع مؤلفاته والاسس المقترحة للتغيير.
الصراع في الأصل سياسي أيديولوجي وليس بحثا عن الحقيقة أينما كانت ! ف " سيد قطب " وبعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية أدرك إستحالة اللحاق بها علميا وتكنولوجيا ! وهو يرى الهوة تتسع بين من سكنه التخلف وبين من سكنه الإرتقاء إلى الأفضل !!!! فقال قولته الشهيرة ما مغزاه ( سخر الله لنا العالم المتطور فلا بأس من إستهلاك ما ينتج دون الأخذ بأسباب تطوره ) !!!! ربما هذه الجملة هي من رقته إلى وزير المعارف في عهد " عبد الناصر " وليس كونه أديبا ساهم في إبراز " نجيب محفوظ " كأول من أحسن نقده ! الأيديولوجيا أيضا من ورثت العداوة بين " عبد الناصر " وبين " قطب " ! فإفترقا وبحث الثاني عن طريق موصل إلى المجد الحضاري لكن من باب الدين ! فكتب كتابه " معالم في الطريق " لم يكتسب الشهرة فقد طبع بمئات النسخ داخل مصر ولم تستنفذ ! لكن معارضته الراديكالية ل " عبد الناصر " هي من ألبت الأخير ضده مع إزدياد أزمة المصريين الإقتصادية التي أصبحت تخيف الضباط الأحرار !
يتبع
فألقي عليه القبض ليحكم بالإعدام ! إعدامه من أكسب شهرته لتأخذ الأيديولوجيا طريقها في الإشتغال لتتدخل السعودية عدوة مصر وتطبع ' معالم في الطريق " بملايين النسخ فوزعتها في مواسم الحج مجانا ليأخذ الرجل شهرته التي أينعت جماعات إرهابية بٱلاف النسخ !
فمقولته " الأفكار تسقيها الدماء " هي من أولها شباب الجماعات الجهادية على أنها مفاتيح موصلة إلى جنات النعيم !
البحث عن المجد الحضاري يصيب بالجنون ! فكما جن " عبد الناصر " بإحياء مجد العرب ! جن التكفيريون قصد إحياء مجد الخلافة الإسلامية ! إنها نفس نماذج الفاشية كما عرفتها أوربا بداية القرن العشرين ! إحياء أمجاد روما هوس أوصل " موسيليني " إلى المشنقة ! وهوس " هتلر " أوصله إلى إحراق نفسه وألمانيا !!! الفرق بين فاشيتهم وفاشية الضفة الجنوبية للمتوسط والشرق الأوسط ! أن الأولى ذكية ! أما الثانية فغبية وهنا تكمن المشكلة !!!!!!!!!!!!
أشكر كل الأخوات والإخوة المعلقين من دون إستثناء كما لا يفوتني شكر هسبريس فمزيدا من التقويم !!!
إن ما أثارني في هذا المقال و وقف له شعر رأسي و كاد قلبي أن ينفطر له هو انعقاد المؤتمر الإسلامي في مدينة القدس المقدسة إبان الخمسينات طأطأت رأسي خجلا من حالنا الذي أصبحنا عليه فالقدس الطاهرة محرمة على الفلسطينيين من غير المقدسيين فما بالك بمن غيرهم من المسلمين و السبب الأبرز هو العلمانيون الذين تسلطوا على رقاب الأمة قوْدا إلى الهزيمة و كذلك من ضل من هذه الأمة و يحسب أنه يحسن صنعا كقطب الذي لم يترك أحدا إلا و كفره رغم دفاعك عنه أيها الكاتب فارجع إلى كتبه تجد الدليل و الله المستعان على ما تصفون….
امازيغ المغرب لا ينسون الخطاب الشهير للعنصري علال الفاسي حيث قال:
" ان مشكلتنا ايها الاخوة ليست مع الاستعمار كيف جلاؤه بل مشكلتنا مع البربر كيف جلاؤهم ّ" وكانت البداية باغتيالات رموز المقاومة الامازيغية وعلى رأسها عباس لمساعدي (1956 ) , وحرب الابادة على الاطلس والجنوب الشرقي (1957 ) , وجنوسيد امازيغ بالريف ( 1958-1959 ) , وسياسة التمييز العنصري المنتهجة حتى اليوم , وهذه هي السياسة البربرية الحقيقية التى يواصل ابناء الليوطي نهجها ضد طموح الشعب الامازيغي في الانعتاق والحرية واما الظهير البربري فيبقى اكبر اكذوبة صنعها العروبيون والقوميون المرتبطون اكثر بالشرق ودواعشهم القديمة والحديثة. ما اصاب السيد قطب رحمه الله من مصيبة الشنق تصيب مواطنين الدول العربية الاسلامية كل يوم لان الفكر والثقافة والدين والمذاهب الساءدة ترفض حرية التعبير والعقيدة والاختلاف والتعدد الذي خلقه الله.
تكفير الناس ثم مبدا الحاكمية للله يعنيان بالظبط انه ليس من حق الناس ان يختاروا لانفسهم!!!
المغالطة هي ان الحاكمية الالهية, في الاخير, هي حاكمية بو سندورة الذي يتكلم باسم الله; ثم يقولون لك انه لا وساطة و لا كهنوت في الاسلام!!!! بو سندورة الذي سوف يقطع رقبتك اذا لم تفعل ما يقوله لك و ليس الله; لانه لا احد يعرف اين هو هذا الله ما عدى ما يقوله عنه بوسندورة اي انه همس له بانه تتوجب طاعته طاعة عمياء!
الحصيلة ان هذا الاسلام ياخذ امرك منك, مثله مثل الاستبداد باسم فكرة مفارقة, انت لاتشارك و ليس لك الحق في المشاركة فيها!
الفرق الوحيد بين الاسلام و الاستبداد هو ما يقوله كل عن نفسه. احدهم باسم الله. و الاخر باسم الوطن او الاشتراكية او…و هل نصدق ما يقوله الاطراف عن انفسهم?! اما المواطن في الحالتين فهو مقصي و لا مجال له الا الادعان و تسليم الرقبة.
في اي عالم يمكن اعتبار علال الفاسي مرجعية لاي شئ!! رجل شبع وزارة و اقصاءا للمغاربة الاحرار, و لم يخلف الا اكواما من الكلام الملاك و مشاركة في مؤتمرات الهباء!!