نـوستالجيا: بين الورق .. والأرق

نـوستالجيا:  بين الورق .. والأرق
السبت 31 يناير 2015 - 23:55

أحببت كثيرات، عشقت نساء بالدزينة والعشرات، من كل لون، وطول، وهيئة، وَسَمْتٍ وَنَعْتٍ وصفة. فمن قصيرة الشعر، مكتنزة الجسم، عسلية العينين، سمراء بإهاب أبيض ثلجي ملفوح بشواظ الشمس، وَسَفْعِ الصحراء، إلى ذات الظفائر، والغدائر، طويلة القامة، هيفاء ممشوقة القوام، خضراء العينين، الغراء الفرعاء البيضاء، إلى القمحية الكستنائية المُبَقْبِقَة كالبلوط في مِقْلاَةِ الهيام، ونار الغرام. ليالي قضيت، يَنْتَهِبُني الخيال والأحلام، والسهاد، وأياما صرفت في” تعقب” المرأة التي أريد، وتريدني من دون أن أسعى إليها كما خمنت وقدرت. وإذًا، لِمَ تَخْضَرُّ الحروف بين أيدي أولئك الذين يبدعون، وتنقاد لهم الصور كما يشاؤون ويبتغون، وتَسْلَسُ الأوصاف لأناملهم، وَتُتْلِعُ زهرات الحب، وبنفسجات الذكرى، رؤوسها الرفيعات، ومدقاتها البليلات، في أوراقهم، وكنانيشهم، منبجسة كدِيَمِ الغيث الفجائية من محابرهم ومحاجرهم؟ .

وَلِمَ تَجِدْ فاتنات الدنيا، وحسناوات الكون والزمان، وَغِيدِ المرابع والمجالي، يقبلن عليهم، طائعات، خنوعات، راضيات مرضيات؟ هل هو سحر الأدب والفن؟ ونداء الصالونات العابقات بالبخور المفكك للعقد، والصُّرَر، والحشمة المصطنعة، والخفر المفتعل؟ .

قلت : كُنْ أديبا أريبا يا هذا، وَأَشِرْ بالبنان، تَأْتِكَ النساء طوعا “كالبنان”. ربما تكون المرأة في لاوعيي وراء إقبالي على القراءة، والعذاب من أجل الاستجادة، والغوص في الأوراق تلو الأوراق، ووصل الليل بالنهار، والنهار بالليل، في مسعى حثيث لأصبح مَا وَطَّدْتُ النفس عليه، وأرغمت الجسد العليل على استرضائه ومعانقته.

اكتشفت أن النساء اللواتي أحببت، وَهِمْتُ غراما بهن، وتمنيت لو كُنَّ لي، أو كانت واحدة منهن على الأقل في “حيازتي”، هل هن أشياء؟، وبخاصة امرأة “بَلْزَاكْ”، “امرأة الثلاثين”، “La Femme de Trente ans” التي مسحتها في ليلة واحدة، وَلَحسْتُ كلماتها وفقراتها وصورها في جلسة سريرية متفردة و”منعزلة “بجرادة” ذات يوم، ذات ليلة في بحر سنوات البرد، والظل، والعيش الكفاف، والألم أواخر ستينات القرن العشرين، اكتشفت أنهن/أنها، نساء ورقيات أثيريات وهوائيات، وأن الكُتَّابَ – الروائيين المبدعين، هم طبقة من المكبوتين، وَنفَرٌ من المحرومين زينت لهم أقلامهم، وسعة خيالهم، واستيهامات انعزالهم وانكفائهم، استحضار الأنثى، وإضفاء هالات من الأوصاف البديعة، والنعوت الرفيعة عليها، سمت بها إلى مراقي أبُّولُو، وَذُرَى “رضوى” والتَّوْباد”، وسلسلة “الهمالايا”، “وقُنَن” الهند الأسطورية. كوكبة نقلت كبتها وحرمانها إليَّ فأصابتني بِلَوْثَةِ “الحُبْسة”، وملأتني بالخجل الطفولي الذي استمر معي وقد شارفت على العقد الثاني من عمري أيامئذ.

لم أكن أعمى عن جميلات الحي والحارة، والبلدة، كما عن جميلات الصف الدراسي إعداديا وتأهيليا وجامعيا. لكن سطوة الرواية عربيا وفرنسيا – وكانت عُدَّتي وغذائي وخبزي اليومي بين الدروس والفروض- غَشِيَتْني لجهة نسائها المقدودات، الممشوقات، المنكسرات، المُتَأوِّدَات الماشيات “بخطو موقع كالنشيد” بتعبير الشاعر أبي القاسم الشابي.

كنت أقيس المحبوبة “الواقعية” الناتئة وجودا وكيانا وحضورًا، جَسدا ورُوحًا ونفسا، بالموصوفات و”الوصيفات”، كما لو كنَّ وصيفات الرسام العبقري سَلْفَا دُورْ دَالِي.. !

كما كنت أقيس من أحب وأعشق –يا لسذاجتي! – بالموصوفات شعرا وأغنية.. يتقفى خيالي –جزءا فجزءا- قَوَامَ الموصوفة، يتملى شعرها وأرْنَبَة أنفها، وَلجَيْنَ جبينها وهِلاَلَيْ حَاجِبَيْها، وخاتم فمها، ونصاعة بشرتها، ورهافة ريحها، وهمس صوتها، وضمور خصرها، ورخص أناملها، وإيقاع مشيها، وطقطقة كعبها ، يتقفاها من خلال ” آخر آه ” و” حبيبتي عُدتُ “، و “رموش”، و”ميعاد”، و”المَا يجري قدامي “، و”أنتِ”، و”وشاية”، و”راحلة”، و”قل لمن صَد وخان”، و”لاتتركيني”، و”ملهمتي”، و”الدار اللي هْناكْ” الخ..الخ، وهي الأغاني المضرجة بدمعي ، ونبض قلبي، وحبي، ومحاكاتي، وحفظي لها عن ظهر غيب،من دون نسيان مطربات ومطربي مصر، والعراق، والشام . فَبَصْمَتُهُم على وجداني وكينونتي، وشعري لايمكن نكرانها بحال. وأحببت الرواية المكرسة للحب والمرأة، والنهاية التراجيكوميدية، وهِمْتُ بالشعر الخالص الحائم حول الأنثى، المعتكف في محراب الحب والضنى والشوق، واللواعج، والشكوى، والبُرَحَاءِ. فصرت أُسْقِط “هلوساتي” وهذياني”، و”تخيلاتي” على التي / اللواتي أقترب منهن، طالبا ودهن، راغبا في أن يحْبِبْنَنِي، كما أحَبَبْنَ إِلْفِيسْ بْرِيسْلي،وخوليو إكليسياس، وأيقونات السينما ، ويتعلقن بي، كصغار “الكَنْغَرْ” بأمهاتهم، ألا أسْتَحِق ذلك وأنا القَارِضُ والمُقْرِضُ، ومُوَقِّعُ القَرِيضْ؟

ولطالما حدثت نفسي : يجب أن أُحب، وأن أكون مناط ملاحقات ورسائل منقوعة في التنهد والتسهد، والضراعة ، والدمع الهتون . قال السياب في لحظة إحباط وانكسار وأمنية :

ديوان شعر ملؤه غزل بين العذارى بات ينتقل

أنفاسي الحرى تهيم على صفحاته والحب والأمل

ياليتني أصبحت ديواني أختال من صدر إلى ثان

قد بت من حسد أقول له ياليت من تهواك تهواني

ياليتني صرت ديواني لأحط من صدر إلى ثاني

زَيَّنَ لي شيطان شعري، وهواي “اليَماني”، وهيمناتي الخلوية”، وشطحاتي الإبليسية، وبعض غروري، “زِيرِيَّتِي” التي لا يشق لها غبار، وَ”دُونْجُوَانِيتي” الملهمة الكاسحة، وَ”كَزَانُوفِيتي” الموهوبة الصاعقة، فظللت أنتظر التي تأتي والتي لا تأتي، ويا طالما انتظرت أن تسرع النساء إلي، ويأتين مهرولات ممغنطات فَيُغْدِقْنَ علي من رُضَابِهن ما ينعش الروح، ويبلسم الجروح، ويهيل الشعر علي فينثال انثيالا… وينشد إنشادا، فإذا الكُلُّ وُقُوعٌ وَرُكُوعٌ، واندهاش وانشداه، وسقوط في الفخ الغرامي المنصوب.

حبي الأول… حبي الحق، بعد الأوراق، والمتاه القرائي، والإغراق في الخَيال والخَبَال، أعادني إلي، إلى الجادة والواقع، وقال لي : ” الرْجوعْ لله “، كان حبي لجارتي، فتاة شقراء، طفت على قلبي، وانسربت في كتاباتي، وتسللت في ظلام الليل إلى مخيلتي ووسادتي، فزاحمت نساء الأثير، وفتيات القص والتحبير، ومخمل العز الوثير.

لست أدري لِمَ كنت أُبْعِدُها كل الوقت، ربما طمعا في نساء القص .. طمعا في ” بجماليون ” ـ التمثال الذي قد يتحول ـ يوماـ ثمنا لانتظاري وابتهالي ، إلى حقيقة ، إلى لحم ودم وفتون .

طَفَتْ تلك الشقراء ثم غاصت،ثم طفت كَ: “سرينة” ساطعة ناصعة، ثم خرجت مبلولة بماء اليقين، فتاة من لحم ودم وطين، لعلها من حُورِ العين، هي الفتاة التي استوت امرأة ثم رفيقة وقسيما وحياة، ثم أُمًّا تجبر خاطر الطفل الذي لا يزال، والذي لم يَزِدْ كما لم تَزِدْ، عن أمْسِ، إلا أصبعا على رأي أحمد شوقي.

‫تعليقات الزوار

4
  • متابعة ارقية ورقية
    الأحد 1 فبراير 2015 - 21:16

    المقطع من قصيدة الياس خوري المعنونة بيروت العروس نشر على مجلة الثقافة الجديدة ، المغربية . عدد 24 . سنة 1982

  • و آهات و آهات ، ا
    الأحد 1 فبراير 2015 - 21:31

    يقول ابو البقاء الروندي

    لكل شيء – اذا ما تم – نقصان . فلا يغر بطيب – العيش – انسان

    البيت مركب من مقاطع طويلة ( دا ، ما ، صا ، نو ، لا ، طي ، نو ) و هي مقاطع مكلومة لآهات الشاعر و اعتل بالتعديل على البيت تقليلا من آهات الشاعر بالمقطع

    لكل شيء – إذا ما تم – نقص . فلا يغر – بطيب العيش -شخص

  • و آهات و آهات ، ا
    الأحد 1 فبراير 2015 - 21:31

    يقول ابو البقاء الروندي

    لكل شيء – اذا ما تم – نقصان . فلا يغر بطيب – العيش – انسان

    البيت مركب من مقاطع طويلة ( دا ، ما ، صا ، نو ، لا ، طي ، نو ) و هي مقاطع مكلومة لآهات الشاعر و اعتل بالتعديل على البيت تقليلا من آهات الشاعر بالمقطع

    لكل شيء – إذا ما تم – نقص . فلا يغر – بطيب العيش -شخص

  • صوت من مراكش
    الإثنين 2 فبراير 2015 - 17:17

    عاشق الروح اذا كنت انت تقيم صلواتك بمعبد الحب الى اخر اه والامس القريب تذكرك رمال شطه شفتاك وعيناك ندائك ورقراق داك العظيم على شاطئيه كنت على ميعاد حذرا من غذر في الدرب كثير وفي غيابها كبير متئبطا رواية الاشواق وهي عود على بدء وشقراء من عرصات الضباب يعب السناء طرفها الاحور

صوت وصورة
تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:12 1

تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين

صوت وصورة
احتجاج بوزارة التشغيل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:02 2

احتجاج بوزارة التشغيل

صوت وصورة
تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 15:15 2

تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات

صوت وصورة
حملة ضد العربات المجرورة
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 11:41 20

حملة ضد العربات المجرورة

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 9

جدل فيديو “المواعدة العمياء”