الدولة العربية وتحدي التغيير

الدولة العربية وتحدي التغيير
الإثنين 2 فبراير 2015 - 00:57

تكثر التساؤلات عن الوضع الذي يعيشه العرب، هل يشهدون مقدمات صحوة أم انهيارا؟ أم أنهم يتعايشون بصعوبة مع بدايات ثورية (كما شهدتها مناطق أخرى في العالم) يشوبها العنف والتعرجات والتجزئة؟ على الأغلب دخلوا مرحلة ثورية طويلة المدى ستغير واقعهم وتلقنهم دروساً في أسلوب تعاملهم مع الاختلاف والتحكم السياسي والفساد المالي. مع الاسف لن يحدث التغيير والتحول الديمقراطي إلا بعد اجتياز دروب شاقة ودفع أثمان باهظة. وبينما يترنح العالم العربي كما لم يحدث من قبل إلا أنه يثور ويحتج ويحلم كما لم يحدث منذ زمن طويل. العرب من المحيط إلى الخليج متنازعون على واقعهم، وهذا يعني أنهم فارقوا حالة عدم الاكثرات. البعض منهم يريد الاستقرار بأي ثمن (وبالاخص الذين لديهم ما يخسروه من جراء الاضطرابات)، والبعض الاخر يريد نظاماً جديداً حتى لو تاسس عبر عنف مفتوح (بالاخص الذين يرون انهم لن يخسروا إلا بؤسهم من جراء الفوضى)، أما الفريق الأكبر فينتظر، وقد ينظم لأحد الفريقين إن وجد حلاً مرضياً وحلولا أكثر ديمقراطية وعدلا ومبادئ تحديث وبناء.

الأكثر واقعية أن الاستقرار لن يعود إلينا في آجال قريبة، وأن المستقبل سيشهد نزاعات طويلاً حول صيغ جديدة للحريات والحقوق. لا يمكن الاستهانة بما جرى في سوريا والعراق خاصة عندما تجرا تنظيم «داعش» على كسر «سايكس بيكو» وتجاوز حدودها. تحويل جهتي الحدود العراقية السورية إلى مشروع كيان من طرف جماعة لا تمثل دولة أو نظاماً سياسيا فيه اقرار واضح بمدى ضعف النظام العربي القديم الذي تاسس بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى رغم الاقتناع أن هذا الخرق للحدود قد يكون موقتاً، إلا أن ما جرى بين سوريا والعراق سوف يبقي التساؤلات عن الحدود وتجاوزها قائمة. ففي الماضي طرحت الحركة القومية العربية والناصرية والبعثيون والاشتراكيون العرب والقوميون السوريون كل الأفكار والتصورات حول الوحدة العربية، وحاليا يطرح تنظيم «داعش» من الباب الواسع والعملي مسألة الحدود القائمة بين اقطار عربية مشرقية.

وتؤكد مجريات الاحداث في بعض الدول العربية تنامي قدرة قوى صغيرة من حيث العدد والإمكانيات على تحدي قوى كبرى ، فهذا النموذج سواء كحزب الله في جنوب لبنان سابقا أو في العراق وسوريا حاليا («داعش») اومن خلال ثورات الربيع في عام 2011 سيحقق المزيد من الزخم ويعزز نمو نماذج جديدة. وهذا يعني أن قوة مماثلة (كما يقع حاليا مع الحوثيين في اليمن) ستسير على النهج الحوثي، يحدث هذا في المدن الكبرى وبلدان المشرق العربي وصولاً إلى اليمن حيث الكثافة السكانية العالية. وفي الحين الذي يسيطر فيه الحوثيين على اليمن , هناك أطراف يمنية كامنة قد تكشف فجأة عن قدرة كبيرة على التصدي والهجوم المضاد. وفي المراحل القادمة لن يتحقق للولايات المتحدة الدعم المحلي الذي يبيح لها التدخل العسكري المباشر. فقدرتها بل ورغبتها للتدخل العسكري تتضائل. المرحلة ملئ بالمفاجآت. وهذه سمة من سماتها.

ضعف النظام الاقليمي العربي كما رايناه لا يدل في الوقت نفسه على فقدان القوة والإمكانات. فالتاريخ له منطقه الخاص في ضبط حالات الضعف والقوة للدول والشعوب. الانهيار والتفكك الذاتي تقابله في الحين نفسه قدرة كبيرة على النهوض الذي يصاحبه حالة من حالات العنف والصراع. وبالفعل عندما ضعفت الدولة العثمانية التي سادتها لفترات سماحة نسبية ارتكبت بعض أفظع المذابح بحق الأرمن في1915، كلما نصبت المشانق في ساحة الشهداء في بيروت بلبنان، لكن هذا لم يغير من واقع انهيارها ونهاية حكمها. ومع ذلك فتسلط الأنظمة العربية وسلوكها الراهن إن لم يتضمن مبادرة مصالحة واستعداد حقيقي للتغيير والانتقال الديمقراطي فهي تسرِّع في تثوير قطاعات كبيرة من المواطنين وتغييرهم إلى النقيض.

إن القمع الذي يشتد في منطقتنا العربية خاصة في ظل احكام الإعدام التي تناولت العديد من المعارضين في مصر وما يجري من تعسف غير مبرر في اقطار عربية شتى (سواء كان ظاهراً أو مستتراً) لا يعكس حالة ارتقاء، بل يشي بانعدام الثقة وشعوراصحاب القرار بالخطر من كل التجمعات بل ومن كل اشكال التعبيرسلمية وغير سلمية. في الفترة الحالية والمقبلة سيكون الأخطر على النظام العربي هو سلوكه السياسي ضد التعددية والحريات العامة.

لقد تعامل النظام العربي، حتى الآن، مع الوضع بصفته معركة بقاء، بل قرأ مسببات الثورات العربية بصفتها مؤامرة من الخارج، النظام العربي نادرا ما اعتبر أن الثورات نتائج للبطالة والفقر والتحكم السياسي ومنع الحريات والتضييق على المعارضين وإغلاق الابواب أمام التغيير السلمي الهادئ. بل نادرا ما استنتج النظام العربي أن التعامل مع مسببات الثورات حاليا او في سابقا لا يتم بالارهاب والاستبداد بل من خلال سياسة إصلاحية مسؤولة. وتشتد ازمة العالم العربي لأن القضاء ومختلف المؤسسات والاجهزة اامنية والعسكرية والمنظومات الرسمية في شتى المجالات لا تتمتع بالكفاءة المطلوبة ( الولاء على حساب الكفاءة)، فلا هي مؤطرة بتكوين إداري وقضائي أو حتى عسكري حديث، ولا هي اتية من صيرورة إصلاحية، وهي تختلف كليا عن تلك الموجودة مثلاً في كل من إيران أو تركيا. لوتمكن النظام العربي في رسم طريق إصلاحي وتنموي لكانت اوضاعنا العربية أقل اضطرابا. المؤسسة في دولنا، باستثناءات قليلة، فاقدة للمشروع الوطني والإداري والسياسي بل و الفكري والإنساني المتصل بروج الإنجاز، وهي فاقدة في الوقت نفسه للتصورات والحلول التنموية. المؤسسة العربية الرسمية بلا روح. كل الأمل أن تفاجئنا باسلوب مختلف قبل أن تنفجر انتفاضات جديدة

من مسببات التراجع والضعف الحالي أن المؤسسة العربية تتعامل بالآلات القديمة على أمل أن ينتهي هذا الكابوس. لكن هذا الكابوس لن ينتهي مع استمرار مؤسسات غير فاعلة ولغة رسمية غير مؤثرة ومسؤولين غير مراقبين من طرف هيئات منتخبة أو شبه منتخبة. لقد انتهت، بسبب الإخفاقات، ابرز عناصر الشرعية الوطنية والتاريخية والسياسية . بل تظهر إشكالية تراجع أسعار البترول مؤخرا عن مزيد من التخبط والضعف في الخطط والبرامج ان كل أزمة أكانت سياسية او اقتصادية او اجتماعية تصبح علامة كاشفة لعجز النظام العربي لعدم جاهزيته لمواجهة التطورات. وفي مثل هذا الوضع سيؤدي عنف الدولة (الاستبداد،والقمع والتعذيب والأحكام المبالغ فيها) ضد نشطاء التعبير والنضال السلمي، سيؤدي حتماً إلى العنف المضاد من قبل فئات شعبية مختلفة المشارب. منطقتنا تختزن الكثير من الغضب، والغضب ناتج من انسداد الافق والبطالة والتعسف وعدم حيادية أجهزة الجيش والامن والقضاء وهيمنة قوى التحكم. لنتامل كيف افرز عنف النظام السوري والعراقي، الظاهر منه والمستتر (قبل الثورات بسنوات) تلك الوضعية التي أدت إلى انتشار مدرسة العنف في كلا البلدين. إن التيار الغاضب يكسب كل يوم مؤيدين جدد، فهناك تاييد له من قبل وسطيين وإصلاحيين رفضوا دائما افكار التطرف.

ونحن بعام 2015 تبدو الدولة العربية في مواجهة مع فئات اجتماعية تزداد حجماً وتسعى للتخلص من المعادلة الحالية من دون أن تحدد بوضوح شكل المعادلة المقبلة. في المراحل الاولى للثورات العربية في 2011 لم تكن الدولة هدف الثورة، بل كان الهدف الاطاحة برئيس وبالفئات المحيطة به كما جرى مع بن علي ومبارك والقذافي وعلي صالح وغيرهم. لكن الظروف تغيرت على مدى السنوات الثلاث المنصرمة الدولة هي ايضا واجهزتها السيادية المختلفة اختارت المواجهة وفق مبررات متعددة.

إن الموجة اللاحقة والموجات الوسيطة من الثورات تستهدف العديد من مؤسسات الدولة. الاستهداف قد يكون ناسفا في بعض جوانبه وغير مدروس العواقب، لكن قوى اساسية لازالت على الحياد حتى الان ستسعى لإنجاح التحدي مع الدولة من اجل إعادة تفكيكها وبنائها في إطار جديد: الجيش يجب أن يتحول إلى حامي للحدود ولا يهيمن على الاقتصاد والأعمال ومشاريع الريع وعلى القضاء أن يحكم استقلالية ونزاهة وأن لا ينحاز إلى السلطة التنفيدية على حساب المواطن وبقية السلطات والتنظيمات المعارضة، أما الأمن فيجب أن يحقق العدالة ولا ينتهك حقوق الناس. يجب تحرير الإعلام بحيث يبقى مهنيا ومحايداً فلا يوالي طرف على حساب طرف آخر.

في الآتي من الثورات: ثورات طبقية، ثورات بطالة وفقر، ثورات حقوق وعدالة وثورات مؤطرة بالدين والمذهب والطائفة، ولكنها في أغلبها تعكس الحاجة إلى الكرامة وضرورة الإنصاف. حتى الحين يتراجع تيار الإصلاح السلمي و الأهدأ وينتصر في عموم الشارع العربي تيارات ثورية وأخرى دينية متطرفة . عقْدنا سيكون صعبا، سيكون بلا منازع عقد غضب وانتفاضات وعنف، لكن مفاهيم العدالة الانتقالية ومبادئ الانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي ما زالت شعارات المرحلة… فهي الأخرى لن تفارقنا، الفكرة الديمقراطية بكل مستوياتها ستتحقق عندنا بعد دفع الثمن الباهظ.

‫تعليقات الزوار

5
  • عربي مغربي
    الإثنين 2 فبراير 2015 - 06:16

    شكرا لك استاذ على المقال.
    هناك اكراهات داخلية تتجلى في الأمية المتفشية في الدول العربية، واستبداد نخبة حاكمة بخيراتها مما أنتج حلقة فقر تدور فيها الشعوب العربية..
    حياد الجيش والأمن والقضاء غير مضمون في جل الدول العربية، فهم جزء من الطبقة الحاكمة والنخبة الثرية التي تتحكم في كل دواليب الدولة اقتصاديا وسياسيا واداريا واجتماعيا.
    المجتمع المدني المعارض يتأرجح بين طمع في الدخول مع الطبقة الحاكمة وبين انتظار تغيير ما من طرف النظام أة من طرف جزء من المجتمع يناضل بتطرف أو باعتدال سلميا أم بالعنف.
    هناك توظيف لاختلاف المذاهب الاسلامية والمسيحية ولاختلاف الأعراق (أكراد، أمازيغ،زنوج..) لتأجيج صراع مفتعل بين مكونات المجتمعات العربية لالهائها عن الهدف الحقيقي الذي يجب أن تصل اليه وهو اقامة دمقراطية حقيقية تصوغها الشعوب على غرار تونس.
    والعوامل الخارجية كمؤامرة لازالت سارية منذ سايس بيكو ووعد بلفور، وأمريكا في العراق والآن ضد داعش لترسيخ اتفاقية سايس بيكو والمحافظة على تفوق وأمن اسرائيل وعلى مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية ضد روسيا والصين.
    محاربة الأمية خطوة مهمة للتغيير من أجل وعي سياسي.
    شكرا

  • علي أحمد من الجزائر
    الإثنين 2 فبراير 2015 - 15:43

    الكتاب العرب كلهم يجترون معزوفة "إبادة" الآرمن .. والمغاربيون بطبعهم يتبعون المشارقة .. ولكن لا لوم عليهم فمعارف كلاهما تأتي من الغرب وخصوصا من فرنسا التي أبادت أكثر من 8 ملايين جزائري ولا تخجل من إطلاق كلمة "إبادة" على ما "حصل" للآرمن .. هؤلاء الكتاب جاهلون في الحقيقة بوقائع الامور فهم لا يعلمون حتى أن الآرمن أبادوا عام 1915 إي إبان ما سموه "إبادة" بحقهم أكثر من 500 ألف مسلم بشرق تركيا الحالية، ذبحوهم عن بكرة أبيهم وبمساعدة الروس .. وهم لا يعلمون أيضا أن هؤلاء الآرمن قد أبادوا تذبيحا عام 1992 أكثر من 630 أذري مسلم في ليلة واحدة وهو ما يعرف اليوم بإبادة خوجالي وأغلبهم كانوا من الأطفال والنساء والشيوخ بل وأكثر من هذا أنهم مازالوا إلى اليوم يحتلون أكثر من 20 بالمائة من مساحة أذربيجان .. عودوا إلى التاريخ من فضلكم وتذكروا أنكم مسلمون ولا تطلقوا الاحكام هكذا فقط

  • Kant Khwanji
    الإثنين 2 فبراير 2015 - 17:55

    "العرب من المحيط إلى الخليج" -عثمان الريسوني-
    هل,نحن الأمازيغ أصحاب الأرض والتاريخ, دكنا البلدوزر العروبي، و سوانا بالأرض كما أفتى بذلك قريبك الريسوني:"يجب تسوية القطع (الأمازيغ) من أجل البناء الكبير(العربي)"، صاحب نظرية "المواشي المعلوفة المحبوسة" حول النساء المثقفات المتمردات على قطيع الحريم؟

    "العرب من المحيط إلى سيوة"؟
    إختر من بين هؤلاء:
    1-"العرب الغزاة الجبناء"، تحالفوا مع البزنطيين لقتل الملكة الأمازيغية البطلة ديهيا شهيدة الوطن والكرامة والحرية(تاريخ الثعالبي)، و لم يستطيعو غزو الاندلس، لأنهم جبناء، ففتحها الأمازيغ
    2- الأدارسة هربوا من مذابح بني جلدتهم
    3- بنو هلال: و هم القرامطة، خربوا الحرم المكي و اقتلعوا الحجر الأسود، فنفاهم الخليفة العباسي إلى الشام، حيث نهبوا و سلبوا المسلمين و قتلوا الماشية و أطفال الكتاتيب، فنفاهم الخليفة مرة أخرى إلى مصر، ثم أطقلهم الخليفة الفاطمي على تونس(تاريخ الطبري)، هناك تلقوا الضربة القاضية على يد الأمازيغ الموحدين لما حاولوا إقتحام مناطق نفوذهم، فادبوهم على فسادهم في الأرض، وجلبوهم إلى دكالة الأمازيغية من أجل السخرة والجيش(B. Lugan)

  • hassan
    الإثنين 2 فبراير 2015 - 21:19

    مشكلة العرب هو انهم عرب اقحاح ابناء المناخ الجاف والقاسي ولذلك كانت تصرفاتهم تميل الى التجافي والقسوة ووأد البنات وشر ب بول البعير والنهب والسلب وقطع الطريق جاء القرآن بلغتهم لعلهم يهتدون، لكن ضنوا انهم اسياد الكون فاحتقروا الشعوب وحاربوهم باسم الاسلام ، كاتب المقال ضحية الاستلاب القومي العربي فهو يردد "عالمنا العربي" المجود في خياله، ايديولوجيا عنصرية تتنكر للتعدد الثقافي وتسمي الكائنات والفضاءات الجغرافية باسماء العرق العربي. طالما اعتبروا المطالب الثقافية للشعوب الغير العربية مؤامرة اجنبية ناسون او متناسون ان عدم الاعتراف المتبادل من اسباب عدم الاستقرار وهي صناعة عربية عربية.

  • Maghribi
    الإثنين 2 فبراير 2015 - 22:52

    لكي تتغير الدول "العربية" الى الافضل عليها ان تحذف لفض العربية و تغيره ب "الدولة الديمقراطية" …. فلا وجود لدول عربية و لا وجود لعالم "عربي" هناك عالم واحد يسمى كوكب الارض (في انتظار اكتشاف الحياة خارجه)

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 3

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 5

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال