تداعيات قانون الإسلام النمساوي الجديد على المسلمين في ألمانيا

تداعيات قانون الإسلام النمساوي الجديد على المسلمين في ألمانيا
الثلاثاء 3 مارس 2015 - 06:44

صادق البرلمان النمساوي في فيينا يوم الأربعاء الخامس والعشرين من فبراير / شباط من هذا العام بعد نقاش طويل استغرق زهاء ثلاث سنوات على تعديل “قانون الإسلام” الذي سُنَّ في عهد “إمبراطورية هابسبورغ” عام 1912م. وقد برر الائتلاف الحكومي (اشتراكي / محافظ) هذا التعديل بعدم انسجام القانون القديم والأوضاع الراهنة في النمسا، نافيا وجود أية علاقة أمنية مباشرة لتداعيات الهجمات الإرهابية الأخيرة في باريس وكوبنهاغن على مسار هذا التعديل أو توقيته؛ في حين رفض حزب الحرية النمساوي (يميني / قومي) – أكبر أحزاب المعارضة في البرلمان الحالي – القانون الجديد جملة وتفصيلا واعتبره غير كاف لمحاربة خطر الحركات الإسلامية ومؤكدا في نفس الوقت على عدم انتماء الإسلام الى النمسا تاريخا وثقافة.

تهدف الحكومة النمساوية من خلال هذا القانون بشكل عام إلى تنظيم وترشيد الحياة الدينية التي يمارسها أزيد من نصف مليون مسلم؛ يشكلون ستة في المائة من سكان النمسا؛ ينحدر معظمهم من أصول تركية وبوسنية ويحمل ثلثهم الجنسية النمساوية. وقد لخص “يوحنا ريدلر” المتحدث باسم “حزب الشعب النمساوي” في شؤون الاندماج وجهة النظر الرسمية للحكومة النمساوية تجاه التعديل القانوني بقوله “إن الهدف هو صياغة إسلام ذي طابع نمساوي يركز على الدين ويحد من التدخل الأجنبي، وهذا ما سيتحقق عبر هذا القانون لا محالة. إذ لا يوجد هناك تناقض البتة بين أن تكون نمساويا وفي نفس الوقت مسلما ملتزما”.

والقانون يصبو في صيغته الجديدة إلى محاربة الغلو الديني والتطرف لدى مسلمي النمسا وفك أي ارتباط لمؤسساتهم بالقوى الخارجية عبر حظر التمويل الأجنبي والحد من النفوذ الخارجي عليها. ويطمح أيضا إلى خلق إسلام وطني منسجم مع روح الثقافة الغربية الأوربية، ويحدد بشكل واضح ودقيق حقوق وواجبات المسلمين، كما يخول في نفس الوقت للدولة “التدخل لأجل تصحيح أي خلل طارئ إن اقتضى الأمر” كما صرح بذلك “يوحنا ريدلر” في تعليق له بهذا الشأن.

أثار “قانون الإسلام” الجديد جدلا واسعا في المجتمع النمساوي بين مؤيد يرى فيه نموذجا يحتذى به في حل مشاكل الاندماج في أوروبا ومعارض له يعتبره انتهاكا صارخا لحقوق المسلمين وإجحافا بهم. وقد أدى اعتماد هذا التعديل إلى تذمر واستياء كبيرين لدى معظم المسلمين ليس في النمسا فحسب بل وفي أوربا كلها. ففي حين ساندت اثنتان من كبرى المنظمات الإسلامية هذا القانون مع إبداء التحفظ على البنود المثيرة للجدل فيه، قابلته معظم المنظمات الأخرى – كـ “الاتحاد الإسلامي التركي للتعاون الثقافي والاجتماعي في النمسا” التابع لوزارة الشؤون الدينية التركية – بالرفض والتنديد؛ مؤكدة عزمها على رفع دعاوي قضائية ضده لدى المحكمة الدستورية العليا.

يبدو للوهلة الأولى وكأن القانون الجديد يحمل بين طياته إيجابيات كثيرة لمسلمي النمسا ويعطيهم حقوقا أوسع واعترافا أشمل مما كانا عليه من ذي قبل. فهو ينص على إضفاء صبغة “مؤسسة القانون العام” على الجماعات الإسلامية على غرار النظام الكنسي والطوائف الدينية الأخرى، كما ينص على الاعتراف بالأعياد الإسلامية وعلى ضمان حق المسلمين في الحصول على الرعاية الروحية التي تناسب ثقافتهم الدينية في مؤسسات الدولة، ومراعاة الأحكام الشرعية المتعلقة بالمأكل والمشرب فيها. كما يسمح لهم بالذكاة الشرعية وختان الذكور وكذا يخول لهم حق الحصول على مقابر إسلامية خاصة.

غير أن القانون الجديد لا يقف في تنظيم الحياة الدينية للمسلمين عند ضمان حقوق ممارسة الشعائر الدينية التي يكفلها الدستور النمساوي أصلا للجميع بل يتجاوز ذلك ليخوض في الشؤون الداخلية للجماعات الإسلامية. فهو ينص على وجوب تكوين أئمة المساجد في جامعات النمسا ابتداء من العام المقبل ويحظر جلبهم من الخارج، كما يفرض اللغة الألمانية في الوعظ والإرشاد والخطابة، ويمنع التمويل الخارجي للجمعيات والمساجد والعاملين في الحقل الديني الإسلامي من أئمة ودعاة وخطباء مما سيشكل عبئا ماديا ثقيلا ستنوء بحمله كثير من الجمعيات. والقانون على هذا النحو يحد بدرجة كبيرة من حرية واستقلالية المنظمات الإسلامية ويجعلها تحت رقابة الدولة بشكل لا يمكن ان تقبل به الجماعات والطوائف والمنظمات الدينية الأخرى كالمسيحية واليهودية وغيرها.

إن خطورة هذا القانون الجديد تكمن بشكل عام في خصوصيته بالمسلمين دون سواهم. فهو يشكل نوعا من التمييز الصارخ بين فئات المجتمع ويتنافى تماما مع مبدأ المساواة في الدستور النمساوي. ففي حين يُسمح للجماعات الدينية الأخرى الحصول على دعم مالي خارجي كالكنيسة الأرثوذكسية مثلا فإن قانون الإسلام الحالي يُجَرم نفس الفعل حينما يتعلق الأمر بالمسلمين. كما انه يرتكز على خلفية الهوس الأمني وعدم الثقة بالمسلمين في كثير من بنوده فيجعل بذلك أقلية دينية في المجتمع النمساوي تحت طائلة الاتهام العام ويضع مصير مؤسساتهم تحت رحمة الحكومات القادمة وأمزجة رؤسائها في تفسيرهم او تقديرهم للوضع الأمني في البلاد.

لقد لاقى قانون الإسلام الجديد في النمسا على العموم ترحيبا أوروبيا واسعا ظهر بجلاء ووضوح في دعوة وزير الخارجية والاندماج “سيباستيان كورتس” عضو “حزب الشعب النمساوي” لعرض القانون في كل من فرنسا والمانيا وسويسرا. وتدل هذه الرغبة في معرفة حيثيات القانون النمساوي بشكل غير مباشر على عزم الكثير من الدول الأوربية على نهج سبيل النمسا للتحكم في زمام الحياة الدينية للمسلمين والسيطرة عليها في مناخ سياسي واجتماعي عام يفسح لها العنان لتقنين أو سن أي شيء يوحي بالقضاء على شبح الإرهاب الإسلامي ويكبح جماح عملية الأسلمة الوهمية اللذين يهددان الأمن والثقافة الغربية في عقر دارهما، حتى وإن أدى ذلك الى الحد من حريات كثيرة ناضلت من أجلها الأجيال السالفة في أوروبا وأزهقت ارواحها في سبيل نيلها والاستمتاع بها.

ففي المانيا يساند ثلة من السياسيين ورجال الدولة خاصة من أحزاب التيار المحافظ كـ “الحزب الديموقراطي المسيحي” و”الاتحاد المسيحي الاجتماعي” المشاركيْن في الائتلاف الحكومي الحالي تطبيق قانون الإسلام النمساوي الجديد بشكل او بآخر وبمستويات متفاوتة وعلى رأس هؤلاء “نوربيرت لامرت” رئيس البرلمان الألماني. وحتى الذين يرون عدم صلاحية هذا القانون لألمانيا في الوقت الراهن فإنهم لا يعارضون مبدئيا فكرته ويرونها صائبة على كل حال كما صرح بذلك لإذاعة “أن – تي – في” وزير الدفاع السابق “فرانس يوزيف يونج” الذي يشغل حاليا منصب نائب رئيس مجموعة اتحاد المحافظين في البرلمان الألماني والمسؤول فيها عن الشؤون الكنسية والجماعات الدينية.

وربما كان السياسي “جونتير كرينجس” من وزارة الداخلية الألمانية والنائب في البرلمان الألماني في حواره مع صحيفة “بيلد” الواسعة الانتشار أفضل معبر عن وجهة نظر المحافظين حول هذا الأمر حيث يقول “إن مواطنينا المسلمين الذين يريدون ان يمارسوا دينهم في انسجام تام مع قوانيننا وأعرافنا يحتاجون إلى تأييدنا ومساندتنا، ولكن ما دام خطباؤهم يتلقون تكوينهم في تركيا أو يتقاضون أجورهم بأموال عربية، فإن الصراع بين الإسلام ومجتمعنا الحر سيزداد حدة لا محالة.”

أما “بيرناد لوكه” رئيس حزب “البديل لألمانيا” المعادي للإسلام فقد أكد في الجمع العام للفرع الولائي لحزبه في ولاية “شمال الراين وستفاليا” الذي انعقد يوم الأحد الأول‬ من مارس / آذار “أن الإسلام غريب بالنسبة لأغلبية الألمان إن لم نقل جلهم، وهذه الغرابة لا يستطيع أحد تجاهلها على الإطلاق”. وقد دعا بعض اعضائه إلى تعديل الدستور الألماني للتمكن من سن القوانين التي من شأنها أن تحد من حرية المسلمين في ممارسة شعائرهم الدينية كمنع بناء المآذن مثلا على غرار قانون سويسرا المثير للجدل.

إن خطورة هذا الحزب الفتي على المسلمين يكمن في صعوده الصاروخي في فضاء السياسة الألمانية وانتصاراته المتلاحقة في جل الانتخابات التي خاضها في الآونة الأخيرة مقارنة مع حجمه وحداثة وجوده في الساحة السياسية. فقد استطاع أن ينجح إلى حد بعيد في توظيف تنامي حدة العداء للإسلام في المجتمع الألماني لتحقيق مكاسب سياسية في مختلف الولايات الألمانية والذي أصبح يستأثر فيها بنسب مهمة‬ من مقاعد برلماناتها الواحدة تلو الأخرى على نحو من شأنه أن يجعل أمره يقض مضاجع المسؤولين في المؤسسات الإسلامية المختلفة قبل الأحزاب الأخرى المنافسة له. وليس ببعيد – إن استمر هذا الحزب على هذه الحال – ان يدخل قريبا في ائتلاف حكومي ولائي يخول له تحقيق ما يصبو اليه من سياسة ربما ستكون على مسلمي ألمانيا اشد وطأة من قانون الإسلام النمساوي الجديد على إخوانهم في النمسا.

إن التطورات الحالية في الساحة السياسة الألمانية بعد الهجمات الإرهابية الأخيرة في باريس وما صاحب قانون الإسلام النمساوي الجديد من جدل لدى مختلف الأحزاب الألمانية لا بد أن يجعلا المنظمات الإسلامية الكبرى تبذل قصارى جهدها لتوعية المسلمين بخطورة المرحلة القادمة ووضع خطة ناجعة لمواجهة ما تنبئ به هذه التطورات في المستقبل القريب من صعاب وعراقيل وتحديات مختلفة ربما تفقد المسلمين بعضا مما يتمتعون به الآن من حرية وحقوق لازالت ناقصة مقارنة بالجماعات الدينية الأخرى.

إن استقراء مستقبل مسلمي ألمانيا في السنوات القادمة يفرض على المنظمات المنضوية تحت “المجلس التنسيقي” رفع سقف التنسيق بينها إلى أعلى المستويات الممكنة ونبذ الخلافات التي باتت تعيق تحقيق كثير من المصالح العامة للمسلمين على حساب مصالح أخرى ضيقة تكرس الفرقة والشقاق. ويدفع إلى الحفاظ على هذه المؤسسة وبذل الغالي والرخيص في أجل تقويتها وتعزيزها بالشكل الذي يبوئها مكانة التمثيل الإسلامي على منوال المجلس الأعلى لليهود في ألمانيا. كما تحتم الظروف الراهنة‬ التي يعيشها المسلمون خوض غمار السياسة الألمانية والمشاركة الفعالة في الانتخابات القادمة المختلفة على الصعيد المحلي والولائي وعلى صعيد الاتحاد الألماني للحد من تنامي التيارات المعادية للإسلام والمسلمين في المجالس والبرلمانات التي تحدد مصيرهم في هذا البلد.

* رئيس رابطة الجمعيات الإسلامية الألمانية بالراين ماين / ألمانيا

‫تعليقات الزوار

5
  • arsad
    الثلاثاء 3 مارس 2015 - 11:44

    اعتقد ان هذا التعدليل جيد جدا وفي صالح مسلمي النمسا ويصب في مصلحة الاسلام مستقبلا في عموم اوروبا اللهم مشكلة التمويل فمن شئن المسلمين ان يجدوا لها حلا اما في الزكات او اعتماد التوصل بالتمويل الذي يمنح لهم من الخارج ان يكون عن طريف الدولة وتحت مراقبتها فهذا لا يضر ما لم تنقلب الدولة على حقوق المسلمين

  • ahmed
    الثلاثاء 3 مارس 2015 - 16:06

    السلام عليكم ورحمة الله
    التمويل يجب ان يكون من الضرائب التي يؤديها العمال كما هو المعمول به في
    الدنمارك. والله اعلم
    شكرا اخي اهروبة على الاهتمام. والترجمة

  • منا رشدي
    الثلاثاء 3 مارس 2015 - 20:03

    دولة حوصرت عاصمتها ڤيينا مرتين من قبل العثمانيين ؛ بل وأمطرت بقدائف المدافع العثمانية ! ومع ذلك تتعامل مع مسلميها بهذه الأريحية ؛ فأعتقد أن من إختار العيش ببلد عليه تعلم لغته والحالة هذه الألمانية وهي اللغة الأولى أوروبيا بأكثر من 100 ناطق بالألمانية تليها الفرنسية ثم الإنجلتزية !!! بماذا سنضر الإسلام إن إستخدم بالألمانية ! ولا تنسوا أن لله يد تعمل في الخفاء ؛ دعوها تعمل ولا تستعجلوا نتائجها !

  • Joseph
    الثلاثاء 3 مارس 2015 - 21:22

    Les musulmans sont appelés à séparer la Religion de l'ètat. C'est ce point crucial qui est à l'origine de leur problème à l'interne et à l'international. C'est au non de la Religion que la Syrie combat les dits–rebelles. C'est au nom de la Religion que les rebelles combattent Bachar Al Assad. C'est au nom de la Religion que les extrémistes de l'État Islamistes font ce qu'ils font. C'est au nom de la Religion que l'on tue les caricaturistes. C'est au nom de la Religion que l'on voulait tuer Salman Rushdi. C'est au nom de la Religion que l'on refuse la natonalité aux enfants du marriage mixte. C'st au nom de la Religion que les peuples sont exploités par leurs chefs d'États. C'est au nom de la Religion que l'on force une fille à se marier avec son ravisseur. … Et c'est souvent les musulmans qui sont à l'origine des problèmes. Leurs pays sont sous-dévelopés, leurs peuples sont appauvrés et réprimés, leurs nations sont divisées, etc. Et ils ne font rien pour l'humanité

  • ابن أنس
    الأربعاء 4 مارس 2015 - 02:53

    "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا تعين على الأوربيين وغير الأوربيين تقبل هذا الأمر الواقع فإن الإسلام كما تشير الإحصائيات في انتشار سريع بفضل الله، وسعي النمسا وألمانيا لسن قوانين تنظم حياة المسلمين أمر مهم جدا، لكن أن تحد تلك القوانين من حرياتهم فهذا أمر مخالف لما تنص عليها قواعد الديموقراطية التي يؤمنون بها، فهل السبب وراء سن هذه القوانين المجحفة في حق المسلمين هو الرعب من انتشار الإسلام؟ لماذا يحاول أحدهم من حين لآخر عرقلة أهم قانون في نظرية التطور المتعلق بالانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح؟

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات

صوت وصورة
حملة ضد العربات المجرورة
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 11:41 16

حملة ضد العربات المجرورة

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 8

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08 4

بيع العقار في طور الإنجاز

صوت وصورة
مستفيدة من تأمين الرحمة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:35

مستفيدة من تأمين الرحمة