مجلس الحسابات في مواجهة أصحاب المظلات

مجلس الحسابات في مواجهة أصحاب المظلات
السبت 18 أبريل 2015 - 13:17

لم تعد تقارير المجلس الأعلى للحسابات تلقى اهتماما كبيرا بعدما مثلت في السنوات الأخيرة مناسبة لتسليط الضوء على بؤر سوء التدبير.

السبب في عدم الاهتمام الذي تحول مع الوقت إلى لامبالاة، يتمثل في أن هذه التقارير تشبه إلى حد كبير العمل الناقص الذي يقوم به طبيب يشخص المرض بكل تفاصيله لكنه لا يقوم بالتدخل المطلوب لإنقاذ حياة المريض، بل يكتفي بإخباره بأنه مريض وأنه في حاجة عاجلة إلى عمليات جراحية لبتر بعض الاورام الخبيثة قبل أن يتطور المرض ويسيطر على كامل الجسد.. ثم يطلب منه أن يرتدي ملابسه ويغادر قاعة الفحص..

قد يقول قائل، إن المجلس يتحرك في إطار سقف دستوري وقانوني معين… وهذا كلام صحيح بالنسبة لمن يتعاملون مع هذه المؤسسة نظريا أو من خلال محاضرات في مادة القانون الدستوري..

لكن على مستوى الواقع، فإن دور المجلس لا ينبغي أن يقتصر على “التشخيص” وصياغة التقارير، التي تحولت مع مرور الوقت إلى إنشاء ممل يتم التعايش معه تماما كما يحدث مع تقارير بعض الجمعيات المحلية أو المنظمات الدولية حول مصير طائر أبو منجل أو شجرة أركان المهددين بالانقراض..

فالمواطن منشغل بمصيره هو حتى لا “ينقرض”.. ولا تهمه انشغالات المهووسين بمآل طائر هنا أو شجرة هناك..

وهذا المواطن لا يمكن أن تخرجه من انشغالاته الشخصية الأساسية سوى الإجراءات الردعية التي قد يكون لها تأثير مباشر عليه هو شخصيا، ولذلك لم يعد الحديث عن الإصلاح والتغيير والمحاسبة والمراقبة يلقى أدنى اهتمام لدى المواطن، الذي يعاب عليه مع ذلك عزوفه عن العمل السياسي ويلام على عدم مشاركته في الانتخابات.

لكن وحتى نكون موضوعيين، لا ينبغي تحميل المجلس الأعلى للحسابات وحده تبعات الفساد المستشري، فللفساد في هذه البلاد آلهة كثيرة تحميه.

وكما هو معلوم، فتقارير المجلس تتوزع بشكل عام على افتحاص الجماعات المحلية والمؤسسات العمومية.

بالنسبة للجماعات المحلية، يعلم الكل علم اليقين أنها مدخل للسرقة الموصوفة، وليس لـ”الفساد المالي” و”سوء التدبير الإداري”، فما تتعرض له الميزانيات الجماعية هو سرقة في وضح النهار، وهذا مجرد جانب ظاهر من المشكل، أما الجانب الآخر فيتمثل في عجز جميع الجهات الإدارية والقانونية المكلفة بالمراقبة والمحاسبة عن الاقتراب من مدبري الشأن المحلي.

هذا العجز لا يبرره الخوف من “القواعد الشعبية” أو من “العصبية القبلية والعشائرية” للمنتخبين، بقدر ما تبرره المظلات الحزبية.

فالمغرب “يتميز” هنا أيضا بكون أحزابه هي الراعي الأول للفساد والرشوة وكل الجرائم المالية والتدبيرية التي قد تخطر أو لا تخطر على البال.

ويكفي هنا البحث عن نسبة الإحالات على القضاء مقارنة بمعدلات الفساد غير المسبوقة التي تتحدث عن نفسها بنفسها وليست في حاجة إلى تحقيقات أو افتحاصات أو تقارير.

فالمعادلة هنا باختصار تتمثل في وجود جرائم ثابتة لكن لا أحد يساءل عن دوره فيها.

والسبب الوحيد في هذه المعادلة التي تحولت من استثناء إلى قاعدة، هو “التعاقد” الذي يتم بين الأحزاب ومن “تزكيهم” خلال الاستحقاقات الانتخابية، فإذا كان هؤلاء يلتزمون بـ”تكثير السواد الحزبي” وضمان الرئاسات والعوضيات بشتى الوسائل المتاحة، فإن الهيئات السياسية تلتزم بتوفير الغطاء السياسي والحماية من المساءلة.. ففي نهاية المطاف نحن امام صفقة تتداخل فيها كثير من العوامل، خاصة حين نستحضر ان خزائن الجماعات فيها ما يكفي كلا من “المستثمرين” في الانتخابات، وقيادات الأحزاب الباحثة عن “المال السهل”.. من خلال تجارة التزكيات.

ولهذا تقوم القيامة بمجرد استدعاء منتخب صغير للمثول أمام جهة قضائية ويتجند قادة الصف الأول في هذا الحزب أو ذاك لإثارة الغبار وادعاء وجود انتقائية او استهداف، بل إن رؤساء جماعات قاموا بجرائم “ضد الإنسانية” وليس ضد المالية الجماعية، لم يستطع أحد الاقتراب منهم خوفا من هيجان من يوفرون لهم المظلات الحزبية.

وعندما تتقاتل الأحزاب من اجل استقطاب المفسدين واللصوص واصحاب الماضي الانتخابي الأسود، فهي تفعل ذلك لسببين اثنين:

الأول لأنها تدرك أنه بدون الاعتماد على هذه الكائنات فإنه لا مكان لها في الساحة، خاصة وأن هؤلاء لهم أساليبهم الخاصة لـ “تحفيز” الناخبين على المشاركة، وكذا لـ “إقناع” المنتخبين بتزكيتهم للرئاسة أو لعضوية المجالس الوطنية أو الجهوية.

والثاني، يتمثل في يقين الأحزاب من غياب المساءلة والمحاسبة، مهما كانت الشعارات المرفوعة، ومهما تدنى تصنيف المغرب في مجال محاربة الفساد…ولهذا نجحت استراتيجية بعض الأحزاب في شيطنة مؤسسات الرقابة، التي أصبحت تقف عند حدود الرصد والتشخيص، ولا تتعداها إلى مرحلة المتابعة والمساءلة.

إن الخطر الحقيقي على أية جهة قضائية، هو إقحامها “الحسابات السياسية” أو “التوازنات الحزبية” في عملها الذي يفترض أن يركز على المقاربة القانونية فقط .

فتحرك الآلة القضائية أصبح يتوقف أحيانا على ضرورة تدشين متابعة جماعية لمنتخبين من أحزاب مختلفة في قضايا مختلفة حتى لا تتهم بالتحيز والمحاباة، بل إن ملفات تم ركنها في الأرشيف ولفها النسيان، لأن الجهة المكلفة بالبت فيها فضلت الانسحاب من مواجهة غير متكافئة.. ولنا أن نتصور معركة يكون طرفها “المتهم” مسلحا بماكينة إعلامية حزبية وأخرى “مأجورة”، وبين هيئة قضائية محاصرة بواجب التحفظ، وبأطنان من الضوابط المهنية والأخلاقية والقانونية… وغير القانونية.. والضغوط والمكالمات السرية..

أما إذا انتقلنا إلى المؤسسات العمومية التي يرتع فيها الفساد هي الأخرى، فالأمر لا يختلف سوى على مستوى الجهات التي توفر المظلات للنهب الممنهج.

فإذا كانت حماية الفساد في الجماعات المحلية من “اختصاص” الأحزاب حصريا، فإن حماية هذا الفساد في كثير من المؤسسات العمومية، هي من “اختصاص” مراكز النفوذ وحتى الأحزاب في بعض الحالات.

ولهذا على المراهنين على أن يكون لتقرير المجلس الأعلى للحسابات الأخير، تأثير على حاضر أو مستقبل أخطبوط العمران مثلا، أن يتغطوا جيدا ويستمروا في أحلامهم الوردية، لأننا نستطيع أن نجزم مبكرا بأن “اقتحام” هذه المؤسسة لن ينفع فيه حتى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

ولمن يشكك في هذه الخلاصة “الاستباقية”، نحيله فقط على ملف “مكتب التسويق والتصدير” الذي اختفى ذكره رغم أن الفساد بلغ فيه مستويات قياسية تستحق إدراجها في كتاب غينيس..

حدث هذا في مؤسسة “صغيرة” تتحرك في نطاقات ضيقة، فما الذي يمكن ان يحدث مع مؤسسة أخطبوطية تحولت فعلا إلى ذراع عقارية خارج السيطرة.. مؤسسة ظل الكل يأكل من خيراتها على مدى عقود، من سلطة ومنتخبين ومسؤولين إداريين بالقطاعات الوزارية، بل وحتى صحفيين وسماسرة.. سواء قبل تأسيس هذه المجموعة أو بعد جمع شتات المؤسسات العقارية العمومية في قطب؟..

ومن هنا ينبغي أن نفهم سر مبادرة الوزير بن عبد الله إلى الإعلان عن إحالة الأمر على القضاء، فالرجل يدرك ربما بأن المجلس الأعلى للحسابات ألقى بين يديه كرة حارقة، فضل أن يرميها بدوره في حجر زميله وزير العدل حتى لا يضطر إلى مواجهة الأسئلة المشروعة للرأي العام.. علما أن أوساطا إعلامية نقلت أن المجلس طلب من وزير الإسكان “التريث وعدم التسرع” في انتظار الانتهاء من عمليات “الاستماع”..

ولهذا أستطيع أن أجزم مبكرا بأن هذا الملف لن يذهب بعيدا، بل سيلفه النسيان في القريب العاجل، لأنه على عكس الجماعات المحلية، حيث يمكن بين الحين والآخر الاستفراد بمستشار جماعي هنا ورئيس هناك رغم المندبة الحزبية المتوقعة، فإن الفساد في المؤسسات العمومية يحظى بحماية مزدوجة كما أسلفت ..

حماية مراكز صناعة القرار التي عادت ما تكون وراء “انتقاء” من يوضعون على رأس هذه المؤسسات، وبطبيعة الحال لا تأثير هنا للكفاءة ولا للمهنية ولا للخبرة والتجربة، بدليل أن مؤسسات حيوية وضع على رأسها أشخاص يجرون خلفهم أطنانا من الفشل والشبهات والإخفاقات، وحتى حين غادروها بعدما تركوها “قاعا صفصفا”، تمت ترقيتهم بدل محاسبتهم..

وحماية الأحزاب التي سخرت هذه المؤسسات في التمهيد للانتخابات وفي توفير مناصب الشغل بشكل غير قانوني للأتباع والمريدين.. ولهذا على الذين يراهنون على إمكانية فتح ملف “مجموعة العمران” على مصراعيه، أن يستحضروا أن هذه المؤسسة ولدت في حضن حزب الاستقلال واستمرت في حضنه طيلة ثماني سنوات بالتمام والكمال…وبالتالي فأي نبش في “أرشيفها” سيعيد ربما تكرار قصة “بادو ولقاحاتها”…و”كلميم وفيضاناتها”..

وإذا أضفنا إلى هذا كله كيف أن المحاكمات التي من هذا النوع تستغرق عقودا، وقد تنجح ألاعيب المحامين في تمطيطها إلى ما لا نهاية.. فإن الخروج من هذه المتاهة يتطلب البحث عن خطوات بديلة أكثر نجاعة وفعالية.

فلماذا لا يتم مثلا إعطاء تقارير المجلس الأعلى للحسابات حجية مطلقة، يتم التعامل مع المتهم فيها وفق آلية التلبس، وبالتالي تتم محاكمته ابتدائيا في أقل من ستة أشهر، ثم ليأخذ الاستئناف ما يكفي من الوقت لمناقشة التفاصيل؟

ولماذا لا يتم الربط التلقائي بين تلك التقارير وقرارت التوقيف أو العزل كإجراء احترازي لحماية المال العام، عوض أن ينتظر الرأي العام مآل محاكمات مارطونية وكذا “المتهم” بسوء التدبير إلى أن تتم تبرئته أو إدانته، لأنه لا يعقل أن يتم التمسك في هذه الحالات بـ”قرينة البراءة” ما دامت خلاصات قضاة المجلس الأعلى تفيد العكس؟

أطرح هذا السؤال، لأنه لا يعقل أن يظل مفسد شهد قضاة محلفون بأنه فاسد وغير مستأمن على المال العام، في موقعه، في انتظار صدور إدانة نهائية قد تتطلب عقودا من الزمن بعد استنفاذ جميع مراحل التقاضي.. ولنتذكر بالمناسبة ولو على سبيل النكتة كيف أن السيد عبد اللطيف أبدوح الذي أدين مؤخرا بسبب فضيحة “كازينو السعدي”، أعلن في أكتوبر من العام الماضي خلال إحدى جلسات محاكمته أمام رئيس غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف، أنه سيترشح للانتخابات الجماعية المقبلة وسيصبح عمدة مدينة مراكش المقبل..

ولا أرى ما الذي يمكن أن يمنع من تحقق هذا السيناريو، بما أن المعني بالأمر يمكنه الترشح خلال الانتخابات الجماعية، ولم لا تحقيق “وعيده”…بالحصول على منصب العمدة..

https://www.facebook.com/my.bahtat

‫تعليقات الزوار

3
  • العم
    السبت 18 أبريل 2015 - 14:28

    صدقت كل الصدق في مقالك الذي يطابق تماما الواقع المعاش عندنا بمدينتي راساء جماعات يحميهم حزب عتيد اسمه حزب الاستقلال المدينة سيدي قاسم بالضبط كلما حاورهم مسوول من دركي او امني اوموظف عمومي كيف ما كانت درجته الا وكان الرد : " والله تنخرج على باباه " بل ان احدهم كان ينظم تجمعات حزبية لادانة عامل الاقليم الذي كان يعلم انه فاسد والصورة واضحة عند القارئ

  • مغربي
    السبت 18 أبريل 2015 - 18:34

    بعد التدخل السافر في القضاء لتحرير خالد عليوة من قبضة العدالة لا يمكن لأي قاض أن يتابع كل الناس دون أن يرى أولا مدى علاقاتهم بالنافذين.

  • المغربي004
    السبت 18 أبريل 2015 - 21:46

    مقالك في الصميم الذي يصب ويلخص لنا المناخ العام للمؤسسات السياسية الفاسد و المقرف و الخالي من ابسط ابجديات الفعل السياسي و كذا انعدام الجانب الاخلاقي التربوي في كل الفعالين داخل هذه المؤسسات انطلاقا من اعلى هرم السلطة في البلاد الى اخر صغيرها وبالتالي ارى ان ما يفعله المجلس الاعلى للحسابات فقط ثمتيلية صورية كمؤسسة ادارية لضري العيون الجاحظة خاصة الغربية و ليس لسواد عيون الامة المغربية ولكي نكون فعلا لدينا الضمير السياسي المهني للمحاسبة في هذه الارض يجب ان تكون لدينا الشجاعة دون مراء او نفاق .

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات