هذه حكاية "موسيقى الراي"

هذه حكاية "موسيقى الراي"
الأحد 3 ماي 2015 - 17:48

حكاية “موسيقى الراي” : تعبير عن موقف سياسي إبان سنوات الجمر والرصاص

لا يحتاج المرء لطول تمعن وتمحيص كي يلاحظ الحضور الهزيل لأشكال التعبير الفني الشعبي في قائمة مواضيع البحث والدراسة الجامعية والأكاديمية، بل ولا يحتاج أيضا إلى كبير عناء كي يتلمس الإهمال المريع الذي تعيش على إيقاعه الأنواع الفنية والإبداعية ذات البعد الجماهيري، سواء ما كان منها قوليا محضا، أم ما كان مركبا يتحايث فيه اللفظ واللحن والجسد، وما دار في فلكها من صنوف اللعب والفرجة.

لقد ساد الاعتقاد لدى الدارسين والمهتمين بضرورة بناء جدار صفيق يفصل مواضيع البحث ذات الجدوى والراهنية، يُدْعى الجميع إلى تناولها بالدرس والتحليل، وأخرى تفتقر إلى الفائدة، لا يُنصح بالخوض فيها إلا على سبيل الفكه والتندر. وهكذا نشأ جيل من الباحثين الذين يزدرون الخوض في مواضيع الثقافة الشعبية، بل ويحثون على تهميشها، أو وضعها، في أحسن الأحوال، في آخر مقصورات البحث، وهذا حظ قلة من المواضيع التي ثبت لدى هؤلاء الدارسين وجود صلة لها بشكل تواصل أو تعبير بالأدب المكتوب، أو فنون النخبة العالمة.

أحد هذه الفنون “موسيقى الراي”، التي هتكت، منذ عقدين ونيف، حجاب الإبداع المحلي، ووصلت العالمية، دون أن يشفع لها كل ذلك في استدراج الدارسين إلى محاولة الإحاطة ببنياتها اللحنية والشعرية، وفهم مسوغات انتشارها وتأثيرها على فئات عريضة من المستمعين والمتلقين.

لنترك موضوع القيمة الفنية جانبا، لأنه يخضع “لإيديولوجية جمالية” تستعدي أن نفرد لها مقالا مستقلا، ولنتأمل تجربة غناء “الراي” باعتباره تعبيرا سوسيوثقافيا. ألا يبدو موضوعا حريا بالدرس والتأمل؟ ألا يبدو مغريا الخوض في حيثيات إنتاجه واستهلاكه؟ لاسيما وقد انصرمت عن تاريخ انبثاقه مدة كافية لمقاربته من زاوية سوسيوتاريخية موضوعية. كيف ينجح الرصد السوسيولوجي للمجتمعات المغاربية؟ وكيف يستطيع الباحثون من تلمس التحولات التي تعتمل في النسيج السوسيوثقافي لهذه البلدان دون الالتفات إلى أشكال التعبير الفني والموسيقي التقليدية والشعبية على نحو عام، وعلى غناء الراي بشكل خاص؟ كيف يمكن فهم الذهنيات؟ وتفكيك أنساق السلطة الثاوية خلف الضوابط والمحاذير المؤسسية؟ كيف يمكن وصف المتخيل الجمعي؟ كيف يمكن تفسير الأعطاب الاجتماعية والسياسية التي تعيشها هذه البلدان دون الإحاطة بالنسيج الثقافي الذي تتضام في رحابه أوجه الصراع المختلفة؟

كيف السبيل إلى تفسير ذيوع أغنية الراي بالمغرب الشمال الشرقي ومنافسته لغيره من الأنماط الموسيقية-الغنائية المحلية والأجنبية؟ ولماذا استمسكت هذه الموسيقى بقلوب شباب المغرب الشمال الشرقي منذ أواخر سبعينات القرن الماضي إلى بداية الألفية، قبل أن تأفل شمسها وتترك مكانها لأنماط أخرى محلية أو أجنبية؟

يجدر بنا القول أولا إن غناء “الراي” (وغيره من أشكال الغناء الشعبي) أكبر من مجرد موسيقى تروم الترويح عن النفوس، وطرد السآمة وغيرها من المشاعر السلبية عن أفئدة مكلومة أو حزينة، ولا هي مجرد نغمات وإيقاعات يراد بها استجلاب البسط والحيوية إلى أجساد منهكة، إنه من زاوية النظر السوسيولوجية تمرد على نظام القيم التقليدية المحافظة، وهذا أمر يكشفه الإصرار الحثيث على تناول مواضيع “الخمر والثمالة” وأحوال الندماء في أغاني هذا النمط، وكذا اطراد الغزل الإيروتيقي في كثير من كلماته المغناة.

لكن ما الداعي إلى معاكسة منظومة المحاذير؟ والتغني بذلك على سبيل المباهاة؟ إن في الأمر سعيا للتعويض، ورغبة في إثبات الذات من جهة، وتعبيرا عن حالة من الخيبة والإخفاق الجماعي من جهة ثانية، أو لنقل إن حافز التماهي مع كلمات أغاني الراي هو التعبير عن حالة القهر والكفاف التي تمرغت فيها ذوات الشباب الثمانيني (الذين صادفوا التقويم الهيكلي).

وإلى جانب ذلك، يبدو غناء الراي أيضا لوحة كاشفة لبدايات تشكل نظم علاقات “بين-جنسية” جديدة تختلف عن تلك التي أنشأتها نظم العيش البدوي القروي، من العلامات الدالة عليه والمسببة له هجرة شباب المغرب الشمال الشرقي للعمل الموسمي أو الدائم بالداخل والخارج، وتأخر سن الزواج، مع ما تسبب فيه ذلك من اضطرابات سيكوسوسيولوجية وأعطاب اجتماعية مختلفة، ثم انتشار أجهزة التلفاز وصالات السينما، بما تبثه من أعمال درامية تحفز المخيال، وتصنع الاستيهامات العاطفية المستوردة من ثقافة أجنبية (الهندية، والبرجوازية المصرية مثلا).

في سياق هذه التجليات السوسيولوجية دائما ثمة قضية أخرى مهمة ذات صلة، هي قضية بداية احتضار كثير من أشكال الغناء التقليدي التي كانت تؤدى في عدد من المناسبات الاحتفالية، وهي في الغالب أشكال غناء وظيفية كانت تضطلع بدور سوسيولوجي بارز (ايزران ن رالا بويا، الحيدوس، الهيت، الصف…)، بحيث تسمح للجنسين بتمرير رسائل الحب والعتاب والتهديد والتوسل…، وقد حصل هذا الاحتضار في سياق بزوغ نجم الأجواق الموسيقية التي بدأت تكتسح فضاءات الغناء التقليدي، والتي كان لزاما عليها لعب دور سوسيولوجي مماثل، فكان منطقيا أن يطلب الشباب المتحلقون حول هذه الفرجة الجديدة (في إطار ما يعرف محليا ب” لغرامة” أغنيات الراي ذات النفس العاطفي رسائل إلى الأحبة والحبيبات، وذلك في سياق إيجاد منفذ للتواصل، واستغلال الحامل الجديد لتلبية الرغبات الوجدانية الطبيعية.

الاستماع إلى أغنية الراي أيضا تعبير عن موقف سياسي ما، وهذا أمر يمكن التدليل عليه بتمعن الوضع السياسي والاجتماعي الذي ساد إبان فورة أغنية الراي، وهو الوضع الذي عرف مغربيا بسنوات الجمر والرصاص، حيث مورست انتهاكات كثيرة في حق التنظيمات الحزبية والنقابية المعارضة، وتم التضييق على حرية التعبير، لا سيما في ما يتصل بنقد منظومة الحكم، ومساءلة الخيارات السياسية التي أرستها الدولة لاعتبارات الحفاظ عن الاستقرار والأمن، وغيرها من الغايات التي بررت بها الدولة لجوءها إلى تكميم الأفواه خلال هذه المرحلة من تاريخ المغرب الحديث. ولعل الذي يدفعنا إلى ترجيح هذا الرأي هو سكوت الدولة (عبر مؤسساتها الثقافية الموكول لها ممارسة الرقابة) عن موضوعات الأغاني، وعدم اكتراثها لمضامين كثير من الأغاني الخادشة للحياء العام (من منظور منظومة القيم السائدة)، بل واحتضانها لكثير من مطربي الراي، من خلال السماح بحضورهم لتنشيط عدد من السهرات الغنائية التي كانت تقام منذ ثمانينيات القرن الماضي بعدد من المدن المغربية، في سياق أسابيع ثقافية وسياحية.

مثل هذا السكوت دليل يكشف حرص نظيمة الحكم على ترك مساحة للشباب المقهور للتنفيس عن حالة الاحتقان التي تعتمل في نفوسهم بسبب وضع اجتماعي عنوانه القهر والهشاشة والبطالة. وهو في الواقع ليس شيئا جديدا في منطق تدبير الحكم، بل هو ديدن كل الأنظمة الشمولية التي تحرص على فتح فجوات معدودة يسمح عبرها ومن خلالها بالتخفيف من الضغط الاجتماعي.

ختاما، نقول أن أغنية الراي ظاهرة فنية مركبة تستدعي تراكما منهجيا ملائما يسمح بتفسير سياق ظهورها وانتشارها وتطورها، وتفكيك أشكال العلاقات والصلات التي تربطها بغيرها من الأنماط الغنائية المغاربية، ونحن إن كنا قد انطلقنا، في هذه الومضة الخاطفة، من مجال خاص للمعاينة هو المغرب الشرقي، فلإيماننا بأن القضايا الثقافية والسوسيولوجية تحتاج تسييجا أوليا لميدان المسح والدراسة، قد يسعف الباحثين في تقييم صحة المقترحات والأحكام، والنظر في مدى قابليتها للتعميم على مجالات أخرى تجمعها بها صلات سوسيوثقافية محددة.

ولكي يستقيم البحث في مثل هذه المواضيع نرى بضرورة إعادة النظر في منطق الأولويات التي دأبت مؤسسات البحث العلمي على اعتماده في مجال القضايا المطلوبة للدراسة، ومن ثم مساءلة أسس الذائقة الفنية والجمالية بعيدا عن السجلات الثقافية الخاصة بفنون النخبة، أما عن سبب سكوتنا عن قضايا الشعرية والجماليات اللغوية والموسيقية في أغنية الراي، نقول أنه موضوع بحث بكر مهجور، على قدر كبير من الحساسية يحتاج جهدا جماعيا، وتراكما معرفيا كبيرا.

إن ما سعينا إليه، عبر هذا المقال الموجز، هو التنبيه إلى الفائدة العميمة التي يمكن جنيها من خلال البحث في مواضيع أشكال التعبير الثقافي الشعبية، لأنها مؤشرات كاشفة عن نبض المجتمع، وعلامات دالة على مسارات تشكل الأعطاب الاجتماعية، واستحكامها بالبنيات الثقافية، وبهذا المعنى لا يصح الحديث، في تقديرنا، عن تشخيص دقيق للوضع السوسيولوجي المغاربي، ماضيا وراهنا، علة ونتيجة، دون التمكن من رسم صورة دقيقة لمختلف أشكال التعبير الثقافي بهذه البلدان.

‫تعليقات الزوار

4
  • صوت من مراكش
    الأحد 3 ماي 2015 - 23:44

    سنوات الجمر والرصاص اصبحت تاريخا كمعطف ديغول يعلق عليها كل شيء

    – ناس الغيوان -لمشاهب -جيل جيلالة واغاني السعيد المغربي ورعاة الصحراء

    -لرصاد والان جاء دور اغاني الراي لنقحمها ضمن المعلقات التي لاتحصى

    بقي لكم فقط ان تجعلوا من سنوات الجفاف في السبعينات والثمانينات معلقة

    اخرى مضربة عن المطر احتجاجا على الانتهاكات والقمع

    وتحياتي

  • محمد الهواري
    الإثنين 4 ماي 2015 - 11:09

    تتحدثون عن موسيقي الرأي وكأنها موسيقى مغاربية والله هذا مضحك أليست نوع موسيقي جزائري خالص أصله من البدوي والوهراني، فلماذا تحاولون عبثا الكذب على الشعب المغربي والعالم.

  • Amaghrabi kouh
    الإثنين 4 ماي 2015 - 17:47

    Dans un milieu qui a perdu toute son originalité ,ses valeurs ancestrales ,il ne faut pas s’étonner de voir des choses "bizarres 'des danse bizarres .des rythmes bizarres :ni Amazighs ,ni arabes ,ni européens !! du n'importe quoi .Ce genre de rythme a complètement désorienté nos enfants . ma chaa Allah !

  • moad
    الإثنين 4 ماي 2015 - 23:05

    روعى كلمات راقية اسلوب جميل في وطع الافكار

صوت وصورة
اعتصام ممرضين في سلا
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 19:08 1

اعتصام ممرضين في سلا

صوت وصورة
وزير الفلاحة وعيد الأضحى
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 17:34 24

وزير الفلاحة وعيد الأضحى

صوت وصورة
تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:12 3

تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين

صوت وصورة
احتجاج بوزارة التشغيل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:02 2

احتجاج بوزارة التشغيل

صوت وصورة
تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 15:15 4

تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات