الوزير ، المسودّة، التخصّص والأغلبية

الوزير ، المسودّة، التخصّص والأغلبية
الأربعاء 27 ماي 2015 - 08:39

استنجَد السيد وزير العدل خلال مداخلته بإحدى الندوات التي خصّصها منظموها لمناقشة مسودة القانون الجنائي؛ ببعض التعابير التي حاول من خلالها الدفاع عن المسودة، وفي نفس الوقت تبخيس المجهود الذي قام به الذين تفاعلوا مع بنودها. وكان من أبرز ما نقلته عنه الصحف التي غطّت الندوة هو توجيهه تُهمتَي الجهل وعدم التخصص للباحثين والأساتذة الذين يخوضون في مجال غير تخصّصهم، إذ قال بأن بعض غير المتخصصين في القانون الجنائي قد ساهموا في نشر أفكار خاطئة عن المسودة. وهذا دليل واضح على أن اللّجنة التي عُهِد لها بتعديل القانون الجنائي، قد حرَمت نفسها من تخصصات علمية كان بإمكانها المساهمة في تدارك الثغرات. أما الحيثية التي تطرّق إليها السيد الوزير المتعلقة بنزع صفة الموظف العمومي عن المنتخبين، فهي لا تُعبّر عن جهل أو عدم إلمام، وإنما يتعلق الأمر باختلاف المدارس القانونية، بعضها يلتزم بتعريف القانون الاداري للموظف العمومي، وبعضها الآخر ينفتح على التعريف الواسع والمطاط الذي يقترحه القانون الجنائي والذي أدخل فيه فئات مهنية كثيرة، بل هناك من يُدخل فيه حتى مهن القطاع الخاص كما هو حال التشريع الجنائي في الصين الذي يرى في أعضاء الحزب موظفين عموميين، والاتحاد السوفياتي سابقا الذي كان يُضفي صفة الموظف العمومي حتى على العاملين بالمجال الاجتماعي(وحتى المشروع المغربي الجديد يمكن أن يأوّل في هذا السيّاق إذا لم يتم تدقيقه).

على كل حال، فإن هذا المقال لا يهدف إلى الرد على الوزير أو تبرير الخطأ، فكاتب السطور لا يمكنه إدعاء الفهم المطلق أو عدم الوقوع في الخطأ، فطبيعي أن من كتب خمس مقالات متتالية حول المسودة، أن يرتكب بعض الهفوات، وجيد أن السيد الرميد يطّلع على ما يُكتَب، وهذه تصرّف يُحسّب له، لكن سيكون جيّدا أيضا لو عمِل الوزير على تصحيح الأخطاء الكثيرة التي وردت في المسودة، والتي نبّـهَه إليها العديد من الفاعلين والمهتمين والباحثين، بدل إصراره على أسطوانة “لن نقبل بأن تطال التعديلات الجوانب المتعلقة بالملكية والإسلام” أو “بيننا وبينهم الشعب”، لأنه يعرف قبل غيره بأن الأمر لا يتعلق بالضرب في الملكية أو في الاسلام، بل كل ما في الأمر أن الناس تختلف حول اجتهادات يريد أصحابها أن ينسبوها للإسلام ويُلزموا بها الجميع. والحال،أنه ينبغي التعامل مع النصوص القانونية بنوع من المرونة والانسيابية في الفهم، فحتى الشريعة الدينية (الشريعة بالفهوم الضيق الذي يعطيه لها الفقهاء أي “القوانين”) لم تنزل مفصّلة من السماء، وإنما خضعت لعملية وساطة في الفهم بين الناس والفقهاء، وهؤلاء اختلفوا في العديد من الأمور، ولا أظن أن الاختلاف سيقتصر على جيل دون غيره.

أما قضية “بيننا وبينهم الشعب…” التي أثارها السيد الوزير، فهي تنمّ على أن وزير العدل والحُرّيـّــــاتِ يريد أن يواجه معارضي بعض بنود المسودة بمسألة الأغلبية والأقلية، على غرار ما حصل مع مدونة الأسرة. لكنه يدرك جيدا أن الأغلبية -خاصة الذين ليست لديهم القدرة على قراءة المسودة – ستؤيّد بنود المسودة المُحافِظة، سيما إذا قيل لهم بأن معارضي المسودة هم ضد الدين الاسلامي (وهذا غير صحيح طبعا). لكنه يتناسى أن مهمة القانون تتجلّى في قيادة المجتمع وليس فقط الجري خلفه (كما يفعل بعض أهل السينما اليوم)، فلو كانت الأغلبية والأقلية هي المحكّ، لما تمّ منح المرأة حق التصويت بلَهُ الترشّح، ولو تم التعويل على الأغلبية لما تم تحرير عبيد أمريكا الذين كان يشكلون أقلّية صغيرة جدا، (علما -مع وجود الفارق طبعا – بأن الأنبياء أنفسهم كانوا أقلية وسط أغلبية ترفض فكرهم) فحتى إذا استُفتي الشعب حول تطبيق “الشريعة الاسلامية”، فإن الأغلبية ستصوت على التطبيق الفوري، لكن في الغد ستهاجر هذه الأغلبية إلى أوروبا وإلى تونس وتركيا وأمريكا وباقي دول العالم لأنها ستكره عقوبات الشريعة وستأمل العيش في حرية، وأن تختار دينها وتختبره بحرية. الفكرة هنا، أن الأغلبية ليست دائما على صواب، سيما في ظل نسبة الأمية الكبيرة، والاحتكار الشامل لوسائل الاعلام ودور العبادة من قِبل الدولة.

بالرجوع إلى مسألة التخصص التي أثارها الوزير، فلا بد من التذكير بأن اللجوء إلى التخصص الضيق، وسد الباب أمام باقي التخصّصات، هو “بدعة” حديثة لم تكن معروفة لا في مجتمعاتنا ولا في باقي المجتمعات، إذ يسير مجتمع المعرفة الحديث نحو القطع مع مسألة التخصّص، والانتقال من المقاربات المتخصصة إلى الأبحاث العابرة للتخصّصات، والاستعاضة عن الباحث المتخصص بالباحث المثقف، أي الباحث الذي يثقن تخصصه ويُثقّف نفسه في باقي التخصصات. والسبب في العدول عن التخصص عائد إلى تعقّد الظواهر المدروسة، الأمر الذي يحتاج إلى مقاربات متعددة في إطار ما يسميه الفيلسوف “إدغار موران” بالفكر المركّب. ومن القضايا التي تُجسّد هذا الرأي، تَحضر المسودة التي هي قيد النقاش، حيث يبدو أنها خضعت للتخصّص الضيق، ولم تنفتح على المقاربة العابرة للتخصصات، في حين كان ينبغي الانفتاح على كل التخصصات والاهتمامات. ما دامت المسودة تكاد تغطي بنودها أغلب التخصّصات، وذلك بتطرّقها لكل مناحي حياة الأشخاص المعنوية والاعتبارية، وتَضمّنها لمختلف المجالات. ولذلك تحتاج إلى الباحث في مجال القانون العام لمناقشة البنود التي لها علاقة بالحريات العامة، وبالحريات المدنية والسياسية، وتحتاج للطبيب لكي يبدي رأيه في مدى قدرة بعض العقوبات على حل مشكلة الجريمة، وهي في حاجة ماسّة للباحثين في علم الاجتماع بُغية توضيح علاقة القانون بالمجتمع، وذلك من منطلق دراسات سوسيولوجية تُساعد على تبنّي بعض العقوبات أو التخلي عن أخرى، كما تحتاج إلى الباحثين في العلاقات الدولية من أجل مناقشة البنود المتعلقة بالقانون الدولي، ومدى ملاءمتها للاتفاقيات الدولية، كما تحتاج لتدخل القانون الدستوري لكي ينظر في مدى احترام مبدأ سمو الدستور، أما المؤرّخ فهو بدوره سيساعد على تذكير المشرّع بتاريخ بعض العقوبات، وينبّهه إلى أن بعضها قد وضعها المستعمر منذ سنة 1913 ومن العيب أن يتم الاحتفاظ بها، ويمكن للباحث في علم اجتماع الأديان والدراسات الدينية أن يُقدم رأيه في بعض البنود التي ربما فيها تزيّدٌ على الدين نفسه، وأما المجتمع المدني، ونشطاء حقوق الانسان، والإعلاميين، والكتّاب، والمبدعين، والأطباء، والقضاة، والطلبة، والعمال، فهم الأكثر تأثّرا ببنود التشريع الجنائي، بالنظر إلى الكمّ الهائل من البنود المنصبة على اهتماماتهم وممارساتهم.

عموما، فإن المسودة عامة وشاملة ومن حق كل أطياف الشعب المغربي مناقشة بنودها واقتراح تعديلات عليها أو المطالبة بإلغائها، فالمادة الثانية من المسودة تقول بأن لا أحد يعذر بجهله للتشريع الجنائي. ولكي نختم هذه النقطة، يمكن القول بأن ما يراه البعض خطأ هو نفسه ما جعل المسودة تتّسم بالنقص، فاقتصار اللجنة التي وضعت المسودة على التخصص الضيق، هو الذي أفقدها الرؤية العامة وجعلها تنظر من زاوية واحدة، بدل الانفتاح على باقي المقاربات.

– دكتوراه في القانون العام

https://www.facebook.com/pages/Abderrahim-Alam/399398136753078?fref=ts

‫تعليقات الزوار

1
  • Non à la corruption
    الأربعاء 27 ماي 2015 - 14:22

    Je denonce les actions frauduleuses du conseiller du Ministre et directeur des affaires Penales du Ministere de la Justice du Rayaume du Maroc, monsieur Mohamed Abdennabaoui. Ce monsieur est un corrompu qui garanti une certaine protection a ceux qui travaillent à son compte et pour ses interets dans les dossiers qui se traitent dans les tribunaux du pays. C'est très mauvais pour la réputation du Royaume au niveau local et international. J'ai vecu une mauvaise experience avec lui et sa bande de Mafia. Il faut agir et voir ça de près

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 3

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب