الخوف من استقلال النيابة العامة عن وزارة العدل

الخوف من استقلال النيابة العامة عن وزارة العدل
السبت 4 يوليوز 2015 - 17:00

بات من المؤكد و في تراجع سافر على المكتسبات الدستورية و الحقوقية أنه يراد للسلطة القضائية أن تكون ضعيفة، تابعة، رغم أن الدستور ارتقى بها إلى سلطة مستقلة.

و لعل ذلك راجع في نظري إلى عقلية التخوف من السلطة القضائية والتي اتخذت شكلان، الأول وجه إلى المواطن، فتم الحديث عن مصطلحات ضخمة وغريبة مثل “دولة القضاة” و “ديكتاتورية القضاة” و “تغول القضاة”، إذ كان في مطالبة القضاة بما يخوله لهم القانون من حقوق و واجبات أن اعتبروا كمن يأتي على الأخضر و اليابس!.

و قد رافق ذلك تصورات و مفاهيم و ممارسات تحمل في طياتها التناقض، فهكذا نجد وزير العدل يعبر عن قناعاته الشخصية الرافضة لاستقلال النيابة العامة عن وزارته، و هي قناعة أغلبية النواب البرلمانيين، لما في ذلك بحسب زعمهم من ضمانات للمواطن، و ذلك عكس ما خلص إليه الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، و قد تأسس هذا الاتجاه على أسانيد “باطلة” يمكن إيجازها في نقطتين:

-عدم الاعتراف بالنيابة العامة كسلطة قضائية مستقلة.

-عدم إمكانية مراقبة النيابة العامة في حال ما جعلت تحت إشراف الوكيل العام لمحكمة النقض، في حين يمكن محاسبة وزير العدل حول تطبيقه للسياسة الجنائية بواسطة البرلمان.

فبصرف النظر عن الأسس النظرية لمراقبة السلط لبعضها البعض، ذلك أن أي نظام سياسي يحمل مزايا و عيوب، فإن مراقبة السلط لا تعني و لم تكن لتعني أن تمارس سلطة مهام سلطة أخرى لتمكين غيرهما من ممارسة حقها الرقابي، فلا يمكن القول بجعل السلطة التنفيذية تمارس اختصاصات قضائية صرفة لتمكين البرلمان من المراقبة!. إضافة إلى ذلك و خارج الضوابط الدستورية المكتسبة فإن هذا المنطق يقود إلى متاهات فكرية، إذ على ضوئه يمكن أن نتيه بفكرنا، فمثلا يمكن التساؤل عن ضرورة مراقبة البرلمان للقضاء الجالس! و ضرورة مراقبة القضاء للحكومة و وزير العدل باعتباره حاليا على رأس النيابة العامة!.

إن التطور الطبيعي للأمور حول ممارسة السلطة في المجتمعات هو الذي يؤدي إلى خلق ضوابط السلط عن طريق تحديدها في الدستور، إذ الثابت في بلدنا أن وزراء العدل تعاقبوا على ترأس النيابة العامة على مر عقود و كثيرا ما استعمل القضاء كأداة للضرب به، خاصة إبان سنوات الرصاص، و من هنا كثرت التوصيات و المطالبات سواء بشكل مباشر أو غير مباشر حول ضرورة استقلال النيابة العامة عن وزارة العدل، كتوصيات هيئة الانصاف و المصالحة و المجلس الاستشاري لحقوق الانسان و المجلس الوطني لحقوق الإنسان و جل جمعيات حقوق الإنسان و المجتمع المدني بشكل عام، فلا يمكن أمام هذا الواقع أن يبقى الحال على ما كان تحت أي مسوغ يثبت التاريخ عدم صموده.

و فضلا عن ذلك، و هذا هو الأهم، هو أن الدستور نفسه يسير في اتجاه اعتبار القضاء سلطة مستقلة بما في ذلك النيابة العامة، إذ عنون الباب السابع من الدستور “بالسلطة القضائية” و قد نظم فيه حقوق و واجبات القضاة سواء انتموا إلى القضاء الجالس أو القضاء الواقف، و قد أستهل هذا الباب بالفصل 107 منه الذي ينص على أن ” السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية و عن السلطة التنفيذية”، كما أنه لا مجال لمراقبة البرلمان للسلطة القضائية إذ هي محصورة بالعمل الحكومي، استنادا على الفصل 70 من الدستور.

و يبقى للبرلمان دور مهم في المساهمة في خلق سياسة جنائية ناجعة و التي تم الخلط بينها و بين سلطة الاتهام، اعتبارا لكون هذه السياسة تهدف إلى العمل بكل التدابير و الوسائل الكفيلة بزجر الجريمة سواء بواسطة التجريم و العقاب أو بواسطة إجراءات احترازية و وقائية للحد من ظاهرة الإجرام و ذلك عن طريق سن قوانين فعالة و مراقبة عمل الحكومة في سهرها على الشأن العام لا سيما الاقتصادي و الاجتماعي منه، من تعليم و صحة و تشغيل إلى غير ذلك، لأن هذه المراقبة تصب في إنجاح السياسة الجنائية بمفهومها الواسع.

و في جانب آخر، فان جل السياسات الجنائية تعطي للقاضي سلطة تقديرية واسعة محددة بضوابط قانونية، خاصة في مسألة تفريد العقاب، إلا أن الحاصل عندنا -وفي تناقض صارخ- يتم تمرير تصورات تحد من هذه السلطة التقديرية، مثل ما أشارت إليه توصيات الحوار الوطني، و ما جاء في مسودة مشروع القانون الجنائي، فكيف لدستور يمنح للقاضي مسؤولية حماية حقوق وحريات الأفراد والجماعات، إذ نص الفصل 117 منه على أن “يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص و الجماعات و حرياتهم و أمنهم القضائي و تطبيق القانون” و في نفس الوقت تتم الدعوة إلى الحد من سلطته التقديرية، إذ من خلال هذه السلطة يتم مراعاة جوانب لا يمكن في حال من الأحوال للسلطة التشريعية مراعاتها من قبيل المجرم و شخصيته، دوافع ارتكاب الجريمة، الخطورة الإجرامية، ظروف ارتكاب الجريمة، و كل ذلك في صالح الفرد و الجماعة، خاصة أن مبدأ التقاضي على درجتين يشكل ضمانة أساسية في حالة ما إذا أسيئ استعمال هذه السلطة.

نجد كذلك و على خلاف ما تعرفه الساحة القضائية من حراك بهدف الاصلاح المزعوم إصدار مذكرات من طرف وزير العدل ماسة بحقوق القضاة معيبة شكلا و موضوعا إذ هي ليست من اختصاص الوزير شكلا و مخالفة للقانون مضمونا وذلك من قبيل اعتماد الطبع على الحاسوب كمعيار للتنقيط و تنظيم الرخص السنوية. كما تم تكريس مذكرات عامة عبارة عن تعليمات موجهة للنيابة العامة وكأنها أصبحت نصا تشريعيا في عموميتها و تجريدها، فأجهضت سلطة الملاءمة التي لا تقتضي التجريد و العمومية، (لعل في قضية قاضي صفرو خير مثال على ذلك).

و الشكل الثاني من التخوف من السلطة القضائية نفسي إذ ان السياسي يخاف من سحب البساط منه و يخاف من أن يحاسبه القضاء و يعاقبه إذا ما اخطأ، فلا غرابة أن يصرح وزير العدل في حوار صحفي فيما معناه أن السياسة الجنائية الحالية تعمل على عدم تسليط سوط القضاء على ممارس السياسة في كل تصريح له و لو زاغ قليلا بهدف عدم التشويش على الممارسة السياسية، فحتى و إن تم قبول هذا الطرح على أساس أن الأمر يتعلق بتصريحات مجردة أثناء الممارسة السياسية، فإن وزير العدل لم يعبر بشكل صريح حول مسألة الإفلات من العقاب من خلال ممارسته للاتهام من عدمه كلما تعلق الأمر بالسياسي أكان برلمانيا أو حكوميا إذا ما أقدم على فعل جرمي أضر بالمجتمع كاستغلال النفوذ و الرشوة و نهب المال العام، و ذلك بالرغم من أن الحوار الصحفي تضمن أسئلة حول هذه المسألة، فشتان بين الاثنين.

و لعل في قرار الوزير تأجيل البت في الشكايات الخاصة بالتدبير المحلي، مبررا ذلك بأن جلها تتم على سبيل التشهير ما يحمل التناقض عن ما قيل حول سياسته الجنائية التي لا تسلط القضاء على تصريحات السياسيين، علما ان الحقيقة هي ان هذا التأجيل يرجع لاعتبارات سياسية، ترتب عنها تأجيل حق الدولة في العقاب عن طريق غل يد القضاء.

إنها إذن السياسة التي تتلون بالألوان و بها تتغير المواقف بتغير المصالح، بينما العدل عن طريق الحكم بين الناس طبقا للقانون لا لون له، لدى حان الوقت أكثر من أي وقت مضى كي يعمل القضاة كرجل واحد للدفاع عن المكتسبات الدستورية، لنتمكن من تولي مهامنا الجسيمة بما يكفل حسن سير العدالة و تمكين المواطن من حقه و حمايته من كل تعسف و طغيان.

-عضو نادي قضاة المغرب

‫تعليقات الزوار

7
  • حسن
    السبت 4 يوليوز 2015 - 19:47

    كنت اتمنى ان اقرا مقالا يعرض فيه كاتبه الى موقف القضاء المقارن و ما صدر عن المحاكم اللدولية من قرارات كالقرارين الصادرين عن المحكمة الاوربية لحقوق الانسان في قضيتي "مولان " و " ميدفيدف " و محكمة النقض الفرنسية و هي قرارات لا تعتبر اعضاء النيابة العامة قضاة ,اما عن الانصاف و المصالحة فالباحث مطلوب منه ان ينورهم بما لديه من ابحاث وتجربة و اعتقد انه لو اعيد النقاش سواء امام الهيئة المدكورة او المجلس الوطني لحقوق الانسان لوقفنا على تراجع منهم في هدا الصدد لان الموضوع لم يطرح سابقا بالطريقة السليمة .
    ان تبعية النيابة العامة لن تمس باستقلال السلطة القضائية. في آخر المطاف العبرة لاستقلال القرار ,اي ان يكون القاضي مستقل القرار ,هل يمكن ان يغير نص قانوني في تكوين قاضي .ان الانظمة القضائية الرائدة بها نيابة عامة تابعة للسلطة التنفيدية و لا احد يشك في نزاهة النائب لان الحكم هو القانون لا غير .و لا يمكن للرئيس ان يصدرللمرؤوس تعليمات مخالفة للقانون .
    اننا في حاج الى نصوص ننظم بها المستقبل وليس نصوص لمواجهة سنوات الرصاص التي لن يكتب لها الرجوع في لوجود ارادة حقيقية للاصلاح.

  • chahid
    الأحد 5 يوليوز 2015 - 02:11

    من المسائل الأساسية في تنزيل الدستور تنزيلا محكما،استقلالية القضاء أولا ، واستقلال النيابة العامة استقلالا تاما من وزارة العدل والحريات

  • كمال
    الأحد 5 يوليوز 2015 - 02:34

    ببساطة يمكن أن نقول لمن لا يفهم في هذا الميدان : " هؤلاء الناس يدافعون عن إعطاء القضاء الواقف المعروف بــ ( الغرَّاق ) نعطيه الاستقلال التام عن وزارة العدل ويصبح متحررا من أي رقابة يفعل في المتقاضين ما يريد وباسم القانون ولا قانون يحكمه … هذه هي الفوضى بعينها لأن ( الغرّاق ) بهذه الصفة سيغرق المغرب كله في الظلام والفوضى لأنه سيحكم على الناس بالغرائز الشريرة بالفطرة

  • حاتم
    الأحد 5 يوليوز 2015 - 03:18

    تحية للقاضي الكفء والمتميز ذ جهاد الخمسي دراسة جادة ودقيقة تجيب بوضوح على اسئلة خصوم استقلال النيابة العامة

  • ابراهيم
    الأحد 5 يوليوز 2015 - 04:56

    الفصل 117من الدستور حمل القاضي حماية حقوق الأفراد وممتلكاتهم وأعراضهم بدون أي وسيط ومعنى هذا أن من حق كل فرد الدفاع عن نفسه دون أن يلزم بتنصيب محام وإذا ألزمه القاضي بذلك فقد خرق الدستور

  • نور الهدى
    الأحد 5 يوليوز 2015 - 08:34

    أود أن أرد على السيد حسن في هذه المداخلة:

    إن إستقلالية النيابة العامة من شأنها الكف عن تدخل الحكومة عن طريق وزير العدل في تحريك أو منع (إيقاف) مسطرة المتابعة .
    وهذا ما يعني ضمنيا حماية لأعضاء الاحزاب السياسية سواءاً كانوا في الحكومة أو البرلمان أن يشغلون مناصب جد مهمة.
    وليدرك السيد حسن أن أعرق الديمقراطيات تتمتع بإستقلالية القضاء الجالس والنيابة العامة.
    على سبيل المثال:
    لو كانت النيابة العامة مستقلة لتوبع كل من صلاح الدين مزوار في قضية العلاوات التي فجرها أفتاتى والتي طويت بتسوية سياسية و كًذالك لتوبع أوزين في قضية مركب مولاي عبد الله (22 مليار).
    هكذا تبعية النيابة العامة لوزير العدل من شأن أن تحمي بطش بعض الاحزاب السياسية.

  • adil sossi
    الإثنين 6 يوليوز 2015 - 03:56

    عدم محاسبة ومساؤلة السلط لبعضها البعض يساوي الديكتاتورية ونشر الفساد بدعوى امتﻻك كامل السلطة .
    اما اذا ﻻحظنا ما يمارس على القضاء الجالس من طرف بعضا من النيابة العامة من سوء استخدام القانون .
    وجعل النيابة العامة هي طرف وحكم في نفس الوقت …فما بالك باستقﻻلها وهروبها من المساؤلة التشريعية … فستسوء اﻻمور ويفسد القضاء …ويتمنى مندفعوا اليوم لوعادت به اﻻمور الى ما سبق …
    مادام البعض يخرج للشارع مطالبا باستقﻻل النيابة العامة مع وجود قضاة الكل يجمع على انهم عزلوا ظلما وعدوانا من طرف المجلس المكون من منتخبي و مسؤولي القضاة انفسهم .
    فكيف يمكن استبال وزير المحاسب سياسيا امام جميع السلط بما فيهم القضاة انفسهم عن طريق بياناتهم واحتجاجاتهم ….
    لطن البعض يريد لهذا البلد اﻻسعباد واﻻبتعاد من المساؤلة وترهيب المواطن بواسطة احداث سلط ﻻ يمكن ﻻحد ان يسائلها فما لالك بمحاسبتها …..

صوت وصورة
تفاصيل حادث قاتل بأزيلال
الأحد 17 مارس 2024 - 20:52 4

تفاصيل حادث قاتل بأزيلال

صوت وصورة
التراويح  في مسجد الكتبية
الأحد 17 مارس 2024 - 20:35

التراويح في مسجد الكتبية

صوت وصورة
"حوت بثمن معقول"
الأحد 17 مارس 2024 - 19:29 4

"حوت بثمن معقول"

صوت وصورة
الفهم عن الله | كلام الناس
الأحد 17 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | كلام الناس

صوت وصورة
خلف الستار | مسلسل إيبوهاسن
الأحد 17 مارس 2024 - 17:30

خلف الستار | مسلسل إيبوهاسن

صوت وصورة
أسرار رمضان | فضل الصدقة
الأحد 17 مارس 2024 - 17:00 1

أسرار رمضان | فضل الصدقة