هل أتاك حديث .. الهدهد؟

هل أتاك حديث .. الهدهد؟
الإثنين 6 يوليوز 2015 - 22:28

ترتفع منبهات الإنذار في المرصد السُّليماني المتخصص في تتبع الظواهر الكونية الغريبة. ترصد أنوارا وأصواتا فوق سطح الأرض في منطقة يفترض أن أهلها نيام.. يطرح السؤال.. يهرع المسؤولون، الخبراء، العلماء، المخبرون، المستخبرون إلى تفكيك الرموز والإشارات الصوتية والضوئية. يحارون، يستغربون. يعجزون عن فهم الظاهرة. يُستدْعَى كبراء الجواسيس على عجل. يُنتدب الهدهد قيدومهم للقيام بالمهمة. يتلقى التعليمات. ينطلق نحو الظاهرة المرصودة.. بحثا عن النبأ اليقين.

تتجمع خيوط الظلام. تنسج بساطا رماديا، يتراءى من بين مساحاته الضوئية الضيقة، مشهد عام. سلسلة جبال شامخة، محيط ممتد في الأفق، صحاري شاسعة، بساتين، مروج، هضاب، وديان، تضاريس متنوعة. يقترب الهدهد، يمتد جناحاه فوق مدينة مترامية الأطراف. يمسح عماراتها، أحياءها، طرقاتها، شوارعها الخالية. تلتقط أذناه موجات الصمت الكثيفة. يختار عمارة عالية. يحط فوق سطحها. يثبت أجهزة التقاط الإشارات الصوتية والضوئية. يشغلها. تتلقى ذبذبات صوتية قادمة من كل الاتجاهات. نفس الصوت. نفس الإيقاع. يستجيب بسرعة. يختار مصدرا وحيدا، يتسلل عبر الصوت الهادئ، يتمايل مع ترتيله النغمي، يخترق دارا عتيقة، غرفة بسيطة. يقترب أكثر من مصدر الصوت، يتوقف أمام جهاز تلفاز. صور متنوعة تتلاحق في إيقاع هادئ. تصاحب الصوت الرخيم، سماء، طيور، مياه، معمار، خطوط، تسابيخ وتراتيل. يلتفت. ثلاثة أشخاص مصطفون على أريكة في الحقل المقابل. ينصتون في خشوع. يدرك الهدهد أن في هذا الصوت سرا.

يتراجع قليلا لتوسيع حقل المشاهدة. يجمع في لقطة مجموع عناصر المشهد الثلاثة: تلفاز مستمر البث/ مائدة تراكم الطعام/ مجموعة أشخاص جامدون.. يحملقون فى التلفاز. يقترب في لقطة سائرة نحو مائدة ممتلئة عن آخرها. أصناف مأكولات عديدة متناقضة: خبز، عجين، حليب، زبد، لحوم حمراء، بيضاء، أسماك، بيض. حلويات، فطائر، إبريق قهوة، إبريق شاي، جرة ماء، إناء حريرة، خضر، مرق. خليط هائل من البروتينات والنشويات والفيتامينات وأشياء أخرى. يقشعر جسد الهدهد. يمتعض. يشيح النظر نحو الجالسين في الجانب الأيسر من المائدة. أربعة أشخاص، بدون ملامح واضحة. عيون منفتحة، وجوه شاحبة، تعكس ألوان وأضواء الشاشة المقابلة؛ أجساد متأهبة للانقضاض.

يتوقف الصوت الشجي الغريب. تتلقى الأجساد إشارة الانطلاق. تمتد الأصابع نحو المائدة، في سرعة نفاثة. تنغرس في أصناف الأطعمة، تقبض بعنف على قطع من الطعام. ترميه بسرعة في الأفواه. تبتلعه الأفواه بشره دون مضغ أو تلذذ. تعود الأيادي عجلى نحو الطعام. يرتفع الإيقاع. ترتفع حدة أصوات التلفاز، تتسابق الصور، تتلاحق في جنون. تتسمر العيون في الجهاز، تنفتح الآذان بحجم الأصوات المرسلة. تستمر الأفكاك في الطحن. لقمة إثر لقمة، جرعة بعد جرعة، لقطة تلو لقطة، ثانية بعد ثانية. شهيق وزفير، زفير وشهيق. يزداد الإيقاع توترا، تتقطع الأنفاس، يستمر القصف بدون هوادة. تنتفخ البطون، تتصبب الجباه عرقا.

ينزعج الهدهد. يلتفت نحو التلفاز، يأخذ وجهة العيون المشرعة، الآذان المسلطة. يشاهد. ينصت. ينزعج مجددا. يعجز عن ملاحقة الصور والأصوات المنسابة سيلا جارفا. نفس الركام المتناثر في المائدة. وصلات إشهارية متدافعة بدون توقف. دكان افتراضي من المعروضات الاستهلاكية: أكل، سكن، اتصالات، إعلانات، موسيقى، أغان، رقص. نساء، أطفال، سيارات، مسابقات، كلام، ابتسامات، ضحك مفتعل. قصف صوتي بصري مسترسل.

يعيد الهدهد النظر إلى المائدة. صحون فارغة، فتات طعام، أنوية تمر، قشور بيض، أشواك سمك، أوان مبعثرة. مطرح مقرف للأزبال. يشمئز الهدهد. يرفع بصره نحو الأشخاص. جنود في نهاية معركة. أجسام منهكة، أفكاك متعبة، أفواه فاغرة، تنفس بطئ، آثار طعام، عرق، ضوء منعكس على الوجوه المعفرة؛ وجوه تنكمش وتنقبض، تجهم وتبتسم. عيون مفتوحة، بلهاء، خافتة البريق.

يتراخى القصف التلفزي، تنقص حدة تواتر الوصلات الإشهارية. تتناوب السيتكومات والإنتاجات والحكايات الهزلية المبكية. يكثر اللغط، تتصاعد البهرجة. تظل الأجساد قابعة في مكانها مسلوبة الإرادة، تبتلع الأصوات، تلتهم الصور في يقظة نائمة. تكتمل الصورة لدى الهدهد، يتراجع.. يتراجع. يأخذ اللقطة الأخيرة من المشهد التراجيدي. تتداعي في ذهنه الحالات والصور المشابهة. يتذكر لوحة الغيرنيكا. يستعرض صور الدمار، يستحضر نهايات المعارك. ينسحب. يجمع أجهزته. يحلق بعيدا، يحمل معه النبأ اليقين.

يقدم الهدهد تقريره. لا خطر على الإطلاق. يزول الخوف والترقب. يسود الاطمئنان. تنشرح الأسارير. تبدأ التحليلات. يدرك الخبراء سر الإشارات الصوتية والضوئية. يؤكدون ارتباطها بممارسة دينية طقوسية. لحطات للصوم والإفطار. يرتاح الجميع إلى هذا التفسير. تأخذ الجلسة منحى آخر. تتشعب التحاليل. تتناسل التنظيرات. تتعالى الضحكات، القهقهات، الأوصاف الساخرة، التعاليق السلبية. يحفظ الملف. يجمع الهدهد انطباعاته، أوراقه، أشرطته وأقراصه. يغادر القاعة. يدرك أنه لم يأتِ .. بالنبأ اليقين.

‫تعليقات الزوار

3
  • hassan
    الثلاثاء 7 يوليوز 2015 - 19:07

    مقال رائع وصفت فأوفيت

  • المزعج
    الأربعاء 8 يوليوز 2015 - 00:57

    لقد ضل "هدهدك العميل" الطريق واضل . وسبحمل وزره واوزازهم. اما هدهد نبي الله سليمان فرجع بعد غيابه بالنبا اليقين: (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ( 23 ) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ( 24 )

  • amyra
    الأربعاء 8 يوليوز 2015 - 09:32

    ما اجمل اللغة العربية حينما تولد من ذهن عبقري في الوصف جازاك الله خيرا

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة