جدلية التغيير بين التبعية والاستقلال!

جدلية التغيير بين التبعية والاستقلال!
الثلاثاء 24 نونبر 2015 - 09:32

إنه لمن المؤسف جدا أن تتحول العقول، التي أسست لحضارة عريقة تضرب في عمق التاريخ، إلى أوعية أو قوالب لتفريغ نفايات ثقافية أو محتويات فكرية، أو أنظمة تربوية متهالكة لم تعد تجدي نفعا حتى في موطن نشأتها الأصلي.

فعندما يطلب من أخصائي علوم التربية التقدم بمقترحات برامج تربوية من أجل التغيير، لأن القديمة لم تعد تنفع أو انتهت مدة صلاحيتها، لا يصبح أمامه من خيار سوى اللجوء إلى برامج «الآخرين» إما مباشرة، أو عن طريق الترجمة إذا كان لا يجيد لغة البرنامج التربوية المنسوخ عندهم، والمستنسخ عندنا، من أجل صياغة مقترحه. ويعللون ذلك دائما بأن « الآخرين » لهم السبق في علوم التربية ويتوفرون على مناهج حديثة، حملتهم في مراكب التطور وارتقت بهم في مدارج التقدم رقيا. وكأن التغيير عندنا يقتضي منا العيش على أنقاض الآخرين الفكرية والثقافية والاستعارة منهم استعارة كاملة، ويفرضها علينا فرضا، كما وكيفا ونوعا؛ ودونما غربلة المحتوى التربوي وتعديله، حتى يراعي خصوصية مجتمعنا الثقافية، ويتماشى معها إذا كان الهدف فعلا التغيير وليس الاستنساخ. وغالبا ما تتم هذه الخطوة تحت غطاء الكونية والعولمة وما إلى ذلك من المصطلحات الرنانة الفضفاضة.

لا ندري لماذا عند الحديث دائما عن التغيير، لا بد من القطيعة مع الذات، التي هي محور التغيير أصلا، ونفيها نفيا قاطعا، والاتكال على الغير كما يتكل السقف على الأعمدة؟ ولماذا يجب إشراك « الآخر » إشراكا كليا في هذا التغيير، ليس إشراك المتعاون بل إشراك الوصي أو ولي الأمر؟ ودائما يعود إلى السؤال المعتاد طرحه الواجهة لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟

إن المجتمعات التي تقصي ذواتها وتنفيها نفيا قاطعا وتخرجها من حلقة التغيير، وتستثني نفسها من الركب، ركب التطور والتقدم، ولا تشركها في البرامج التقدمية أو الإنمائية، وتعتمد على غيرها في تحقيق أهداف آنية أو غايات بعيدة المدى، لتحكم على نفسها بالموت البطيء أو بالجمود والركون في زوايا الخنادق المظلمة، وتصبح عرضة للإهمال والنسيان وتدخل مزبلة التاريخ من أوسع الأبواب. ولعل ما دفعنا إلى قول ذلك هو حضورنا يوما دراسيا في إحدى المؤسسات حول موضوع يتطرق إلى العقل والتفكير والقيم؛ ولم نسمع متدخلا واحدا من الذين شهدنا مداخلاتهم يقول شيئا من عنده، أو من إنتاجه الخاص، أو من تفكيره الشخصي، أو من رأيه. وكل ما قيل أو عرض قد قاله الأولون من فلاسفة الغرب. وقد عجت المداخلات بتمجيد أولئك الفلاسفة، وكأنهم، مع كامل احترامنا وتقديرنا لما حملوه معهم من « تنوير » للإنسانية في زمن قلت فيه المصابيح الوهاجة، قدموا حلا سحريا استباقيا لما يعيشه العالم اليوم من مشاكل في ميادين الحياة جميعها. حتى إنه يخيل إلى المرء أن التطور الفكري والعلمي توقف عندهم زمكانيا، ولم يعد هناك مجال للاجتهاد، والذي حسب معرفتنا وعلمنا لا يتوقف ولن يتوقف مادامت نعمة العقل ملازمة للإنسان. إن الاجتهاد ليس مقتصرا فقط على الفقه، بل يشمل المجالات كلها. واعجباه لأولئك الذين يَدْعُون ويطالبون بتجديد الخطاب الديني، متذرعين في ذلك بأن باب الاجتهاد مفتوح، وينسون أنه من الأجدر أولا الدعوة إلى تجديد الخطاب التربوي والفكري والعلمي، والكف عن تعطيل عجلة التطور وتوقيفها عند عصر من العصور؛ وإلا سنعيش كما عاش أولو القرن الوسيط.

ونعتقد أنه، في هذا الزمان، لم نعد نحتاج إلى قناديل الزيت أو مصابيح الفحم الحجري لنستنير الطريق؛ هناك الأحسن والأفضل. لم نعد نحتاج إلى ما يسمى « الفكر التنويري » لأنه كثرت الأنوار وعميت الأبصار وتوقفت الأبشار، ولم ندري أي سبيل نسلك أو نتبع، بقدر ما نحتاج إلى فكر إرشادي- توجيهي يوصل الإنسانية إلى بر الأمان؛ لأن البوصلات تعطلت إبرها المغناطيسية وفقدنا معها زوايا الاتجاه. ولن يفيد المكوث في « الأبراج المعرفية » بدعوى اعتزال الجمهور لأنهم جُهًّل غير « مستنورين » في الوصول إلى الحل. ولن يفيد الانزواء والتخندق في غياهب نظريات فكرية « تنويرية » تربوية في الوصول إلى فك طلاسم العنف والكراهية والحقد والبغضاء بين أفراد المجتمع نفسه وبين المجتمعات المختلفة ثقافتها وحضارتها. لأن الانزواء والتخندق والاستعلاء على الجمهور لا يورث صاحبه، أقصد الشخص النخبوي الفكري، إلا التكبر وجعل نفسه في مدارج العارفين وجعل الناس في مدارك الجاهلين؛ وهذا هو أصل الشرخ بين النخبة والجمهور. ولا يمكن رأب هذا الصدع إلا بالتصالح مع الذات أولا، لأنها موضوع التغيير ومنطلقه، عن طريق الثقة الكاملة في قدرتها على التغيير وعلى التغير إلى الأحسن والأفضل والأجود. وهذه الثقة تنبع من الإيمان بأن نعمة العقل التي يتمتع بها « الآخر » تتمتع بها هذه الذات موضوع الاحتقار وفقدان الثقة، والمنفية عنها الإرادة. وثانيا، بالافتخار بثقافتنا وحضارتنا وعدم الخجل منها أو الخوف منها، لأن لها حمولة عقدية تتعارض مع المنظومة الفكرية والثقافية للآخرين.

*مترجم تحريري وفوري وطالب باحث في سلك الدكتوراه في اللغات والثقافات اللاتينية

‫تعليقات الزوار

2
  • Ahmed52
    الثلاثاء 24 نونبر 2015 - 16:16

    التبعية لا تنشا وتترعرع وتكبر الا في الانظمة الدكتاتورية الشمولية المتسلطة الاستبدادية.

    عندما يصبح الانسان "في بلده" يتمتع بالحرية يعرف حقوقه ويقوم بواجبات انداك يمكننا ان نتكلم عن الاستقلال. عندما ينفض الانسان من فكره بعض من غبار ونفايات الاقدمين انداك يمكننا ان نتكلم عن الاستقلال.

    "لأن لها حمولة عقدية تتعارض مع المنظومة الفكرية والثقافية للآخرين".

    البديل في البلدان العربية الاسلامية لم يات زمانه بعد. اغلبها تعيش في القرن الاول الهجري. وتريد بافكار القرن الهجري الاول ان تؤسس لمناهج تربوية حديثة؟.

    انظر حولك من المحيط الى الخليج حتى تعلم ماساة حمولة عقدية تتعارض مع المنظومة الفكرية والثقافية للآخرين كما تقول. وهي في الحقيقة تتعارض مع المنظومة الفكرية والثقافية للبشرية جمعاء.

    وشكرا.

  • Yahya
    الثلاثاء 24 نونبر 2015 - 20:24

    Comment ca se fait que les francais resident dans des villas a la campagne et en ville en france et au maroc ainsi que dans les hotels 3-5 etoiles et riads et les marocains de france resident dans les ghettos et les hlm dans les villes et rarement en campagne en france et meme dans leur pays origine?

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 3

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب