كلْ وانطلق والنادل سينظف خلفك

كلْ وانطلق والنادل سينظف خلفك
الأربعاء 25 نونبر 2015 - 14:07

الواحدة زوالا في مطعم على خط التماس بين المدينة الحديثة والقروسطية في الرباط، يتزايد الزحام على الطاولات… مطعم في المدينة القديمة وبابه متوجه للمدينة الجديدة، فضاءان منفصلان لكل واحد منطقه. للمطعم ميزات كثيرة، فبالإضافة لعامل القرب يوفر متعة الاكل علنا بسعر معقول. يأتيه الموظفون في العمارات المقابلة للغذاء وتحسين العلاقات الشخصية، هنا ينسون تشنج العمل. احسن هدية للتصالح في الثقافة المغربية هي دعوة لوجبة، والعلامة البصرية الأبرز للتحالف أو التواطؤ هي الأكل معا.

يقطع الموظفون شارع الحسن الثاني فينتقلون من الإدارات والشركات إلى المطاعم الشعبية والعشوائية ومحلات بيع العصائر والوجبات الخفيفة…

للمطعم تصميم متميز معزز بصور عملاقة فيها الكثير من اللون الاحمر الشديد الجاذبية. سلاطات بألوان مختلفة في علب بلاستيكية. حمرة البيتزا والهامبرغر وصفرة البطاطس المقلية تظهر كبيرة في الكاتالوغ وهي صغيرة في الصحون… ويكتشف الزبناء طعم الوجبات بأنوفهم… يستقبلهم ندُل أنيقون شبان.

يفضل المغاربة حضور النادل لطاولتهم بدل الطريقة الأمريكية في الذهاب للشباك للدفع المسبق وجلب الصحون… يريد المغربي أن يُخدم وهو جالس. في المطعم خمسة ندل رجال، وقد قسموا الطاولات لتحديد المسؤوليات. النساء جالسات والرجال يخدمونهن. كل نادل لديه عدد من الطاولات وعليه إظهار البراعة في الإمساك بالزبون والسرعة في خدمته ومراقبته إلى أن يدفع ثم يجري تنظيف الطاولة بسرعة الضوء لاستقبال زبون جديد… لتحقيق هذا هناك ندل ميكانيكيون لا يرمشون ولا يقفون ولا ينسون ولا يخطئون يخدمون الزبناء. كل نادل يشارك في ماراطون بين أربع نقط. هي طاولة الزبون والفرن وصراط المحاسب وزاوية غسل الاواني حيث يرجع الصحون الوسخة.

على طاولة الزبون يسجل الطلب بمستوى عالي من اللباقة والتواصل. هنا يمتدح الكثيرون الحمية والطعام النباتي لكن حين يتسلمون القائمة لا يرون إلا اللحم… يضع النادل امام كل زبون عبوات بلاستيكية للحلو والمر والحامض… لابد من تكثير التوابل لطمس تغير طعم اللحم بعد تخزينه طويلا في الثلاجة… هكذا يصنع الطّعم الذي سيضمن عودة الزبون للمطعم.

يحرر النادل الطلب ويعلنه للمحاسب والطباخ ثم يعود للترحيب بزبناء جدد… يوجههم نحو المغسلة وهي قرب سلم طابق تحت ارضي يخرج هواء ساخن من الافران التي تعمل تحت. هناك توجد جهنم البيتزا التي تلفح وجوه الطباخين…

يستمر مارطون النادل، يتسابق مع الزمن ومع الأفواه. يقع توتر بين الثانية والرابعة زوالا، يحتج الزبون على النادل فيجيبه “طلبك فوق النار”. النار في الفرن المكشوف تلهب اللحم المفروم. هنا يشاهد الزبناء طبخ ما سيأكلون ليطمئنوا… حين يفرم اللحم لا يعرف الزبون هل يأكل عضلات أو شحما أم أمعاء. يسمح اللحم المفروم ببيع العجل أو النعجة كاملة. تروج إشاعات عن المطاعم تستخدم لحم الحمير، يزعم ابن سيرين في تفسير الأحلام “أن من حلم بذبح حمارة واكل لحمها سيجد مالا وسيعيش في سعَة”.

يجلب النادل الاكل ويدفع بالصحون الفارغة إلى زاوية ضيقة تقف فيها امرأة تغسل مآت الصحون في متر مربع…

يتابع النادل مسيرته في السلسلة التايلورية في الطبخ لتوفير الطعم والسرعة والسخونة، الجميع يحبون الهمبرغر ساخنا بخلاف زعم مارلين مونرو some like it hot بأن البعض فقط يفضلونه ساخنا… لابد من السرعة للحفاظ على السخونة، ومع السرعة يشتد الضغط. لابد من الانتقال بسرعة لأن الرابض خلف الالة الحاسبة بعين الصقر يبحث عن أي تهاون او تقصير أو تأخير… لا بد من رفع الإيقاع لأن الناس كانوا يذهبون للمطاعم مرة في السنة وصاروا يأكلون خارج البيت كل أسبوع. يحب الشباب الوجبات غير التقليدية، وصارت النساء موظفات والمطاعم تطبخ بدلهن… هكذا تحرر المطاعم البشر من عبودية المطبخ وتحقق لهم أمنية “كل وانطلق”. ولكي ينطلق الزبون بسرعة يجب أن يعمل النادل والطباخ كثيرا… المطعم مبهج بالنسبة للزبون لأن الأكل فيه جاهز لكنه بالنسبة للنادل إنهاك بدني رهيب… يقطع النادل عدة كيلومترات يوميا.

ومع ذلك لا يظهر النادل مشاعر الغضب ويشبه وجهه ابتسامة كبيرة مرسومة على جدار… يحق للنادل إظهار الغضب تجاه زملائه ولا يحق له إظهار الغضب للزبناء. لدى النادل وجه للزبناء ووجه للزملاء…

حين تصير كل الطاولات مشغولة يستريح النادل بضع ثواني، قد يطرد بعض المتسولين الجياع وقد يتأمل كل زبون يلتهم ما في صحنه، وهذا مخالف لعادة المغاربة الذين يأكلون جماعيا في قصعة ولا يأكلون اللحم والخضر دفعة واحدة. فلابد من قسم اللحم بعد إنهاء الكسكس والخضر ويتولى الأكبر سنا القيام بقسمة عادلة. وغالبا ما تعطي الأم أفضل قطعة لابنها الأكبر ويقبل الآخرون هذه العدالة…

حتى في المطاعم تكثر هذه العدالة المائلة يكفي أن يقارن الفرد بين ما في صحنه وما في صحون الآخرين ليشعر بالفخر أو الاضطهاد. بإلقاء نظرة على القائمة menu يظهر بأن الوجبات الأغلى هي التي تشمل اللحم. وكلما زاد اللحم زاد الثمن. لا يتأثر ثمن اللحم بإشاعات هي بمرتبة تقارير طبية تزعم أن اللحم يسبب السرطان. شكك الرجال في ذلك لأنه لا فحولة دون لحم. وهذه نظرية بديهية صحيحة ومجربة أكثر من كل نظريات نيوتن وأنشتاين. فالشواء مصدر فحولة.

كل عام تزيد الاسعار لأن الافواه تتزايد وقطع اللحم تتناقص. لذلك تنتشر وجبة البانيني التي تكثر فيها عجائن نيئة تشبع الزبناء بسرعة. لا يستوي من ياكل اللحم بمن يأكل البانيني. هذه المقارنة الذاتية عنف نفسي. صحيح لقد تراجع العنف المادي في العلاقات الاجتماعية وحلت محله مقارنات ماركات الملابس والهواتف… وقد بيّن عالم الاقتصاد الهندي أمارتيا سن بأن وقوع المجاعات لا علاقة له بفقدان الطعام، وإنما بعجز الفقراء عن الحصول عليه بسبب غلاء أسعاره وتدني دخولهم.

طبعا من لم يشبع لن يفكر، يبلغ وزن العقل إثنين في المائة من الجسم ويستهلك عشرين في المائة من الطاقة.

ينصح الحكماء بالتفكير على المدى البعيد، على مدى خمسين سنة، لكن الجوع يذكّر الفرد باللحظة عدة مرات في اليوم، لذا ننتقل من سوسيولوجيا القبيلة والمدينة إلى سوسيولوجيا المطبخ… لا يتوهم السوسيولوجي البصاص بأن الكتابة عن الأكل اقل شرفا من الكتابة عن الانتخابات، وهو يقفز ويطلب من الصحافيين تعديل سلم أولوياتهم. فلم يمت أي شعب بسبب قلة الانتخابات… والأكل مهم. للوجبات دور كبير في تقوية رُكب الافراد، يحكى عن انهزام جنود الرومان الصائمين أمام جنود هانيبال الذين تناولوا وجبة شهية… كل الانشطة الإنسانية ظرفية باستثناء الاكل والنوم يمكن تأجيل المطالعة وتأجيل الانتخابات وتأجيل انتخاب رئيس… لكن لا يمكن تأجيل وجبة. الاكل اهم من الديمقراطية. والحاكم الذي يوفر الاكل افضل من القيادي الديمقراطي الذي يغرق شعبه في الخطابة… وقد جاءت هيلال إيلفر المقررة الأممية الخاصة بالحق في التغذية إلى المغرب وطالبت بتوزيع عادل للثروات… تحلم.

وفي حلم آخر طالبت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) بتوفير 67 مليار دولار سنويا شريطة أن يُتاح معظـــم الدعم في إطار برامج الحمـــاية الاجــتماعية وهي أداة حاسمة للجهود الرامية لاجتثاث الجوع.

تتحدث الفاو عن “الدعم في إطار الحماية الاجتماعية” في تجاهل ساذج لحقيقة اقتصادية وهي أنه إذا حصل الفقراء على الاكل مجانا لن يعملوا وسيتخرب اقتصاد العالم، روح التعاون تقتل السوق تقتل التنافس. يمكن لمنطق السوق أن يكتسح المنظمات الدولية، ولكن حظوظ منطق الجمعيات الخيرية لن يخترق قانون السوق…

تتأكد هذه الحقيقة حين يدفع الزبون ثمن الوجبة والخدمة وقد يدفع بقشيشا لمكافأة النادل الخدوم جدا…

‫تعليقات الزوار

2
  • Abder- Canada
    الخميس 26 نونبر 2015 - 03:22

    Bravo mohammed, je suis tes articles depuis plusieurs années et j'aimerai savoir si tu as déja écrit des livres pour les chercher. J aime tes écrits.

    Bonne continuation.

  • mohamed
    الجمعة 27 نونبر 2015 - 15:22

    Si mohamed ben aziz à un style originale d'écriture je le connais depuis qu'il était prof au nouveau lycée à Tata meme si j n'étais pas son èleve c 'est un homme je me pationné avec une écriture et des sujets passionnants je me rappelle bien de ses écrits à l'époque

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 3

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب