الطريق الثالث :عندما تراجع السياسة نفسها

الطريق الثالث :عندما تراجع السياسة نفسها
السبت 13 فبراير 2016 - 10:00

عرف العالم صراعا بين نموذجين اقتصاديين، الشيوعية و الرأسمالية، لمدة طويلة و كانت الدول المتخلفة أو النامية تتبنى إحدى النماذج تبعا للتوجه السياسي الذي يختاره نظام الحكم. و قد كانت هذه الدول تستورد حتى الإصلاحات التي عرفها النظامان استجابة لظروف تاريخية خاصة بتلك الدول العظمى. و النتيجة هي ظهور نماذج اقتصادية هجينة و غير ملائمة للظروف الاجتماعية و الاقتصادية التي تعيشها هذه الدول النامية و أصبحنا أمام نماذج اقتصادية تتحكم في من يطبقها و تنتج استلابا جماعيا في مواجهة أرقام و حسابات لا تخدم المصالح الآنية لهذه الدول. إذا كانت هذه الإصلاحات و من بينها التوجه نحو طريق ثالث في السياسة و الاقتصاد هي نتيجة لأزمات فعلية عرفها النظام الشيوعي و الرأسمالي، فإن استيراد هذه المراجعة السياسية و الفكرية للنظامين يعتبر إصلاحا فوقيا و غير عضوي و يحتاج بدوره لإصلاح آخر يأخذ بعين الاعتبار التربة التي يستنبت فيها. انطلاقا من هذا التقديم، نرى أن هناك طرقا مختلفة و أن لكل دولة أو فئة من الدول طريقا ثالثا خاصا بها. ينطبق هذا كذلك على المغرب كدولة نامية لها ظروف اقتصادية و اجتماعية مختلفة تمام الاختلاف عن ظروف الدول العظمى التي قامت بهذه المراجعات.

في نهاية السبعينيات عرف النظام الرأسمالي أزمة حقيقية استوجبت مراجعة فكرية لطبيعة هذا النظام و خصوصا في مسألة تدخل الدولة في الاقتصاد و مسألة دولة الرفاه [أي استمرار الإنفاق التام للدولة على الخدمات الاجتماعية] . و قد أسست مارجريت تاتشر مع رونالد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي لمراجعة سياسية للنظام الرأسمالي أصبحت تعرف بالنيوليبرالية و التي تم من خلالها إلغاء أي دور للدولة في تسيير السوق و التحكم فيه و التقليص التدريجي للنفقات الاجتماعية و التحكم السياسي و محاربة العمل النقابي، خصوصا في بريطانيا.

بعد سقوط الشيوعية، عرفت التيارات الاشتراكية أزمة حقيقية و بدأت في البحث عن طريق مغاير لليسار القديم و للنيوليبرالية، فمثلا في بريطانيا، قام حزب العمل، الذي هو حزب ذو توجه اشتراكي ديمقراطي في بلد رأسمالي، بمراجعة لتوجهه الاقتصادي و لسياسته في المجال الاجتماعي في محاولة للجمع بين اقتصاد تنافسي ناجح و مفتوح و مجتمع عادل. و قد أخذ حزب العمل في حلته الجديدة مسافة مع اليسار القديم الذي كان، حسب حزب العمل، يهتم أكثر بتوزيع الثروة و ليس بخلقها، و مع النيوليبرالية لكونها تفضل الحلول التي يفرضها السوق و تقلص النفقات الاجتماعية، أي أنها تفضل المبادرة الاقتصادية الفردية على القيم و المصالح المجتمعية. حاول حزب العمل اقتراح طريق ثالث يوافق بين السوق و المجتمع، بين إنتاج الثروة و العدالة الاجتماعية.

قام هذا الخيار الثالث على مبادئ من بينها المساواة و تكافؤ الفرص بحيث أنه يجب أن تتوفر للأفراد فرصا حقيقية لتطوير قدراتهم و ممارسة الحرية، كما أنه يجب أن يكون تكافؤ الفرص حقيقيا و مبنيا على الاستحقاق و ليس فقط مساواة مجردة في النصوص القانونية، مفتقرة للتفعيل الحقيقي. كما تأسس الطريق الثالث على قيم المسؤولية و الجماعة، فالإنسان حسب هذه الرؤية لا يعيش فقط بالاقتصاد، بل يجب أن تتوفر شروط اجتماعية تدعم التكافل و تكافؤ الفرص، كما أنه يجب على الفرد أن يقوم بواجباته بنفس القدر و بنفس الحماس الذي يطالب من خلاله بحقوقه. بتعبير آخر، يجب دعم القيم الجماعية و تفعيل دور المجتمع المدني، حتى تمارس السياسة بطريقة عضوية وفاعلة.

ينشغل الطريق الثالث بالدور المناسب للدولة في اقتصاد السوق و العولمة. يجب، حسب هذا التوجه، أن تقوم الدولة بدور فاعل بشراكة مع القطاعات التطوعية و الخاصة، و تعمل على مساعدة الأفراد على مستوى الضمان الاجتماعي و العمل. الطريق الثالث تركيب بين تفكير ليبرالي مغال في تفضيله لقوى السوق و يسار اشتراكي مهووس بتوزيع الثروة بدل خلقها، و رفض للوحشية الليبرالية و للتواكل الاشتراكي [من كل حسب قدرته و لكل حسب حاجته]، و دعم للإدماج بدل الإقصاء.

عندما نقارب نفس الموضوع في علاقته بالنظام الاقتصادي المعتمد في المغرب، نلاحظ، من خلال المعطيات التي تفرض نفسها منذ ثمانينيات القرن الماضي، أن المغرب تابع إلى حد كبير في خططه الاقتصادية للسياسة العامة المتبعة في الدول الرأسمالية الكبرى كفرنسا و بريطانيا و الولايات المتحدة. غير أن هذه التبعية تضعنا أمام إشكالية ملائمة هذه السياسية للواقع المغربي بمشاكله المختلفة و مدى قدرة هذه السياسة على التوفيق بين قوانين سوق تتحكم فيه نخبة سياسية و اقتصادية و ضرورة توفر المغرب على نظام اقتصادي يضمن العدالة الاجتماعية [توفير خدمات اجتماعية و ضمانات أساسية خصوصا فيما يتعلق بالشغل و الصحة و التعليم] . يتميز المغرب بنظام سياسي مزدوج، دولة عميقة تتحكم في السياسيات العامة و التوجه الاقتصادي و السياسي و أحزاب سياسية تدور في فلك الدولة العميقة وتنفذ سياسة الدولة بمجال جد محدود للمبادرة والتغيير، رغم وجود دستور يعطي صلاحيات أكثر لها.

عرف المغرب في الثمانينيات أزمة خانقة بسبب الجفاف و ظروف اقتصادية صعبة أرغمت الدولة على مسايرة السياسة النيوليبرالية و ذلك بإدخال بعض التعديلات على دور الدولة فيما يخص إشراف الدولة على جميع القطاعات المنتجة و كذلك على سياسة الدولة فيما يخص النفقات الاجتماعية. حيث عرفت التسعينيات خوصصة لبعض الشركات التابعة للدولة لحل مشاكل اجتماعية عالقة. و قد جمعت هذه الإستراتيجية بين وسائل و غايات متناقضة، بحيث أن تشجيع القطاع الخاص كان بهدف توفير سيولة مالية لحل مشاكل اجتماعية و ليس بهدف إنتاج الثروة. وعيا من الدولة بضرورة إيجاد حل للفوارق الاجتماعية المتنامية، حاولت الدولة تشجيع المبادرة الفردية لمواجهة الفقر و ذلك بخلق مؤسسات للقروض الصغرى، كما قامت بخلق مؤسسة التنمية البشرية التي تحاول هي الأخرى تشجيع المبادرة الفردية و حل مشاكل اجتماعية عالقة و التي مازالت فاعلة لكنها لم تستطع تقليص الفوارق بشكل ملحوظ.

في نفس الوقت استمرت الدولة في سن سياسة نيوليبرالية فيما يتعلق بالنفقات الاجتماعية، حيث بدأت منذ بداية القرن الحالي بتقليص الدعم للقطاعات الاجتماعية كالصحة و التعليم، و أصبح هدف الدولة هو التخلص التدريجي منها. و يدخل في هذا الإطار رفع الدعم عن المحروقات و تحرير أسعار مواد غذائية و غيرها من التدابير التي تسير في نفس الاتجاه. في مقابل هذا التراجع عن دعم الخدمات الاجتماعية، لم تقم الدولة بسن سياسات فعالة لحل المشاكل الاجتماعية، فمثلا مازال تطبيق التغطية الصحية يعرف تعثرات كبيرة و مازالت سياسة التنمية البشرية تصارع مشاكل خلقها اتساع الفوارق الاجتماعية في النقل و التمدرس و السكن و البنية التحتية و الاقتصاد غير المهيكل.

تبقى الأحزاب في المغرب رهينة ايديولوجيات و مصالح قصيرة المدى تحد من تدخلها في تطوير النظام الاقتصادي، فأحزاب الأعيان و رجال الأعمال لا تهتم كثيرا بالشق الاجتماعي إلا في الشعارات الانتخابية التي تتبناها، و يبقى همها هو دعم النخبة الاقتصادية المهيمنة على السوق. أما أحزاب اليسار، فإنها لم تستطع لحد الآن تقديم بديل حقيقي يجمع بين اقتصاد فعال و عدالة اجتماعية، و فيه وسائل تحقيق مساواة حقيقية و فعالة في الواقع. أما التيارات الإسلامية فتبقى رهينة مرجعية أخلاقية و سياسة براغماتية تخدم مصالح أنية.

يحتاج المغرب في الوقت الراهن إلى طريق ثالث يحقق التقدم الاقتصادي و يحقق العدالة الاجتماعية بوسائل فعالة، كتوفير فرص حقيقية للعمل و خدمات الصحة و التعليم لكل المغاربة، بالموازاة مع تشجيع للمبادرة الاقتصادية الفردية. يجب أن يتخلص اليمين الليبرالي المتحكم في الاقتصاد من راديكاليته في المجال الاجتماعي، كما يجب أن يتخلص اليسار من فكرة دولة الرفاه التي تدعم التواكل و تبخس من قيمة المسؤولية . لا يحتاج هذا الطريق لعصا سحرية بل لإرادة سياسية قوية تضع نصب أعينها أن الناس لا تعيش بالأرقام و الاعتبارات الاقتصادية الهيكلية بل تحتاج لعدالة اجتماعية فاعلة في أرض الواقع و ليس في نصوص القوانين التي تتراكم فوق بعضها في دهاليز السياسة المجردة.

‫تعليقات الزوار

2
  • أحفاد محرروا المغرب
    الأحد 14 فبراير 2016 - 11:06

    توصيف مستفيض وشافي لواقع ممتطلبات التنمية الاقتصادية بالمغرب ولوازم النهوض بتنمية موازية لكل انتاج ومبادرة،هي التنمية الاجتماعية أو ما يسمى بالعدالة الاجتماعية رغم بعض الاختلاف في مضمون كل منهما.فخلق التوازن بين أنصار المجتمع البروليتاري وأنصار النيوليبرالية معضلة تعترضها عراقيل على مستوى التنظيركما في التطبيق. ولعل مثال بريطانيا مع اقتراح عالم الاجتماع انطوني غيدنز،مستشار طوني بلير،توضح صعوبة تحقيق هذا المشروع /الحلم أمام الهيمنة الرأسمالية رغم أن الحل هو أن يتنازل طرفا الانتاج المتصارعان على اقتسام الثروة ،كل من جانبه للتوصل الى وجهات نظر متقاربة وليست متصادمة.

  • الأمم الخلاق.. والعلم
    الأحد 14 فبراير 2016 - 16:10

    شكراً للكاتب على مقاله وسرده للحقائق التاريخية التي عرفتها الأنظمة العالمية خلال القرنين الماضيين وبداية الحالي. فالكلام عن الطريق الثالث أو المسلك الذي بإمكانه التفادي من الأخطاء السابقة يكتفي بااتركيز على تربية الفرد والمجتمع، أقول بأن تربية الفرد تتجلى أولاً في مسؤولية الأسرة التي هي النواة وطبعاً بمساندة الدولة وإعطائها الإمكانيات الضرورية. وثانيا أرجع وأؤكد عن المسؤولية الكبيرة وإن لم أقول القصوى للحكومة وإدارة الدولة بوزرائها ونوابها ومسؤوليها, فالمجتمع المغربي اليوم هو في حاجة ماسة لشحن حاجياته التعليمية والتربوية, وأرى في الباب بدل كل الجهود من الحكومة وبمضاعفة إلَّمْ أقول تثْليث الميزانية المخصصة للتعليم والتربية. فلن يكون مسلك ثالث بدون ذلك ال

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 1

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب