أحزمة البؤس .. القابلية للتمدرس وسؤال المردودية

أحزمة البؤس .. القابلية للتمدرس وسؤال المردودية
الجمعة 29 أبريل 2016 - 13:50

لا شك أن الهوامش المتناسلة التي تمنطق المدن المليونية من فرط الزحف القروي المتسارع، كما في القرى والمداشر وأيضا في البلديات الصغيرة، التي غالبا ما تكون عبارة عن دواوير كبيرة، بشوارع مزفتة، كثيرة الحفر، تتناثر هنا وهناك مدارس عمومية، لاحتواء الكم الهائل من الأطفال البالغين سن التمدرس، لا سيما وأن في هذه البؤر الهشة لازالت موضة المدارس الخصوصية في مهدها، ولازالت تنافس المدارس العمومية على استحياء. فبالعين المجردة، كما بإجراء بحث استقصائي بسيط: تتضح الحالة المزرية والأوضاع الاجتماعية الكارثية والاحتقان المنذر بانفجار وشيك الذي تعيشه قاطنة هذه الفضاءات.

وإذا كانت منظمة الأمم المتحدة تعرف الفقر المدقع بعدم تناسب حاجيات الأسرة مع احتياجات أفرادها، من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وخدمات، فكل هذه العناصر يعتريها قصور وخصاص، فلا التغذية متوازنة وصحية، ولا مصادر المياه مأمونة، ولا الملبس مناسب، ولا المسكن لائق، ولا الخدمات متوفرة، على الأقل في حدها الأدنى. أما إذا تطرقنا للحديث عن أسلوب الحياة ونمط الإنفاق والاستهلاك، وأشكال الوعي الثقافي، والانفتاح على العالم والأسفار والترفيه …فسيكون ضربا من الخيال وإغراقا في الطوباوية. . إن التصنيف في خانة الفقر المدقع هو أقل ما يمكن أن يكون إذا كان الدخل الأسري بالكاد يجري لاهثا وراء الحاجيات المطردة والأعداد المتزايدة لأفراد الأسرة، بما أن البطالة المستشرية في هذه الأوساط، كما لا يخفى على أهل الاختصاص عامل فارق في ازدياد النمو الديموغرافي.

إن مسحا سريعا للوائح المتمدرسين يكشف أن وضعية رب الأسرة المهنية لا تكاد تتجاوز بطالة مقنعة إن لم تكن عطالة كلية، وهي عبارة عن حرف وممارسات ترقيعية معيشية، تتأرجح بين المياومة والاستخدام والحراسة والتجارة في الأسواق القروية وكثير من العائلات تسترزق بطرق لا شرعية ولا مشروعة، ليفرز هذا السخام يتما أكيدا يعاني منه الابن. إن لم يكن يتما بيولوجيا في حالة وفاة أحد الوالدين، فهو يتم اجتماعي في حالة غياب الأب، لسبب من الأسباب، أو يتم اقتصادي إذا كان الأب عاطلا او معطلا.و لا يتطلب الامر كثيرا من الفطنة و الذكاء ليستنتج ملامح الطفل المنبعث من هذا الركام الهائل :تفكك أسري صارخ، جفاف عاطفي، فقر فكري وانحباس في الأفق..

إن الدراسات الفيزيولوجية الحديثة أقرت بما لا يدع مجالا للشك العلاقة الطردية بين الفقر والمرض النفسي وكذا بين التشريح الدماغي والتحصيل الدراسي، بحيث أن نمو القشرة الدماغية : (écorce cérébrale) المسؤولة عن المهارات الفكرية والكلام والإدراك الحسي والتخزين: تكون أقل نموا عند هؤلاء الفئات، كما أن الضغط النفسي الذي يعاش في هذه الأوساط من قبل نمط والدي صارم ومتسلط، ينتج تواصلا عبارة عن أوامر ونواه وتحقير وتخجيل، بنوعية خطاب مميزة: نوعية يسمها التكرار والقمع والصفع اللفظي، اتجاه مخاطب يتسم بالخنوع والانحنائية، تماما كما خلصت إليه دراسات عالم الاجتماع البريطاني Basil Bernstein من خلال كتابهlangage et classes sociales) : ) الذي يخلص إلى أن اللغة تنأى بفقرها عن التفكير النظري المجرد، وهي خالية من السببية ومن المصادر والصفات وأدوات الوصل ناهيك على أنها تؤمن بالعنف الجسدي كوسيلة فعالة في كبح جماح تمرد الأطفال وتحضرني هنا عبارة رائجة مترسخة مضحكة /مبكية في ثقافة هذه الفئات أستدل بها على ما أقول، و سيبتسم بقراءتها كثير من رجالات الميدان: (اذبح وانا أسلخ) حتى أن سقف العقاب البدني الذي يكال للطفل عال للغاية. كأن الأب أو الأم تصارع في حلبة خصما غاية في الشراسة. إنهم يمارسون عنفا يسبب انحباسا نفسيا لسنوات ضوئية النتيجة: تلميذ صعب المراس، قليل الامتثال والانضباط، بقابلية للتمدرس متدنية.

ولعل هناك عوامل تزيد من تفاقم الوضع وتجعل من انخراط مؤسسة الأسرة في مشروع تدريس الأبناء انخراطا لا واعيا، انطلاقا من تمثلاتها السلبية اتجاه التعليم واتجاه مستقبل يوجد في خانة المجهول يكسلها عن الاستثمار فيه على حساب قوتها اليومي، الذي بالكاد يسد الرمق ويقيم الأود، لا سيما وأن كلفة التمدرس ولو في المدرسة العمومية تثقل كاهل هذه الشريحة، لأن مصاريف الموسم الدراسي تشكل فقط حلقة من حلقات النزيف المادي الذي يفرضه تعاقب المناسبات والمواسم طيلة السنة.

وبانعدام الضمانات الأكيدة من جدوى الدراسة يفقد رب الأسرة القدرة والحافزية علي تحمل العناء وبذل مجهود مادي إضافي للاستثمار في الدراسة. لهذا يكون التركيز فقط على الخبز وما عداه نوع من الترف، ولو ان عددا كبيرا من الآباء تلمس لديهم رغبة دفينة ومضمرة وطموح مكبوت في تحقيق أنفسهم من خلال أبنائهم، نظرا لإدراكهم قيمة العلم ومذلة الجهل بعد فوات الأوان. وسيطول مسلسل القهر عند التعرض لنوعية الإعلام الذي يوجه سهامه لهم بكل قسوة، يكون الأمر طبيعيا عندما تجرب كل الاختيارات لوفرة العرض نتيجة الثورة الرقمية المتوحشة، ولكن الذي لا يفهم هو الإمعان في استهلاك إعلام هابط يروج لقيم دنيئة وواقع هلامي ليس بينه وبين واقعنا غير الخير والإحسان، بدعوى الترويح والهروب الى الأمام من المعيش المر، لكن النتيجة: إصابة في مقتل وانتكاسة في الفطرة البشرية.

فهو يمارس نوعا من المسخ لهوية المتلقي وينأى به عن قيمه ودينه وكينونته وثقافته ويجعل منه كائنا فسيفسائيا مسيخا، بخليط وأمشاج من العادات والسلوكيات هيأه وملبسا ومنطقا ومعتقدا، مؤديا هذا المتلقي ضريبة باهضه مقابل استهلاك خرد إعلامية رخيصة، يرقص من خلالها أباطرة الإعلام على جراحات هؤلاء المغلوبين والمعترين ويوهمونهم باسترواح العطر من الورود البلاستيكية. ناهيك على الإقبال الشره على المواقع الإباحية التي تدغدغ أجهزتهم التناسلية بتسليع الجسم وإباحته خارج كل السياقات، مغتصبة قيم العفاف والفضيلة ومنعطفة بمفهوم الجنس عن مصارفه الطبيعية السويه ومقاصده الإنسانية النبيلة، نكوصا بهم مزيدا في مستنقع النتانة والرذيلة. ويؤدي فاتورتها بدون شك الأبناء المتأثرين حتما بهذه المسوخ عاجلا وآجلا. بل حتى الثورة التكنولوجية العارمة التي اجتاحت العالم كان النصيب منها سقط المتاع. فالفجوة الرقمية التي تقاس بامتلاك الأجهزة الذكية والتي تخول لأصحابها الإبحار طولا وعرضا وعمقا، عبر العالم وسبر أغواره ومكنوناته مقابل شخصية أوسع افقا وأرحب مداركا، ستتفاقم

صعودا لتجعل الفجوة تزيد اتساعا بين هذه الفئة والفئة الأكثر حظا. ولا يكاد الطفل يلتقط أنفاسه من هول قساوة مؤسستي الأسرة و الإعلام حتى يتلقفه حقل ألغام الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود: إنه الشارع ،فضاء مؤثر بامتياز و مهرب لا محيد عنه و ملاذ حتمي في ظل غياب البديل لك ان تتخيل لو استعيض الشارع بملاعب قرب أو دور شباب أو مكتبات او نواد رياضية أو قاعات سنيمائية أو مقاهي إنترنيت مهيكلة ومراقبة أو حتى فضاءات لعب من دون تجهيزات .في غياب كل هذا يصبح الشارع صفيحا ساخنا وبالوعة تلتهم كل من زلت قدمه، بحكم أنه يعد مرتعا خصبا تتقاطع فيه كل أشكال القيم صالحها وطالحها، غثها و سمينها لتصبح بالتأكيد مجاورته مجازفة غير محسوبة العواقب، تفرخ في الغالب كل الأمراض الاجتماعية والمبيقات التي يمكن أن تخطر على بال. فيكون الطفل عندئذ قد تشرب جميع المعاني السلبية للحياة واستقحمتها مشاعره وتحكمت في أفكاره وانطباعاته حول العالم، في سن حرجة أي السنوات الخمس الأولى التي تتشكل فيها شخصيته كما لا يخفى على أهل الاختصاص مما يزج به في زنزانة استسلام لا شعوري للواقع المرير.

في هذ المسار المليء بالمطبات، المحفوف بالمخاطر والمنعرجات، نحو المدرسة يخطئ الطريق مرة أخرى مع محطة غاية في الأهمية لاستتمام الرتوشات الأخيرة تشكيلا لمعالم تلميذ مؤهل نفسيا وعاطفيا ومعرفيا للتمدرس، ألا وهي التعليم الأولي الذي أعتبره سرا هائلا من أسرار انطلاقة جيدة نحو مسار تعليمي جيد إن لم أقل ممتاز. إنها محطة إعدادية بامتياز يتم خلالها إذابة كثير من الجليد بين الطفل والمدرسة إنها تحسيس واستئناس بالفضاء التعليمي، احتكاك وتفاعل بجماعة الأقران: حيث يكتسب مكانته السوسيومترية ويسهم في نمو ذكائه العاطفي ويكتسب الكفايات الاستراتيجية الأولى للتموقع في الزمان والمكان. إنه بشكل من الأشكال نوع من المغادرة الطوعية لفضاء الأسرة نحو جو من الحرية الشخصية، انفكاكا من أسرها. ليحلق كالطير بمفرده في الفضاء الخارجي لأول مرة في حياته. يكفي أن نثمن الدور الذي تلعبه الوضعيات التعليمية الأولى التي تعرض عليه، وينخرط في معالجتها، في خلق الدافعية: الشرط الأهم من بين شروط التعلم فبدون تعليم أولي يفقد نهج السيرة لمترشح المدرسة كثيرا من المحفزات. وهو أصلا مثقل بقائمة من الأمراض تتراوح بين القلق والاكتئاب والتوتر والارتباك والوسواس القهري والتأتأة وإدمان الخجل والانطواء وصولا الى أمراض نفجسدية كالتبول والتبرز اللاإرادي ومتلازمة الاجترار، الى أن تصل أحيان حد الفصام وأعراض أخرى نعاينها ربما تكون غير مصنفة…

إن الوصول الى محطة النهاية سيفضي الى مدرسة بنيت على جرف هار، تهدد بالانتحار في كل حين من فرط تآكلها و أعطابها الكثيرة القاتلة في كل شيء: في بنيتها، في هيكلتها، في منهاجها، في تدبيرها الورقي المقيت الممل والمليء بالكذب والتزوير و البهتان، في قدرة فاعليها و شركائها على البذل والعطاء والإبداع، في قدرتهم على التكيف مع الحدود و الإطلاقيات، في الوعي بأن إيقاع الممارسة يستدعي نفسا متجددا يتماهى مع سرعة التغيير و التطور .وخاصة في قدرتهم على تغيير نظرتهم للمهنة بمقاربتها مقاربة رسالية إنتاجية، عوض مقاربتها مقاربة خبزيه تكسبيه، بوعي حقيقي لخطورة و صعوبة وقدسية المهمة..

فكيف يستقيم لمدرسة غير مؤهلة أن تحتوي مشروع تلميذ بهذه الندوب والكدمات، و تتوفق في بنائه مواطنا صالحا قادرا على الإنتاج و العطاء..ألا يحق لنا أن نتساءل هل نحن مؤهلون لاحتضان وافد جديد بمواصفات خاصة؟ هل لنا من الكفايات الأساسية ما يمكن من استدراك التأخر؟ هل يكفي تكويننا الأساس الذي تلقيناه في غفلة من الزمن والذي بقي جامدا لعقود على الإحاطة بكل المشاكل التي يحل بها هذا البريء متأبطا إياها؟ عوض الاندماج تلقائيا في سيرورة التعلم كما يحصل مع أقرانه المترفين في المغرب الآخر، أنقدم له وصفة تربوية تليق بمستواه النفسي والمعرفي؟ ألا نسهم في تأجيج إعاقته النفسية بمزيد من الضغط والتشنيج؟ ألا نتفنن في التنكيل به وكيله أشد أنواع العقاب إسوة بوالديه وبإلحاح منهم؟ ألا نكرس أسلوب التواصل العمودي المستبد؟ ألا نلقنه بطرق تغيب العقل والفكر النقدي؟ ألا نذكي فيه ثقافة الاستقبال والانصياع؟ ثم هل نستغل بعض المنافد التي يمكن من خلالها التنفس من جو نظيف نوفره له من خلال قتل تأثيرات البيئة السلبية فيه؟ هل نفعل شيئا إيجابيا اتجاهه يتذكرنا به غير العقاب البدني والنفسي؟

بهكذا مصير يبقى طفل أحزمة البؤس بين فكي كماشة من أربعة أنياب، تتقاذفه الأقدار من واحد للآخر كالمستجيرمن النار بالرمضاء. لعلنا نكون في هذه العجالة أجبنا على سؤال المردودية وعلاقته بالجو العام الذي يسبق الممارسة الصفية في بعض الثغور من مغربنا الحبيب. و الحال أن العلاقة بين الفقر و المردودية علاقة واضحة و شرعية موثقة بعقد لا غبار عليه..فلا يستقيم في الأذهان شيء إذا كان النهار يحتاج الى دليل، كما قال المتنبي، فالعلاقة تبادلية بمفعول ارتجاعي لقد هرمنا من اجترار نفس الأسطوانة: أن سؤال المردودية تختبئ وراءه مشاكل هائلة مرتبطة بتوزيع الثروات، بالعدالة الاجتماعية، بتكافؤ الفرص، بالتبعية، بمرهونية الاقتصاد في يد الامبريالية المتوحشة، بالإملاءات الخارجية، بالاستعمار الفكري والاقتصادي الجاثم على الصدور، الذي خرج من الباب ودخل من النافدة من خلال الطغمة الفركفونية المتنفذة، والتي تسعى الى تكريس الأمر الواقع و الدفع بعجلة التعليم الى إنتاج وإعادة إنتاج نفس النخب و نفس الطبقات…إن الإصلاح الذي يتوق إليه الجميع رهين في الاستثمار في العنصر البشري باعتباره رأسمال حقيقي، برد الاعتبار للإنسان الفقير وباعتباره مواطنا لا رقما، باحترام كرامة وجوده، بتأهيل المحيط الذي يعيش فيه، باعتماد مقاربات مندمجة تحد من فداحة الهوة بينه و بين المترفين. آنذاك سنتيح لمؤسسة الأسرة فرصة التفكير في استثمار مضمون لأبنائها في مدرسة عمومية مؤهلة لاحتضان تلميذ مؤهل: تروم صناعة أجيال سوية تواقة لبناء مغرب متناغم حيث الفجوة بين أقطابها دنيا..

‫تعليقات الزوار

1
  • تربوي
    السبت 30 أبريل 2016 - 21:34

    كل التشجيع لمثل هذه الكتابات التي تحلل بكل عمق المعنى الحقيقي لدور العدالة الاجتماعية و التوزيع العادل للثروة و محاربة الفقر في تحديد ملامح الناشئة التي نريد ……..

صوت وصورة
الحكومة واستيراد أضاحي العيد
الخميس 18 أبريل 2024 - 14:49 32

الحكومة واستيراد أضاحي العيد

صوت وصورة
بايتاس وتأجيل الحصيلة الحكومية
الخميس 18 أبريل 2024 - 14:36 39

بايتاس وتأجيل الحصيلة الحكومية

صوت وصورة
هلال يتصدى لكذب الجزائر
الخميس 18 أبريل 2024 - 13:45 3

هلال يتصدى لكذب الجزائر

صوت وصورة
مع المخرج نبيل الحمري
الخميس 18 أبريل 2024 - 13:17

مع المخرج نبيل الحمري

صوت وصورة
عريضة من أجل نظافة الجديدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 12:17 3

عريضة من أجل نظافة الجديدة

صوت وصورة
"ليديك" تثير غضب العمال
الخميس 18 أبريل 2024 - 11:55 1

"ليديك" تثير غضب العمال