التراث الروحي للأمة المغربية

التراث الروحي للأمة المغربية
الأربعاء 25 ماي 2016 - 07:28

شكّل التراث الروحي على مر التاريخ المغربي جزءا من هوية المغاربة، والذي يُمثِّلُ مصدرا قويا لتعزيز قيم الاعتزاز بالوطن وبذل الجسد والروح في سبيل المصلحة العليا للبلاد ونفع الخلائق وتصفية النفوس، وغير ذلك من قيم المواطنة التي يحتاجها إنسان اليوم.

يعد التصوف مظهرا قويا من مظاهر التراث الروحي للمغاربة، فهو مقوم أساس من مقومات تاريخ المغرب، شكّل وجوده في المغرب حقيقة تاريخية، دليلها سمة التصوف في التدين الشعبي المغربي، فلم يقتصر وجوده على مظاهر التدين، بل امتدت آثاره في ميادين كثيرة، كأسماء المدن والأبواب، وأسلوب الحياة بشكل عام. حيث يلاحظ أن الشخصية المغربية روحية بطبيعتها.. ولذلك لم يكن التصوف أمرا مفاجئا في سيرورة التاريخ الديني والاجتماعي للمغاربة، ومن ثم لا غرابة أن ينال التصوف في المغرب حظوة عالية ومكانة متميزة، بسبب السمات التي طبعته.

إن التراث الصوفي في المملكة المغربية باعتباره تراثا روحيا كبيرا ورأسمالا رمزيا لا يُستهان به، تتجاوز قيمته الوظيفة التاريخية أو الاجتماعية أو النفسية، إلى النظر إليه باعتباره مقوما أساسا من مقومات الهوية المغربية الأصيلة، وخاصة في بعدها الديني، تلك الهوية التي قامت على ثلاثة مبادئ أساسية، هي: العقيدة الأشعرية والفقه المالكي وتصوف الإمام الجنيد، وتضاف إليها إمارة المؤمنين باعتبارها من تحمي هذه الهوية وتعمل على تقويتها والحفاظ عليها ورعايتها وضمان استمراريتها. إن هذه المبادئ هي التي لخّصها الشيخ عبد الواحد بن عاشر في منظومته المشهورة (المرشد المعين على الضروري من علوم الدين) حين قال:

في عقد الأشعري وفقه مالك و في طريق الجنيد السالك

وقد علق على هذه المبادئ محمد الطالب بن الحاج أحد كبار فقهاء المالكية بالمغرب، قائلا: “إن هذه الأسس متعلقة بأقسام الدين الثلاثة: الإيمان والإسلام والإحسان”، حيث يراد بالإحسان الجانب الصوفي أو الروحي. فالتصوف بهذا المعنى يمثل الجانب الروحي في الإسلام أي مقام الإحسان، تبعا لما جاء في حديث جبريل عليه السلام حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن الإحسان، قال: ” أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك”، فالتصوف المغربي الذي تُجمع عليه الأمة المغربية هو حب النبي صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره والإخلاص في عبادة الله، كما يقول أبو سالم العياشي: “والطريقُ إلى الله تعالى من غير النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَسْدودٌ، والداخلُ من غير بابهِ مَرْدودٌ..، وأما السنةُ فلا سبيلَ إلى معرفتها إلا بواسطةِ الصَّحابَةِ، رضوان الله عليهم”، وعلى الرغم من كثرة الطرق الصوفية بالمغرب إلا أن مصدرها واحد كما قيل:

وكلهم من رسول الله ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم

وهكذا، فالتصوف في المغرب كان له طابع سني أخلاقي، لا يمت بصلة للانحرافات والخرافات والبدع التي استحدثها أدعياء التصوف “واللصقاء الذين يندسون في صفوفه نفاقا واحتيالا، أو جهلا وفضولا”، وقد أنكرها عليهم أهل التصوف الحق وألفوا كتبا في الرد عليهم، من ذلك الشيخ أحمد زروق الفاسي الذي ألف كتابا في الرد على مبتدعة التصوف سماه: “عدة المريد الصادق من أسباب المقت في بيان الطريق القصد وذكر حوادث الوقت”، والذي عرض فيه ما استحدثه بعض المتصوفة، مؤكدا على ضرورة الالتزام بالكتاب والسنة. وغيره من ردود الصوفية المغاربة على بعض المندسين بينهم، فالتراث الصوفي الذي نتحدث عنه هو ذلك الوجه المشرق للحضارة المغربية وليس جانب الانحرافات، أي تصوف العلماء والصلحاء وليس تصوف العوام والطرقية الخرافية، فالهوية المغربية عندما اتخذت من تصوف الإمام الجنيد مصدرا في السلوك، إنما ركزت على الكتاب والسنة واقتفاء أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، وثمار ذلك على الأخلاق والمجتمع. يقول الإمام أبو القاسم الجنيد: “إن كل الطرق مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ولزم طريقته”. كما أكد هذا الإمام على ضرورة العلم بالكتاب والسنة قبل الاقتداء، بل قبل الكلام في شأن من شؤون القوم، فنجده يعبر عن ذلك صراحة بقوله: “علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا”. ومما يدل على تأثر صوفية المغرب بالإمام الجنيد قول الصوفي المغربي أبي عبد الله بن تجلان: “من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في التصوف لأن منهجنا هذا مضبوط بالكتاب والسنة” .

بناء على ما سبق، لا ينبغي الخلط بين التصوف المغربي القائم على الكتاب والسنة ونبذ البدع وبين التصوف الآخر الطرقي الذي إنما يسيء للمغرب ولا يُشرفه، ولعله الجانب السلبي الذي تُسلط عليه أضواء الإعلام في كثير من المناسبات فيخلق انطباعا سلبيا لدى العموم، في حين كان ينبغي التركيز على الجانب المشرق من التصوف وهو العلم والأخلاق وخدمة المجتمع والتضحية.. وغيرها من القيم التي شكَّلت على الدوام صمام أمان للأمة المغربية.

من هنا ندرك مكانة التراث الروحي للأمة المغربية باعتباره ثروة لامادية قابلة للاستثمار والتحويل وإنتاج الثروة، ولعل هذه المكانة المتميزة التي حظي بها التصوف في أرض المغرب، راجعة بالأساس إلى عوامل تاريخية واجتماعية ونفسية ترتبط بخصوصيات الإنسان المغربي، الذي يميل بطبيعته إلى ما هو روحي ووجداني ويتعلق بالسنة النبوية تعلقا كبيرا، فمن ذخائر هذا التراث: أن يتميز أهل المغرب بخصوصيات روحية أهّلتهم لريادة عالمية في التصوف، ومنها:

– أن المغرب من أوائل الدول التي دعت إلى الاحتفال بذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما ألف أبو العباس العزفي السبتي (ت633هـ) كتابا سماه: الدُّرُّ المنظم في مولد النبي المعظم.

– على الرغم من أن صوفية المغرب أقل تأليفا في علم التصوف من صوفية المجتمع الحضري، في الأندلس وعواصم المشرق وإيران، إلا أن شذرات قليلة من الآثار التي وصلت إلينا، قد تضاهي في مضامينها و”ذخائر حكمتها”، أي تعبير صوفي آخر، في أي مكان من العالم، ولعل سبب هذه الملاحظة يعود بالأساس إلى خصوصيات متصوفة المغرب، الذين ركزوا على التصوف العملي والأخلاقي ولم ينشغلوا بالحقائق وترك العلائق، بل سعوا إلى إفادة الخلائق ونفعهم. ومن ثم، كان تركيز المغاربة على السلوكات العملية أكثر، وهو ما يؤكد تبنيهم للمنهج الوسطي القائم على اختيار أجود الأخلاق وأجَلّ الصفات، والتي تظهر في سلوكهم اليومي ومعاملاتهم.

– أن المغرب من أكثر بقاع العالم الإسلامي اهتماما بأدب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويزخر التراث الصوفي المغربي بكم هائل من نصوص الصلاة على النبي المختار، من أهمها كتاب ضخم بعنوان: “ذخيرة المحتاج في الصلاة على صاحب اللواء والتاج” لمحمد المعطى بن الصالح الشرقي، وهناك مؤلفات عديدة في هذا الباب منها:

– “نفح الطيب في الصلاة على النبي الحبيب”، للمختار بن أحمد بن أبي بكر الكنتي.

– “المشرب الزلال والغنى بلا زوال في الصلاة على أفضل الرجال”، لمصطفى ماء العينين.

– “مطالع الأنوار الأحدية في ذكر الصلاة على خير البرية”، للطيب بن إدريس الصقلي.

إن مبالغة المغاربة في حب النبي صل الله عليه وسلم والتعلق بسيرته العطرة، عبر الاحتفاء بمولده والإبداع في صيغ الصلاة عليه، يعكس شخصية الإنسان المغربي الوجداني والروحي، ويفسر لنا سبب انتشار التصوف في ربوع المغرب وتغلغله في أوساط اجتماعية كبيرة، حتى قيل إذا كان المشرق بلد الأنبياء فإن المغرب بلد الأولياء، وأرض المغرب تنبت الأولياء كما تنبتُ الأرض الكلأ.

– الجمع بين الدين والدنيا في السلوك الديني للمغاربة: فقد كان لابد للصوفي من امتهان مهنة أو حرفة يقتات منها مع التصوف، فالخلطة والكسب والأخذ بالأسباب الاجتماعية ضرورة دينية. وقد اختلفت أساليب شيوخ التصوف في التعبير عن اندماجهم وخدمتهم للناس، فشاعت تقاليد إطعام الطعام، والتطوع لمساعدة المساكين بطرق مختلفة، وتدريس أبناء الفقراء، وممارسة التطبيب، والإصلاح بين المتخاصمين، وتقديم ما يستطاع من نصح وعون للناس، فمنهج الصوفية يقوم على أن يقابل الخير بالخير، وأن يقابل الشر بالخير أيضا، وهم بذلك يسهمون في زرع إرادة الخير في الإنسان، وتخليق الحياة العامة، الشيء الذي عجزت عنه كثير من البرامج الإصلاحية. ولا شك أن المغاربة بهذا التوجه، إنما يقتدون بالسلف الصالح؛ فقد كان الصحابة علماء مجاهدين، وعلماء تجارا، وعلماء مزارعين، فلم يتفرغوا فقط للعلم الديني ولا الدنيوي، ولم ينصرفوا إلى الدنيا أو إلى الآخرة، بل جمعوا بين الحسنيين، ولعل ذلك ما يُفسّر ابتعاد الصوفية المغاربة عن “التصوف الفلسفي”، وانشغالهم بما يلبي حاجات المجتمع من الأمن، في مختلف تجلياته؛ الأمن من الأطماع الخارجية التي كانت تهدد البلاد في بعض الحق بالتاريخية، حيث أقاموا الرباطات لحماية الثغور، والأمن الغذائي بإصلاح الأراضي وبناء الزوايا لإطعام عابري السبيل، وإيواء المحتاجين، ثم الأمن الروحي بحماية العقيدة ونشر العلوم بحمل مشعل تعليم الناس أمور دينهم، وغير ذلك، من أنواع الأمن التي جنّد صوفية المغرب كل إمكاناتهم وطاقاتهم من أجل تعزيزها والحفاظ عليها وترسيخها.

* كاتب وناقد مغربي

[email protected]

‫تعليقات الزوار

5
  • ahmed
    الأربعاء 25 ماي 2016 - 08:01

    لماذا يحارب اخوة العدل والاحسان بالمغرب إذا؟

  • مثلا مثلا افرض
    الأربعاء 25 ماي 2016 - 15:48

    لنفترض ان الزوايا ستعود و تطعم الطعام و ادا شبعات غنات ، و ستمتلئ معدة الشيخ و المريدين فتفرز فيتامينات ستتحول الى دهون فيكتنز ظهر الشيخ و مريديه شحما و لحما و سينظرون من جوانبهم للفاسدين فيصل حونهم و يصلحون ما فسد فيهم فتتسع دائرة الشيخ المحيطة به و سيشعر بانتفاخ حقيقي فيقفز و من معه من اللعب المحلي الى اللعب الجهوي فيلعب شيخ الزاوية الشوط الثاني أو الثالث من عمر لقاء مباراة الملاكمة و سيسجل نقاطا على خصومه و ستمنحه لجنة التحكيم الميدالية ليتأهل فريق الشيخ للعب على المستوى المركزي و ستقام لقاءات للتباري بالبارود و الورود و ربما الشيخ ينال تصويت الدول العربية على مرشحته للغناء الاكاديمي فيفوز الشيخ بالمرشحة و سيتطلع للقاء ترامب المرشح الجمهوري و سيتحادثان على أمل و سينتظر الشيخ فوز الجمهوريين و لن يفاجأ بفوز الديموقراطيبن إن هم صعدوا و سيصعد من يصعد لسدة الحكم و سيأتي الشيخ طارحا مشروعه على هيئة الأمن و المسبحة الخشبية تطوق عنقه و ستصادق هيئة الأمن على الشيخ ليحكم شعبه و سيعود بالسجاد الفارسي و سيدعو مريديه للجلوس على السجاد وسيتفننون في وصف عراقته وحسن هيئته وسيباركون لشيخهم بالزاوية

  • كاره الضلام
    الأربعاء 25 ماي 2016 - 16:07

    المعلق الاول
    و متى مان اخوتك مغاربة لتقحمهم في ما يخص المغرب؟ الرجل يحدثك عن التدين المغربي و اخوتك ليسوا لا متصوفة و لا مغاربة فما الدي يجعلك تقحمهم في الموضوع؟ هل سبق لك ان سمعت متصوفا يدعو الى قتل الدين لا يعتقدون بالخلافة؟ هل هناك متصوف يكره الشعب بكل فئاته؟ هل هناك متصوف يؤدلج الدين و يزرع الفرقة بين مكونات الشعب؟هل هناك متصوف يدعو الى البلبلة و زرع القلاقل في المجتمع؟ هل هناك مغربي يدعو الى اعتبار الوطن نجرد مرحلة عبور في الطريق الى الامة و الخلافة؟ عبيد السلام كان مشرقيا صرفا و اتباعه لا علاقة لهم بالمغرب لا على المستوى الفكري و لا نمط العيش و هم يكرهون المغرب اكثر من اعدائه و يتمنون تفتيته و خرابه، فادن اخواتك ليسوا لا متوصفة و لا مغاربة و انمها هم خرافيون مستلبون مشارقة الهوى يلعبون دور الكومبارس مع اي جهة خارجية كانت ،انهم شياطين اشرار و اجانب و الدي يرفضهم هو الشعب المغربي قبل السلطة و لن يكون لم مكان في المغرب، التدين المغربي العريق و الراقي هو التصوف المتسامح المتضمخ بالفن و الابداع الموسيقى و ليس خرافات المعتوهين الحالمين بالخلافة

  • fatima
    الأربعاء 25 ماي 2016 - 16:34

    لأمّة العربيّة ليست إلّا حلمًا يحسبه البعض جميلًا بينما أراه أنا مطمعًا استعماريًّا، لأنّه يحاول القضاء على أعراق أخرى باسم الإسلام، ويحاول أن يجعل من الدّين مطيةً لنشر ثقافة أحدهم على حساب ثقافة الآخر.
    شمال إفريقيا ليست عربيّة! سأقولها بالبند العريض في وجه كلّ من تسوّل له نفسه تزوير هويّة المنطقة والحديث باسمها، وكأنّ لا تاريخ لنا. شمال إفريقيا أمازيغيّة، ولها تاريخٌ مجيد بعيدًا عن تاريخ العرب وثقافتهم. شمال إفريقيا هي أرض الأمازيغ؛ لم تكن يومًا عربيّة، ولن تكون! كان لا بدّ من البدء بتصريحٍ كهذا لجعل الأمور جدّ واضحة. الآن سيصرخ أحدهم: لماذا تكره العرب؟! بينما في الواقع العلاقة ليست علاقة حبّ وكره، إنّما علاقة تاريخٍ وحقيقة.
    azul

  • ابن طنجة
    الأربعاء 25 ماي 2016 - 22:27

    (4) يا فاطمة انا اتفق معك ان سكان شمال افريقيا امازيغ لكننا تعربنا وان معيار ومقياس صلاح الانسان كيفما كان عرقه هو التقوى يقول النبي صلى الله عليه وسلم( لا فرق بين عربي واعجمي الا بالتقوى) والسلام عليكم ورحمة الله

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 7

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08 4

بيع العقار في طور الإنجاز

صوت وصورة
مستفيدة من تأمين الرحمة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:35

مستفيدة من تأمين الرحمة

صوت وصورة
مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:28 8

مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير

صوت وصورة
تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس
الإثنين 15 أبريل 2024 - 15:55

تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس