المفترسون وحقوق الإنسان

المفترسون وحقوق الإنسان
الخميس 23 يونيو 2016 - 19:44

يقول المفكر وارين ألماند” Warren Allmand “: ” نعيش في عالم يعتبر فيه خرق قواعد التجارة الدولية أخطر من خرق حقوق الإنسان “. ويستشف من هذه المقولة أن الإنسان يشكل الحلقة الضعيفة أمام تصاعد نفوذ الرأسمال المادي على حساب القيم الإنسانية نتيجة الرأسمالية المتوحشة والمتغطرسة ، التي تنامت بشكل خطير في العقود الأخيرة ، تحت ذريعة العولمة “الخادعة” ومنظمة التجارة الدولية “القاتلة”.

لقد شهدت عملية العولمة وغيرها من التطورات التي حدثت خلال العقود الماضية تصاعد بعض الشركات عبر الوطنية ، أغلبها ذات رأسمال أمريكي وأحيانا أروبي ، أطلق عليها إسم الشركات المفترسة Les entreprises prédatrices، و أطلق على أصحابها و مالكيها بالمفترسين Les prédateurs ، تقوم بأعمال تجارية و بدور متزايد الأهمية على الصعيد العالمي وكذلك على الصعيدين الوطني والمحلي. وأدى تنامي مدى امتداد وتأثير هذه المقاولات التجارية المفترسة إلى حوار على صعيد الأمم المتحدة و بعض المنظمات التابعة لها بخصوص أدوار هذه المقاولات الفاعلة ومسؤولياتها فيما يتعلق باحترام مبادئ حقوق الإنسان.

و هذه المقاولات المتغطرسة ، ذات النفوذ السياسي و التجاري القوي على الصعيد الدولي ، تبحث عن الاستثمارات الخارجية بأي ثمن ، خاصة بدول العالم الثالث ، وبطريقة غير مباشرة ، عن طريق البنك العالمي أو الصندوق الدولي ، حيث تفرض شروطا خاصة و سياسات تقويمية ، من خلال تخفيض قيمة العملة ، وعندما تنخفض قيمة كل شيء ما يجعل الموارد الأصلية متاحة للشركات المفترسة في ذلك البلد بسعر أبخس من قيمتها الأصلية ، و أيضا تخفيض الميزانيات المتعلقة بتمويل البرامج الاجتماعية كالتعليم والصحة والسكن ، بحيث تمتلكها الشركات الكبرى لتصبح الخدمات تباع وتشترى من أجل الربح ، و كذلك الضغط من أجل خوصصة الشركات المملوكة للدولة ليسهل تملكها من قبل هذه الشركات ، وأيضا تحرير التجارة لتدمير الاقتصاديات المحلية عن طريق منظمة التجارة الدولية OMCالتي أنشأت لهذا الغرض من قبل المفترسين الأمريكيين وحلفائهم الأروبيين.

وكل ذلك أدى إلى اغتيال الاقتصاديات الناشئة للدول الفقيرة أو السائرة في طريق النمو، مما ترتب عنه غلاء في المعيشة من خلال الزيادة في المواد الاستهلاكية ، و تسريح العمال من المقاولات المخصخصة ، و تخفيض الأجور و الاستحواذ على أراضي السكان الأصليين و تشريدهم ، مما تسبب في زيادة حدة الفقر و التسول والهجرة والنزوح و انعدام الأمن الغذائي وتدمير البيئة.

فهؤلاء المفترسون يستثمرون في كرامة الإنسان خاصة في صفوف العمال المعوزين والمحتاجين واستغلالهم أبشع استغلال من خلال تمديد أوقات العمل ، مقابل أجر شهري زهيد جدا لا يكفي حتى للحاجيات الشخصية للعامل ذاته، في خرق سافر لقوانين الشغل و هدر للكرامة الإنسانية.

كما أن هؤلاء المفترسين يجنون أرباحا طائلة و يعطون منها بعض الفتات للمستأجرين الذين يكدون ويحرقون طاقاتهم من أجل أجر لا يكفيهم للحصول على سكن لائق أو تربية و تعليم لأبنائهم أو ولوجهم للعلاج في حالة المرض أو حصولهم على غداء متوازن.

ويصف عالم الاقتصاد الأمريكي جون بيركنز ” John Perkins ” المفترسون في كتابه: “اعترافات قاتل اقتصادي” : ” إنهم مجموعة من الأفراد يديرون الشركات الكبرى وهم يتصرفون بوصفهم الأباطرة الحقيقيون لهذه الإمبراطورية و يسيطرون على وسائل الإعلام وكذلك على معظم السياسات ، ويعيشون على أساس افتراضي واحد هو : أنهم يجب أن يحققوا أقصى قدر من الأرباح بغض النظر عن التكاليف الاجتماعية والبيئية “.

و مع تزايد دور الشركات المفترسة ، على الصعيدين الوطني والدولي، أُدرجت مسألة تأثير الأعمال التجارية على التمتع بحقوق الإنسان في جدول أعمال الأمم المتحدة ، حيث تم وضع آلية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان للنظر في أنشطة هذه المقاولات في هذا الصدد و تحري سبل تحقيق مساءلتها عن خرق مبادئ حقوق الإنسان .

وفيي هذا الإطار ، أقر مجلس حقوق الإنسان ، بتاريخ 16 يونيه2011 ،المبادئ التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان لتنفيذ إطار الأمم المتحدة المعنون “الحماية والاحترام والانتصاف”، التي تقدم لأول مرة معياراً عالمياً لمنع ومعالجة خطر تعرض حقوق الإنسان لآثار ضارة مرتبطة بنشاط تجاري.

لكن مع الأسف هذه الشركات لا تلتزم بتوصيات الأمم المتحدة التي تحثها على احترام مبادئ الإنسان ، فهي مقولات متغطرسة ، تعتبر نفسها فوق القانون ، بل إن بعض الشركات الأمريكية ، التي تساهم بشكل كبير في تحديد السياسة الخارجية الأمريكية تستطيع التدخل من أجل قلب الأنظمة وتغيير القادة والحكام و التأثير على مجلس الأمن لإعلان حالة الحصار على الدول أو شن الحرب ضدها وقهر شعوبها .

المفترسون يتحدون بأعمالهم المنظمات الدولية و يدوسون على كرامة الإنسان و يدمرون البيئة ، غرضهم تحقيق الربح على حساب القيم الإنسانية ، همهم الوحيد تجميع الثروة والتحكم في الأبناك العالمية و في التجارة الدولية والتصدي لكل من اعترض طريقهم أو سعى إلى المساس بمصالحهم .

إنها أزمة حقوق الإنسان يعيشها العالم الآن.

*ناشط حقوقي ، مدير مركز الرباط للدراسات السياسية والإستراتيجية

‫تعليقات الزوار

5
  • ali
    الخميس 23 يونيو 2016 - 21:17

    الشركات الامريكية لا تهتم لحقوق الانسان لان الأمم المتحدة سياسيا تابعة للولايات الامريكية
    امريكا قاتلت للبشرية مصاصة لدماء الفقراء
    تدمير دول العربية واسقاط انظمة من اجل استعباد هذه الدول
    ولا ننسى نشر الامراض الخطيرة في افريقيا من اجل رفع من بيع الادوية

  • learner
    الخميس 23 يونيو 2016 - 21:21

    كما هو معلوم فعالم التجارة العالمية تحكمه المنافسة الشرسة قصد ربح اكبر حصة من السوق و رفع رقم المعاملات, هذا من حيث المبدا. اما ما تحدث عنه الكاتب من افتراس, فلا يجب ان ينسينا دور اقتصادات الدول النامية. مثلا بالنسبة للمغرب, حيث اقتصاد الريع هو المفترس الاكبر, انتشار الرشوة و الزبونية, تزوير ارقام معاملات الشركات من اجل ا لتملص الضريبي, عدم شفافية طرح الصفقات; غياب نقابات حقيقية و بيع اغلبها للماتش من تحت الطاولة; غياب اعلام مواطن يقوم بدوره التوعوي لفتح نظر المواطن امام ما يتهدده من استغلال, كان يشرح كيفية احتساب الفائدة على القروض, او وضع صاحب الدخل المحدود امام مسؤولياته فيما يخص تحديد النسل مثلا; و دور الايديولوجيا القامعة لكل مبادرة فردية, فاذا كان في امريكا مثلا خمس عائلات متحكمة في الاقتصاد فان ذلك لا يمنع زاغبرغ من ابداع facebook انطلاقا من فكرة, و ستيف جوبز من خلق apple…
    موضوعيا فالسياسة الاقتصادية المحلية مبرمجة على اساس الا يفكر الانسان خارج اطار اشباع الحاجات الطبيعية , كان تتنمى لديه ارادة المساهمة في خلق السياسات التي تهم مصيره…ممنوع

  • adamà
    الخميس 23 يونيو 2016 - 23:47

    الا ترون ان الامم المتحدة هي التي تحمي هذه الشركات الشرسة بالتمهيد لها ببيع الاسلحة ونشر قيم العولمة والاستهلاك وخصوصا دول الفيتو غاصبة الحقوق

  • هشام
    الجمعة 24 يونيو 2016 - 02:21

    شكرا على التذكير, هذا شيء معروف منذ زمن , بالنسبة لي على الاقل,و قد تم دق ناقوس الخطر, لكن ما الحل؟ في ظل انهيار الاشتراكية و التراجع المخيف و المستمر للاحزاب الاشتراكية. الرأسمالية اصبحت مثل طفيليات ضخمة تلتهم الاخضر و اليابس و لا تعي انها تدمر مصدر قوتها

  • elbarraqui
    السبت 25 يونيو 2016 - 16:46

    مفترسوا حقوق الانسان لا توجد فقط داخل تلك الشركات ، بل توجد ايضا في مرافق الادارة المغربية، ومنها مؤسسات دستورية محترمة، كمجلس المتسشارين، حيث تروج بقوة وباسف حادثة خطيرة ، اذ قام احد المسؤولين الماليين بسب وقذف متقاعد بشكل همجي، لسبب بسيط هو مطالبته بتسوية وضعيته المعاشية,

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 2

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 4

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل