انقلاب في الملعب

انقلاب في الملعب
الخميس 21 يوليوز 2016 - 14:19

كان هناك فريقان يلعبان في كأس محلية، فريق “الشرعية” وفريق “الانقلاب”. لكنهما يحظيان بشهرة داخل البلد وخارجه لدرجة أن كانت المباراة حامية الوطيس بين أنصار كلا الفريقين خصوصا في العالم العربي الذي اصطفت جماهيره حول الشاشات مترقبة ما ستؤول إليه نتيجة المباراة. غير أن هذه المباراة غير اعتيادية، فلم يتم إيداع موعدها على القنوات الرياضية وتركت كمفاجأة لتصبح التغطية عالمية من القنوات الإخبارية بدل الرياضية.

كانت الساعة تشير إلى حوالي الساعة العاشرة والنصف مساء يوم جمعة هادئ بالتوقيت المحلي حين أعطيت صافرة المباراة. بدأت المباراة بهجوم مباغت لفريق “الانقلاب”، وبدأوا بسد الجسور الرئيسية أمام الخصم حتى يتم إحكام السيطرة ومحاصرة اللاعبين. كان فريق “الشرعية” يضم لاعبا مغمورا اسمه “ميسي”، له شهرة وأتباع داخل الملعب وخارجه. اشتهر فريق “ميسي” عندما تصدر البطولة المحلية في نونبر 2002. كان البلد يئن قبلها في أزمة استقرار اقتصادي مستدام. إذ ظل تضخم العملة الوطنية يتراوح بين 25% و110% منذ سنة 1977 إلى متم سنة 2003. ومع تولي فريق “الشرعية” الحكم، هبط معدل التضخم في ظرف سنة من 45% سنة 2002 إلى 25% سنة 2003، ثم منه إلى 9% سنة 2004. ومنذ ذلك الحين، استقر التضخم بين 6% إلى 10% لغاية انطلاق مباراة اليوم.

انقض فريق الانقلاب فجأة على فريق الشرعية وحاصروا كل اللاعبين، فأعلنوا ان ابتداء من اللحظة، سيتولى فريق الانقلاب حماية حقوق اللاعبين وقواعد الديمقراطية. هذه الديمقراطية التي كانت في الماضي حكرا على فريق الشرعية، صارت فجأة كامرأة فاتنة تختطفها النزوات لحمايتها تحت ذريعة الخوف من ضياعها حتى من أقربائها. وأمام صمت الحكم الرئيسي ومعه حكام الشرط، ازدادت المباراة ضراوة وعنفا وخرجت عن قواعد الفيفا.

وحتى يتمكن لاعبوا “الانقلاب” من فرض سيطرتهم وتحكمهم على فريق “الشرعية”، ضربوا طوقا على المهاجمين الكبار، وحوصر “ميسي” في زاوية مغلقة ولم يتمكن من التحرك خوفا من القصف أمام أعين الحكام وترقبهم وأمام إلغاء قواعد اللعبة. كانت المباراة تسير نحو نهايتها، وكان أنصار “الشرعية” يراقبون في حيرة ما يجري ويتساءلون عن مصيرهم ومصير الملعب بعد الهزيمة الثقيلة أمام “الانقلاب”. فقد نشأ عشق كبير إلى درجة الولوع بينهم وبين فريقهم منذ عقد ونيف سرعان ما سينكسر ليعيشوا “سنوات الضياع”. بيد أن ما لم يستوعبه فريق “الانقلاب” هو رغم فرضه الحصار على الأحد عشر لاعبا من فريق “الشرعية”، لم يكن بمقدوره أن يسيطر على اللاعب “الثاني عشر”. فهذا الأخير يفتقده فريق “الانقلاب” في الداخل أساسا وكل أنصاره في الخارج. بينما مدرجات الملعب تمتلئ عن آخرها بأنصار “الشرعية”. استمر ترقب الحكام وقلقهم مما يجري لكنهم لم يحركوا ساكنا. وعادة الحكام إخراج البطاقات لوقف العنف في الملعب، لكن عنف المباراة أثار حفيظتهم وظلوا يترقبون لمن ستؤول الغلبة. فالعلاقات بين الحكام واللاعبين علاقات معقدة جدا تقودها المصالح قبل المبادئ. والنطق بحكم مسبق لنصرة الفريق المغلوب قد يعكر صفو العلاقة والمصالح بين الحكم والفريق الغالب إذا هو أثبت تفوقه وخطف الديمقراطية. فالحكمة إذا أن يصمت الحكام ولا ينبسون ببنت شفة حتى يتبين الغالب من المغلوب.

بدأ الاحتفال مبكرا قبل نهاية المباراة في صفوف أنصار فريق “الانقلاب”، ودبت النشوة والفرح حين أيقنوا أن فريقهم قد أحكم السيطرة على كل لاعبي الخصم. وانطلقت التغريدات مهللة بالعهد الجديد وطبعت صحف بعناوين النصر الأكيد. وبما أن الوقت صار متأخرا فقد خلد أغلبهم للنوم فرحون. وأمام العنف الذي انتهجه فريق “الانقلاب” وسكوت الحكام، لم تعد هناك قوانين رياضية تطبق على الفريقين، فقد عمت الفوضى وصارت حياة اللاعبين في خطر. وأمام الحصار الشديد على “ميسي” برا وبحرا وجوا، لم يكن له أي أمل في التواصل مع أنصاره في المدرجات. فصرخة استنجاده لن تتعدى مسافة حاجبيه بفعل الحصار وضوضاء الفوضى التي تعم الملعب. فما كان له إلا أن تفطن لاستعمال تقنية “الفيس تايم” لمناداة مناصريه للنزول إلى الملعب لإنقاذ الشرعية. لم يكمل “ميسي” نداءه حتى نزل الأنصار وملأوا الملعب ودحروا “الانقلاب” وجردوا جل لاعبيه من بدلاتهم الرياضية. بعدها اتضحت الرؤيا للحكام وتنفسوا الصعداء فرفعوا الرايات آذنين باحترام تاريخ فريق “الشرعية” الذي يبني هجوماته على ديموقراطية اللعبة وقواعدها.

سطعت شمس اليوم الموالي ولازال أنصار فريق “الشرعية” يحتفلون. فلن يغمض لهم جفن حتى ينام فريقهم المفضل. بينما استفاق أنصار “الانقلاب” في بقية بلدان العالم على خيبة أمل كبيرة كأنهم استفاقوا من حلم فردوسي. بدأت التحليلات في الوطن العربي كالتي تعقب أي مباراة كرة قدم في الاستوديوهات وفي الشبكات الاجتماعية وفي البيوت والمقاهي. من جهة أنصار “الشرعية”، كانت أغلب التحليلات تركز على “ميسي”. ولم لا؟ أليس هو المنقذ من الهزيمة؟ في الحقيقة كان نداء “ميسي” كعميد للفريق ان احموا “الشرعية” ولم ينادي أن احموني. فما كان إلا أن استجابت الجماهير بحمل علم الشرعية وليس صوره.

من جهة مناصري فريق “الانقلاب” المنهزم، ذهبت التحاليل والتعليقات إلى التشكيك في كون فريق الشرعية دبر كل هذا تواطؤا مع البعض أو الكل من أعضاء “الانقلاب”، حتى يظهر أنه يقوى حتى على أحلك الأوقات فتزداد شعبيته وتتقوى شوكته ويزداد طغيان “ميسي” في إفناء خصومه باصطياده لضربات الجزاء. ومنهم من ذهب إلى حد وصف فريقهم بالهاوي وكان مفروضا ألا يغامر في مقارعة الكبار.

لكن ما الذي جعل الجماهير العربية تنقسم بين الفريقين وتبالغ في التشجيع لحد السب والقذف والشتم في كل وسائل الاتصال؟ هل كرههم الإيديولوجي لميسي أم لسياسات ميسي؟ أم لمبالغاته في المراوغات لوحده دون تمرير الكرة لأصدقائه أو هفوة لخصومه حتى؟ ثم ما الذي جعل المهللين لميسي في الخارج يكاد يفوقون أنصاره في الداخل؟ هل ظنهم أن ميسي منقذهم أيضا أو هو حب من طرف واحد ليس إلا؟ ولكلا الفريقين، إذا لم نتحد في قضايا مستوردة فكيف لنا أن نلتف حول قضايا الداخل؟ وكيف لنا أن نكون تجارب نلهم بها غيرنا أيضا؟

بين هذا وذاك فإن أكبر خطأ هو أن نصطف دائما وراء الانتماءات والإيديولوجيات. بل الأسوأ من ذلك أن نصطف وراء الأشخاص بدل المبادئ والقيم زاعمين أن “ميسي” سينقذ الأمة. لست من المهللين لذلك ولكني أحترم تجربة نجحت اقتصاديا وسياسيا في وقت وجيز أنقذت الأمة التركية من مستوى نمو مضطرب وتضخم لم يكن له مثيل إلا في الدول الفاشلة. هذا الإنجاز الكبير لفريق “الشرعية” هو الذي جعل أنصاره يواجهون الدبابات عاريي الصدور ووحد كل أطياف الفريق. لذا أقول للذين يهللون لفريق “ميسي” عليكم ببناء فريق من أمثال “ميسي” من بني جلدتكم وفي كل الميادين، على الأقل تعيشون تجربة “ميسيكم” المتألقة في الداخل واقعيا بدل العيش في دوامة الأحلام المستوردة. فالدنيا مصالح وإن سطرت عناوينها البراقة بمبادئ الدفاع عن الأمة؟ وإن كانت هناك أمة فهي في داخل الجغرافية التي تحد الوطن. وقد شوهد “ميسي” فجأة يصلح ما أفسدته أمور خارجية حتى لا تتضرر أمة الداخل في ظرف أسبوع ضاربا كل المبادئ عرض الحائط، حين أحس بأن الرساميل الأجنبية تغادر، والسياحة تحتضر. فأمة الداخل أولا سواء حبا لها أو خوفا من محاسبتها إن ساءت الأحوال. أما أمة الخارج فتخضع لمساومات تجارية وجيوسياسية تراعي مصالح أمة الداخل. فالقضية الفلسطينية كمثال يناصرها أيضا إخواننا في أمريكا اللاتينية وإن لم يكونوا على دين محمد. إن قوة فريق “ميسي” لن ينفع إلا مناصريه في الداخل وقد تشكل خطرا على الجوار الخارجي. وما الأمس ببعيد، فقد كان العالم العربي والإسلامي جله تحت الاستعمار العثماني أيام الخلافة. ولا ندري ما تحمله الأيام القادمة من تنامي العداء الخارجي. فما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلا بحنين شيبها ضدا في شبابها إلى أمجاد بريطانيا الامبريالية القوية. ويكفيك أن تستقل الخطوط التركية لتشم رائحة من كبرياء شعب في تعامل المضيفين والمضيفات مع القادمين من العرب وخصوصا من دول ذات الدخل المحدود. فالدين المعاملة أولا وقبل كل شيء.

أما الذين يهللون لفريق “الانقلاب”، فهم كالذي أتاه عفريت فقال له قل لي ما أمنيتك أحققها لك وأعطي جارك ضعفا منها، فما كان إلا أن طلب أن تفقأ له عين. أقول لهم، الزمان كفيل أن يجيبكم.

وللكل، أقول الموالاة للوطن أولا وأخيرا.

ملاحظة: أرقام التضخم مأخوذة من موقعي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

*باحث اقتصادي مغربي – المعهد العربي للتخطيط- الكويت.

‫تعليقات الزوار

3
  • المبادىء لاتتجزء
    الخميس 21 يوليوز 2016 - 19:22

    المبادىء لا تتجزء و نرفض الانقلابات العسكرية سواء كانت على اردوغان او حتى تشافيز ماداما انتخبا من طرف شعبيهما اللذين تستمد منهما الشرعية.

    الاتراك اصبحوا مدرسة في الديمقراطية فيما الكثير من النخب اليسارية العربية المزيفة تنحاز للدبابة نكاية في خصومهم السياسيين فادا فشل الانقلاب تباكوا على حقوق الانسان و ادا نجح يؤيدونه و يصمتون على جرائمه و الحالة المصرية مازالت ماثلة امامنا فالسيسي الدي دعموه عندما انتهى من الاسلاميين زج بالاف من مخلتف التيارات الاخرى في السجون و قتل منهم المئات و هذه الدروس تعلمها الاتراك مبكرا بعد 4 انقلابات و لهذا انحازت النخب التركية في احلك الاوقات للشرعية و نددت بالانقلاب.

    الغرب الدي يتبنون رؤيته صمت على جرائم السيسي و افرش له السجاد الاحمر رغم ان عدد ضحاياه من الشهداء ناهز 10000 ناهيك عن 80000 معتقل ولم يسلم من بطشه حتى النشطاء الاجانب كحالة الطالب الايطالي جوليو ريجيني و المدرس الفرنسي اريك لانك حيث قتلا داخل اقسام شرطة السيسي.

    هذه النخب المزيفة لاتخفي تاييدها لاجرام الاسد و ميليشيات ايران.

    محاولة الانقلاب في تركيا خطط لها غربيا و بادوات تنفيذ داخلية.

  • حسن يوسف
    الخميس 21 يوليوز 2016 - 19:54

    هل هناك مدعاة إلى كل هذا اللغو لتقول لنا أنك من عبدة أردوغان. شيء من احترام قرائكم. وأي شرعية ولا ميسي في استغلال الانقلاب الحقيقي أو المدبر لتصفية كل صوت مخالف وإغلاق صبيب الديمقراطية والحريات الذي كان أصلا ضعيفا؟

  • متسائل
    الخميس 21 يوليوز 2016 - 21:15

    هل تعلم أن من حق ميسي أن يجرجرك أمام المحاكم؟
    كان عليك ، إدا كان ضروريا أن تقحم لاعبا في لعبتك ، أن تختار مثلا الكابتن ماجد. أما ميسي أو رولاندو فهم مختصين في قلب الشباك و ليس في انقلابات عسكرية.

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 4

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة