الثقافة من الرهان إلى الارتهان

الثقافة من الرهان إلى الارتهان
الثلاثاء 30 غشت 2016 - 12:18

مر المغرب على مر تاريخه العريق المديد بفترات عصيبة، ولعل أحلك مرحلة مر بها في تاريخه المعاصر على الإطلاق هي تلك المرحلة التي ينعتها البعض بسنوات الجمر، والبعض الآخر بسنوات الرصاص، وما إلى ذلك من التوصيفات الدالة على منتهى العنف وذروة القهر؛ لما شهدته من تجليات الاستبداد السياسي، ومظاهر التنكيل بكل من سولت له نفسه مناوءة النظام السائد؛ بيد أن هذه الفترة يعتبرها البعض فترة حراك ثقافي لافت، ولذلك يجوز لنا أن نصفها، من زاوية معينة، بمرحلة الرهان الثقافي.

لقد وعى جزء هام من النخبة المثقفة آنئذ الدور المؤثر والفعال الذي يمكن أن يضطلع به الفعل الثقافي في التغيير؛ وتنامى لديها هذا الوعي وترسخ حتى صارت تطمئن كل الاطمئنان إلى أن الثقافة هي رهانها المكسب الرابح، ففتحت الواجهة الثقافية على مصراعيها للفعل والصراع.

ومن المؤكد أن الذين عايشوا هذه المرحلة يتذكرون، ربما بكثير من الشوق والحنين والحسرة أيضا، كيف كانت أنشطة بعض الجمعيات الثقافية الوازنة تحظى بإقبال جماهيري منقطع النظير، إقبال كانت تعتبره السلطة مريبا يحرك المخاوف، ويقتضي الرصد والتتبع، ويبعث على اليقظة والحذر، وكيف فطنت بعض الأحزاب، ومنها المعارضة بخاصة إلى قدرة التنشيط الثقافي الفائقة على الاستقطاب، فأولت لهذه الأنشطة عناية لا تقل عن عنايتها بالجانب السياسي المحض، وكيف كانت أقلام ذائعة الصيت تنبري بلا وجل للقضايا العميقة، وتتصدى للأسئلة الحارقة التي تثير سجالات محتدمة، ونقاشات لا تنتهي، وكيف كانت القاعات أثناء عروض مسرح الهواة تعج جنباتها بالمشاهدين المتفاعلين مع ما تطرحه الفرجات المسرحية المقدمة من موضوعات فوارة طافحة بالإديولوجيا ترميزا حينا، وتقريرا مباشرا إلى درجة التحريض حينا آخر، وكيف كانت أصوات في الأمسيات الشعرية والغنائية تلهب حماس الحاضرين الذين يطالبون بالمزيد، وكيف… وكيف…

وإزاء تغلغل هذا الحراك الثقافي نبهت السلطة إلى لعبة السياسي المتقنع بقناع المعرفة، والمتسربل بزي الثقافة، وعمدت إلى مواجهته بمختلف الأشكال: بالتشويش، والتضييق، والحجب، والمنع، والمصادرة، والقمع تارة، وبالاحتواء والتدجين تارة أخرى، ثم عمدت بعد ذلك إلى مقارعته بسلاحه الثقافي؛ حيث حفزت على تأسيس جمعيات ثقافية تابعة أغدقت عليها بسخاء لتكون لها ألسنة وأبواقا، وشجعت كل نشاط ثقافي ينزع إلى المهادنة، ويعمل على تكريس الواقع القائم.

إن ملامح هذا المشهد الثقافي تغيرت طبعا، وكان هذا التغيير نتيجة للتحولات السياسية التي طرأت بفعل النقلة الديمقراطية، وما أعقبها من إجراءات لطي صفحة الماضي، وتحقيق الإنصاف والمصالحة، ومحاولات ليمضي قطار الديمقراطية قدما في سكته؛ إذ أن المتتبع لواقعنا الثقافي اليوم يعرف أن التنظيمات الثقافية من جمعيات وأندية ومراكز ومقاه أدبية تناسلت وتكاثرت كالفطر، فصارت تعد بالمئات إن لم نقل بالآلاف، والتظاهرات الثقافية في مختلف مجالات الإنتاج الثقافي تغطي ربوع التراب الوطني طولا وعرضا: ملتقيات ومهرجانات وندوات وورشات ومسابقات وغيرها من أشكال التنشيط الثقافي التي ترفع لها شعارات رنانة، ونسبة الإصدارات تزايدت، ناهيك عن المنشورات الإلكترونية، لكن المفارقة هي أن نشهد في ظل هذا الزخم من الممارسة الثقافية عزوفا رهيبا عن القراءة، وإعراضا عن تتبع الفعاليات الثقافية الهادفة والجادة، وحضورا باهتا في وسائل الإعلام السمعي البصري، ولامبالاة من قبل الأحزاب السياسية بالشأن الثقافي، وهذا ما حمل اتحاد كتاب المغرب على توجيه ملتمسه لها بإيلائها ما تستحقه من الاهتمام في برامجها الانتخابية، فهل هي فاعلة؟

يبدو أن الرهان الثقافي بالصورة التي تقدمت لم يعد خيارا استراتيجيا للتغيير لدى الطبقة المثقفة، هذه الطبقة التي يتهمها البعض بالاستقالة؛ بل أكثر من ذلك بالخيانة؛ لأنها تخلت، في نظرهم، عن دورها الطليعي، وآثرت الارتداد إلى الصفوف الخلفية مكتفية بالتفرج غير مكترثة لما يقع ويجري، أو اختارت الانخراط في ممارسات ثقافية مرتهنة، ونعني بها تلك الممارسات المقيدة بمجموعة من المظاهر السلبية كغلبة الأنانية، وطغيان النزعة الفردية، واللهاث وراء تحصيل الامتيازات، وجني المغانم ، والمقايضة على الريع، وتبرير الضحالة والرداءة والسطحية، وفسح المجال لأشباه المثقفين وأنصاف المبدعين، وما إلى ذلك من المظاهر المشينة التي ابتلي بها المشهد الثقافي، كل ذلك على حساب دورها في التنوير والتغيير.

وهكذا يمكن القول بأن الفعل الثقافي انتقل من الرهان إلى الارتهان؛ وعليه فإن السؤال الذي يبقى مطروحا هنا هو ما العمل لتخليص الفعل الثقافي مما علق به من الشوائب التي ألمحنا إلى بعضها حتى تتبوأ الثقافة الحقيقية لا الزائفة مكانتها اللائقة، ويقوم المثقف بالدور المنوط به؟

‫تعليقات الزوار

3
  • KITAB
    الثلاثاء 30 غشت 2016 - 13:30

    يبدو لي أن الأستاذ فقد البوصلة في مقاربة موضوعه والذي يلخصه في أن الفعل الثقافي عندنا في المغرب عرف ازدهارا منقطع النظير ومواكبا في آن لفترة زمن الرصاص أو الجمر…! أتساءل كقارئ هل كان بإمكان المثقف أن يحرك ساكنا في عهد البصري؟ اللهم إلا إذا كان يحسب من أقلام البلاط أو مثقف البلاط، لكن وما دون هذه العينة كانت حرية التعبير محظورة وكانت الجرائد لا تصدر للقراء إلا إذا مر عليها مقص الرقيب فكم من نسخ صودرت بعد أن تعقبها الرقيب بمقصه الشهير، فالفعل الثقافي كان ميتا، وكان بدله شعار "العام زين" هذا هو التاريخ أم أن الأستاذ يعني حقبة أخرى!!!

  • rachid
    الثلاثاء 30 غشت 2016 - 15:09

    الحقيقة قرأت الموضوع بتأمل و لم أفهم ماذا تقول و ماذا تريد أن تقول و لم أفهم الموضوع برمته.

  • بين المثقف و المتعلم
    الأربعاء 31 غشت 2016 - 02:37

    المثقف هم من يفكر بعقله ، يستعمل مناهج التحقيق العلمي للوقوف على مكامن الإختلالات في المجتمع ويستقصي اسبابها و يقترح الحلول المناسبة لها بناء على تجارب الأخرين أو قياسا على ما يماثلها في التاريخ.
    أما المتعلم فهو من تعلم القراءة و الكتابة ، يفكر بعقول السابقين ينقل عنهم اقوالهم ثم يؤولها حسب هواه .
    لقد كان عندنا متعلمون ثوريون تقويضيون ، نقلوا عن الماركسية وملأوا الدنيا كتابات و خطابات ، حتى ذهب الله بريح مذهبهم بسقوط جدار برلين.
    ثم عوضهم المتعلمون الناقلون لأقوال السلف ، مدعين أن الإسلام هو الحل ، وأن الخلاص في العودة إلى الخلافة الراشدة.
    وها هم عادوا بالمسلمين إلى عهد يزيد و الحسين ، فتسببوا في التطاحن الطائفي بين السنة والشيعة.
    ثم ظهرت عندنا طائفة أخرى من المتعلمين الظرفاء فاقت أحلامهم أحلام السابق ذكرهم ، يسعون للعودة بنا إلى ما قبل الفينيقيين ، إلى عهد شيشنق لمحو 2962 سنة من تاريخنا ، إنصافا للأمازيغ الذين ضاعت حقوقهم بإضاعة لغتهم و حروفها، ناسين أن المجتمع هو الذي يصنع لغته و ليست المعاهد أو الدساتير.
    مناهج التعليم التي تعتمد على الحفظ وحشو الذاكرة، لا تنتج المثقفين.

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 3

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب