بؤس التاريخ: المدرسة المغربية من الانفتاح إلى التراجع

بؤس التاريخ: المدرسة المغربية من الانفتاح إلى التراجع
الإثنين 26 شتنبر 2016 - 11:12

لا نهدف من خلال هذه المقالة تقديم تشخيص علمي ومدقق لمظاهر أزمة المدرسة وتفسيرها وطرح رهاناتها،كما لن نقدم توصيفا سوسيولوجيا لإشكال انفتاح المدرسة وتراجعها،ولكن غايتنا في ذلك الإسهام في مساءلة فكرية وبيداغوجية لأشكال وممارسات، تفرزها المدرسة كما يتلقفها المجتمع ويتبناها،بل يسهم فيها دون أن تشعر المؤسسة نفسها في محركاتها وفي عواقبها.

لا أحد ينكر دور المدرسة في نشأة الحركة الوطنية المغربية،في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي،ودورها في مواجهة الاستعمار،انطلاقا من برامجها وأنشطتها،ودورها في التعبئة، وفي تخريج أغلب الوطنيين لمواجهة الاستعمار،والتعريف بخطورة الحماية الأجنبية،فيما يخص التقسيم بين المواطنين المغاربة وفي استغلال ثروات البلاد.وهذا ما تتضمنه أغلب الدراسات والبحوث الأجنبية والوطنية التي تناولت تاريخ الحماية بالمغرب.كما لا يخفى دور المدرسة في الإصلاح والتغيير خلال فترة الخمسينات، حيث المد التحرري، والكفاح من أجل الاستقلال؛ أي أن المدرسة المغربية، لم تكن فقط مكانا للتعليم والتدريس، ولكنها كانت أيضا في قلب المجتمع، وفي قلب انشغالاته الاجتماعية والسياسية والثقافية، وفي الرفع من الشعور الوطني وقيم الوطنية والمقاومة والمواطنة الحقيقية.

كما لا يخفى الدور الطلائعي الذي أخذته المدرسة على عاتقها عقب الاستقلال في تهيئ الأطر المغربية لبناء الدولة الوطنية الحديثة؛وبالتالي الدور الذي قامت به في تأهيل النخبة المغربية في التكوين والتنوير وبناء مجتمع المعرفة ودولة الحق والقانون.

وبدون شك أن ما تم القيام به لم يؤد كليا إلى التغيير المنشود الذي كانت تسعى إليه المدرسة المغربية،كما لم يصل إلى مختلف شرائح المجتمع، ولكنه ساهم بشكل أو بآخر في ما وصلت إليه البلاد من تنمية وتطور ملموسين،بالرغم من سيادة قيم المحافظة ومريديها في الحد من انتشار الخطاب الحداثي من جهة، وفي تقبل الأفكار الدينية الآتية من الشرق، بحكم الحفاظ على الهوية والخصوصية من جهة أخرى.

المدرسة المغربية بصفة عامة، بقدر ما هي موضوع نقاش وجدال وبحث، من حيث تشريح أزمتها، والبحث عن حلول لها وتسطير وصفات لإصلاحها من طرف بعض مكاتب الدراسات أو مؤسسات الدولة بخاصة،بقدر ما تكشف عن عيوبها في التراجع والانكفاء والجاذبية نحو الوراء؛وبقدر ما كانت قاطرة للتغيير والإصلاح،بقدر ما أصبحت إحدى مراتع المحافظة وممانعة كل فعل تنويري تستهدفه البرامج والمناهج في مختلف المواد والمستويات التعليمية.

قد يقال أن هناك قصورا في تعلمات ومكتسبات المتعلمين في التعليم الابتدائي،أو في نقص وعدم تملك ما يتلقاه المتعلمون في الإعدادي والثانوي التأهيلي،وهذا ما يؤثر على مسارهم في التعليم الجامعي،هذا كله صحيح،لكن الأمر أعقد من ذلك.

والمتأمل في الجو العام للمدرسة المغربية العمومية وفي مخرجاتها،أي في تعلمات أغلب التلاميذ وفي نتائجهم النهائية، أن المشكل اليوم ليس في برامج التربية الإسلامية أو الدينية فقط ، ولكن في النموذج الثقافي السائد محليا ودوليا ، أعني غلبة الطابع التديني في المدرسة وفي المجتمع وتراجع السؤال العلمي والفلسفي والثقافي بعامة. فالعنصر البشري بشكل عام داخل المدرسة،أصبح يغلب عليه التوجيه الديني والإيديولوجي للتربية والتعليم بالمدرسة ،و الاهتمام بالجانب الدعوي أكثر-بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- على حساب الجوانب الديداكتيكية والبيداغوجية التي لا تحظى في أغلب المواد و الحصص إلا بالنصيب القليل،والتي من المفروض أن تسهم في تنمية الكفايات والقدرات التي تنص عليها التوجيهات الرسمية.هناك ” تذوات” بين الدرس والأفق الديني على مستوى الممارسة والخطاب على مستوى الممارسة، وفي العلاقات البيداغوجية بين الأطراف الفاعلة في الحقل البيداغوجي.

هل الاهتمام الزائد اليوم بالجانب التديني،على مستوى الخطاب واللباس واحتلال الفضاء،يدخل في إطار صراع إيديولوجي حول مشاريع مجتمعية وسياسية تتصارع داخل المجتمع،أم هو دليل خوف على رأسمال رمزي وتاريخي للشخصية المغربية،التي لم تتأثر كينونتها بمختلف التيارات الخارجية على مر التاريخ.

الخوف من المستقبل،في إطار التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي،ارتباطا بسيادة ثقافة محافظة،تجد مسوغها في انتشار الأفكار المتطرفة والعنصرية في المجال العالمي.وهو ما يجد صداه بطريقة أو بأخرى،بالمدرسة بشكل عام محليا ودوليا.

بدون شك فإن مؤشر التراجع عموما بالمؤسسة التعليمية هو تقلص الجانب المهني،الذي يرتكز أساسا خلال الممارسة الصفية على تجويد أسلوب المهننة، وفي تطوير قدرات المتعلم المغربي، في التربية على الحرية والمواطنة وقيم العدالة والمساواة والتسامح؛ أي في تفعيل الأهداف العامة والنوعية للمواد التعليمية، والعمل على تنمية مخرجات العملية التعليمية، كما هو مسطر لها في المرجعيات الرسمية، وبخاصة في التوجيهات التربوية للمواد. لكن ما يقع غالبا في الفصول الدراسية، هو التعامل مع المقررات والكتب المدرسية في غياب شرطها الموضوعي الذي أنتجها كمواد مؤسسية رسمية ومراقبة، والانزلاق نحو مناهج ذاتية، تأخذ من المقررات عناوينها فقط، وهذا ما يؤثر على العملية ككل. وبالتالي قد يسهم في تكوين وتعليم غير عقلاني يتناقض كليا مع مختلف مبادئ ومنطلقات المناهج الرسمية ويكرس نوعا من التمييز الإيديولوجي داخل المؤسسة نفسها وداخل الفصل نفسه.

بالتأكيد هناك إشكالات الاكتظاظ،والعجز المعرفي لدى التلاميذ الذي يحملونه كتراكم من الأقسام السابقة،بفعل طبيعة الممارسة التعلمية الحالية. وهناك إشكالات البرامج الدينية التي قد تكرس مفاهيم وقيم الكراهية والتعصب واللاتسامح وغيرها؛لكن هناك ما أخطر هو إشكال التأويل،تأويل تلك الممارسة نفسها،في فهم أبعادها وخلفياتها،بحكم السياق التاريخي الحالي الذي يطبع المجتمعات بسيادة براديغم ديني،دون مساءلته معرفيا،و هو من صميم منتوج المدرسة نفسها؛ كما ينعكس ويعاد إنتاجه بالمناخ التربوي للمدرسة المغربية عموما.

وإشكال تراجع المدرسة في الإسهام في الإصلاح المجتمعي، لا يمس فقط المدرسة العمومية،بل نجد امتداداته في المدرسة الخصوصية،بالرغم من الاستثناءات التي قد يميزها جانب الحكامة التربوية في شقها الإداري بشكل عام ،نظرا لطبيعتها كمشاريع فردية لها رهاناتها الخاصة.

وبالرغم من المجهود المبذول بشكل عام لتحسين وتجويد المنظومة التربوية،ولمواكبة مختلف التحولات الاجتماعية،فإن المدرسة لا تساير المشروع المجتمعي المأمول سياسيا،في الإسهام في تنمية الموارد البشرية وفي الارتقاء إلى مصاف الدول الصاعدة إذ أن تغيير الاستراتيجيات الإصلاحية،قد يأتي على مختلف المجهودات المبذولة،وقد يسهم في التخريب البيداغوجي، الناتج أحيانا عن قرارات متسرعة وغير مهنية، مما تكون له آثاره المسار والمآل؛تضيع الخبرات في الحسابات الضيقة،ونكرر الأخطاء، ولا نقدر وزن الزمن في كفة الانتقال نحو الأحسن أي الانتقال إلى المدرسة المواطنة التي عرفتها الشعوب المتقدمة كما يخبرنا التاريخ.

‫تعليقات الزوار

5
  • خبراثور
    الإثنين 26 شتنبر 2016 - 12:48

    تراجعت المدرسة يا استاد وجاءت حكومة الا نقاد فاجتمع المتعوس مع خيب الرجا. فكانت النهاية . عندما تجد ايات من القران في مقررات النشاط العلمي والفيرياء فاعلم اننا وصلنا تحت القاع تحياتي.

  • khalid
    الإثنين 26 شتنبر 2016 - 16:23

    أخونجة التعليم هذا هو المشكل. منذ أن أعطي لمادة التربية الإسلامية أكثر مما تستحق وقعت الكارثة، لأن حسب أساتذة هذه المادة، الإنسان ليس مخير، كل شيء مكتوب عليه ، إذن لما العمل والجد مادام هناك تحكم .

  • معلقh
    الإثنين 26 شتنبر 2016 - 20:16

    من بين المشاكل التي تعاني منها المدرسة المغربية هنالك مسالة العدالة بين المتعلمين.فمن المفترض من اجل تحقيق تكافؤ الفرص بينهم توحيد شروط وظروف التعلم.فبينما تجد بعض المؤسسات فصولها مكتظة بالتلاميذ تجظ اخرى لا تعاني من هذه المشاكل.والاكتظاظ كما هو معلوم يقلل من حظوظ استفادة التلميذ من فرص التعلم.فالتعليم الناجح هو الذي يمنح للتلميذ فرص المشاركة في بناء الدرس ويسمح للاستاذ بتتبع عمل التلاميذ وضبطهم و التعرف على مستوياتهم بهدف مساعتهم على تجاوز نقائصهم .فلو كانت اقسامنا تحتوي على اعظاد من التلاميذ تتناسب مع حاجات التعلم لما كان ابنؤنا بحاجة الى الدعم من خارج المؤسسات اذا وجدت مراقبة وتتبع وحرص كبير.هذه المشاكل الراهنة ستنعكس على مستقبل الاجيال والوطن.لان الحلقات الحالية ستكون لها امتدادات في المستقبل.

  • طال لعلو الدم
    الإثنين 26 شتنبر 2016 - 20:27

    إنها عقلية ومنظور تقليدي متخلف تسلط على التربية والتعليم ولعقود ماضية ولايزال يكرس في الحشو والتلقين وينهج بمنهج اللغو والخطاب ويعتبر العقل وعاءا يستوعب العلوم بمجرد الكلام. إنها الصورة النمطية والمنهج الوحيد المرتكز على كم المعارف ومضامينها المجردة من سياقها وواقعها متجاهلا جوانب الإثارة والتشويق والرغبة في التعلم. بالإضافة إلى تمييع العملية التعليمية التعلمية بين التقليد والتجديد في غياب كلي لظروف عملية مناسبة وملائمة لحجمها مما يؤكد الاستهتار والامبالاة التي تصاحب أجواء إصلاح مرتقب.

  • جلول
    الثلاثاء 27 شتنبر 2016 - 22:31

    من أسباب فشل المنظومة أيضا تخاذل المفتشين في القيام بمهامهم، وانصرافهم للبارات وكتابة الاستيهامات واستهلاك الخطابات والتفرغ للتكوينات، والبيع والشراء في النقط، وفي تكوينات المعاهد الخاصة..كاينة ولا لا أسي جمال

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 3

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب