الأناركية أو مجتمع انساني بدون سلطة قهرية!

الأناركية أو مجتمع انساني بدون سلطة قهرية!
الثلاثاء 27 شتنبر 2016 - 23:33

بالرغم من تزايد معاناة المجتمع الإنساني من تفاقم السلطة القهرية للدولة والكيانات السلطوية التي تضغط على حرية الأفراد والمجتمعات، يكادُ النقاش الفكري الإنساني المعاصر يخلو من دراسة تصورات تنظيمية جديدة للمجتمع خارج مفهوم السلطة والدولة وكأن التاريخ السياسي للإنسانية توقف عند مفهوم الدولة، بكل ما يحمل من رمزية سلطوية وعنفية، كإطار تنظيمي ناجح وأبدي للبشرية؛ بل ما يُستغرب له في أيامنا هذه هو محاولة تهميش ومنع تداول ومناقشة كل النظريات السياسية والفكرية التي تقوم أساسا على نقد السلطة والدولة باعتبارهما مفاهيم لا أخلاقية، كالفلسفة ”الأناركية” مثلا، التي جاءت كبديل إنساني حر لمجتمع خالٍ من السلطة.

الأناركية أو اللاسلطوية، في هذا الصدد، هي ليست بنظرية سياسية واجتماعية قائمة على نقد السلطة والدولة فقط؛ بل فلسفة كونية عميقة ومتعددة الروافد، أغنتها أفكار مجموعة من المفكرين والفلاسفة من ”جوانغ زي” و”زينون” مؤسس الرواقية قبل الميلاد إلى ”نعوم تشومسكي” حاليا مرورا بـ”مخائيل باكونين”، ”ليو تولستوي”، ”وليام غودوين”، ”جوزيف برودون”، ”بيتر كروبوتكين” وحتى ”غاندي”. لكن الأناركية كحركة سياسية واجتماعية لم تظهر إلا في القرن الـ19 نتيجة الحراك الاشتراكي والعمالي الذي عرفته الساحة الأوربية حينها.

الفلسفة الأناركية، ببساطة، هي أساس فكري يُؤمن بأن الإنسان حر وله وحده الحق في تحديد خياراته وتقرير مصيره دون الخضوع لأي سلطة أو هيمنة تفرض عليه خيارات قهرية أو تتدخل في توجيه نظام حياته. وبالتالي، فإن الأناركية تطمح إلى مجتمع إنساني خالٍ من السلطة أو هيمنة فرد أو جماعة.. وفي هذا الإطار، فهي ترفض كل الأشكال التنظيمية للمجتمع القائمة على السلطة كالدولة، المؤسسات الحكومية، الهياكل الهرمية، الأحزاب، القيادات، الزعماء… وتنظر إليها كهياكل تضع السلطة في يد أقلية تفرض خياراتها ونظامها على أغلبية الشعب.

الأناركية تنظر إلى الدولة بالأساس ككيان لا أخلاقي، لا شرعي، قائم على العنف والحروب ويفرض على الإنسان شكل من أشكال العبودية المتطورة لا يحترم الحرية الإنسانية الحقيقية. كما أنها (الدولة)، بالرغم ظهور مفهوم الديمقراطية وحكم الشعب لنفسه، ستبقى دائما كيان يخدم الأقلية (الجماعة واللوبيات الحاكمة) ويستبد بالأغلبية ويمارس عليها العنف المادي والرمزي. تماشياً مع الأساس نفسه الفكري، فإن الأناركية هي حركة ”اشتراكية تحررية” تعارض النظام الرأسمالي الذي تحتكر فيه الأقلية الموارد والثروات وتحول غالبية الشعب إلى أجراء كادحين ومعدمين تستلب منهم إنسانيتهم ويتحولون إلى عبيد لدى الطاحونة الرأسمالية والمؤسسات البنكية.

إجمالاً، فإن الفلسفة الأناركية هي ضد استبداد أقلية بأغلبية من خلال احتكار السلطة وفرض الهيمنة، والحل عند الأناركيين هو بناء مجتمع بحكم ذاتي أفقي دون سلطة مركزية عن طريق الكيانات الأفقية التعاونية والتطوعية وتحطيم كل الكيانات الهرمية السلطوية. وهنا، يتساءل الباحثون حول مدى إمكانية انتظام مجتمع إنساني بدون الدولة والسلطة؟.

لكن السؤال الآخر الذي يقابل هذا السؤال هو: هل الإنسان فعلا غير قادر على إنتاج نظام مُجتمعي جديد حُر وإنساني خال من أي سلطة لا شرعية، تماماً كما أنتج مفهوم الدولة والكيانات الهرمية في الماضي؟ أم أن النُّظم التعليمية والتربوية بالإضافة إلى بروباغندا الدولة والنظام الرأسمالي صورت للفرد أن لا بديل للمجتمع الإنساني عن الدولة والكيانات السلطوية وأن دونهما الفوضى والخراب؟!

العديد من الدراسات الأنثروبولوجية أكدت أن البشرية كانت تعيش في حالة اللادولة لآلاف السنين، قبل أن يتحول المجتمع إلى العبودية والإقطاعية وبعدها إلى الدولة الرأسمالية والكيانات المهيمنة. كما عرف العالم حالات ناجحة للمجتمع الأناركي، كالنمودج الأناركي في إسبانيا قبل إسقاطه من لدن الفاشية الفرنكوية، والنموذج الروسي قبل إسقاطه من لدن البلاشفة، وكذا حالات أناركية أخرى بأوروبا الشرقية وجنوب إفريقيا.

بحكم كونها فلسفة قائمة على نقد الدولة والكيانات الحاكمة بالسلطة، تعرضت الحركة الأناركية للتشويه والقمع من لدن مجموعة من التيارات التي وصفتها بالفوضوية والعنفية؛ غير أن الصراع الكبير كان مع الماركسية في بداياتها، منذ أيام الصراع الذي نشب بين ”برودون” و”باكونين” من جهة وبين ”ماركس” من جهة أخرى في القرن أواسط القرن الـ19. وبالرغم من أن الأناركية تتقاطع مع الماركسية من حيث نقد الرأسمالية وضرورة التنظيم الاشتراكي للمجتمع؛ فإنها ترفض فكرة ديكتاتورية البروليتارية والدولة الثورية، لأن ذلك سيعيد إنتاج الدولة السلطوية والكيانات المهيمنة من جديد.

في المغرب – كما في باقي الدول العربية باستثناء مصر- ليس هناك أي تنظيم أو حركة أناركية لمجموعة من الأسباب؛ أهمها: أن الفلسفة الأناركية فلسفة عميقة تحتاج مجهودا فكريا في البحث والدراسة من لدن الشباب، تهميش وتغييب الإنتاجات الفكرية الأناركية، تشويه الفكر الأناركي وكذا غياب أي جهة تأطيرية أو داعمة على غرار ما تلقته الحركات الماركسية من دعم سوفيتي ومن بقية الدول الاشتراكية.

*كاتب وروائي من المغرب

[email protected]

‫تعليقات الزوار

4
  • الأستاذ عادل
    الأربعاء 28 شتنبر 2016 - 16:31

    لكم مني التحية أستاذ.بعد ذلك أريد سؤالك.هل ينتمي هؤلاء لﻻناركية:فيراباند.سيجموند فرويد.الكسيس دوطكفيل.وشكرا.

  • فيصل
    الأربعاء 28 شتنبر 2016 - 18:53

    أعرف أن السؤال موجه للسيد الكاتب, لذا أعتذر عن التدخل بالرد و القول أن أليكسيس دو طوكفيل كان ليبرالي كلاسيكي و هي فلسفة أبعد ما تكون عن الأناركية الاشتراكية Anarcho-Socialism حيث أن تعد الراسمالية عمود من أعمدة الليبرالية الكلاسيكية.
    أما تعقيبي على المقال فهو يتجلى في ملاحظتين.
    الملاحظة الأولى هي تجاهل الكاتب للنسخة الرأسمالية للأناركية, حيث أن الفلسفة تقوم على أن المجتمع, أساسه الفرد, لا يحتاج لحكومة أو سلطة, و أن كل الخدمات و السلع اللتي يحتاجها الفرد يتم توفيرها عبر اقتصاد سوق حر غير خاضع لأية سلطة. الأناركية الرأسمالية كان لها و لا زال منظرين كبار في الغرب, خصوصا في الولايات المتحدة كموريي روثبارد, لودفيش فون ميزز, فريدريك حايك, فريديرك باستيا, هانس هيرمان هوب, هينري هازليت, ليساندر سبونر, و اخرون كثر لا يحضرون ذاكرتي حاليا.

  • فيصل
    الأربعاء 28 شتنبر 2016 - 20:44

    الملاحظة الثانية هي استغرابي لتنظير الكاتب للأناركية الأشتراكية أو الأناركية الشيوعية, و في حين أتفهم أن فكرة الكاتب تتجه بالأساس الى لفت الانتباه الى أن هناك فلسفة تقوم بالأساس على الغاء سلطة الدولة, أي أن "الدولة" ليست هي الخيار الوحيد للمجتمعات لتتقدم , و قد يبدو هذا كلاما لا عقلاني في زمن أصبحت فيه الدولة بمثابة اله جديد أو ديانة جديدة Statism. و في حين أن حقيقة تطور الغرب قريبة جدا من ذلك (خصوصا المبادىء المؤسسة للولايات المتحدة) الا أن النموذج الناجح لم يكن أبدا اشتراكيا, و انما رأسماليا لسبب بسيط جدا و هو أن اساس الحضارة قائم على مبدأ الملكية الفردية اللتي تمنح للفرد الدافع للابداع, الابتكار, دافع لاتقان و تطوير الخدمة او السلعة/المنافسة على السوق, الخ. الا أن الأناركية اشتراكية كانت رأسمالية فهي محتومة الموت و الاندثار, فطبيعة النموذج الاشتراكي, حيث تلغى الملكية الخاصة (اصل الشر لدى كودوين) لتعود للمجتمع ككل, غياب السلطة سيؤدي غالبا الى ظهور فرد أو مجموعة تسطو على وسائل الانتاج و تضع المجتمع ككل تحت سيطرتها.

  • Younes
    الجمعة 29 شتنبر 2017 - 10:51

    باختصار
    لا هذا ولا ذاك … ارى ان العولمه ( سلطة رأس المال ) والدين يواجهان مشكلة وجود حيث كلاهما يحملان بذور التغيير والفناء اخيراً ، الشكل القادم لا بد ان بكون من خلال العقل التجريبي والوعي البشري والفكر الحر وحقوق الانسان التي لا يمكن للمجتمع ان يتخلى عنها وهو الذي سيطرح البديل عندما تنضج الظروف …! يقول غوته :
    جافة هي النظريه وشجرة الحياه باخضرارٍ دائم ….
    هذا هو الميكانيزم الذي سيكون قاعده للتغير والصيرورة …هذه فلسفة التاريخ

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 3

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب