هَلْ نَنْتَحِرُ جَمِيعَا ؟... لِتَرْتَاحُوا !!!

هَلْ نَنْتَحِرُ جَمِيعَا ؟... لِتَرْتَاحُوا !!!
الخميس 29 شتنبر 2016 - 23:22

ها هو طفل يضع حدّا لحياته بنواحي مدينة “آزرو” لأن أمه لم تستطع توفير لوازمه الدراسية ولأنه أحس ب “الحكرة” في وطن لا يضمن أدنى شروط العيش الكريم لفئة عريضة من أبنائه…هذا ليس شابا عاطلا أو كهلا خمسينيا يئس من الحياة !!! هذا مجرد طفل !! أتعلمون ما معنى أن ينتحر طفل ؟؟؟ الأطفال لا تؤرقهم مشاكل الكبار…أحلامهم صغيرة كأجسامهم. أليس هذا الطفل الفقير يحلم بمحفظة بسيطة تضم أدواته الدراسية كباقي التلاميذ ليتجنب الإحراج أمام أستاذه و نظرات زملائه في القسم؟ بلى، كان هذا المطلب البسيط كافيا ليدفعه للانتحار، وليته ما فعل…

مفارقة بحجم ظلم هذا البلد، ففي الوقت الذي ينتحر فيه طفل فقير بسبب “اللوازم الدراسية” يخرج علينا مرشحون انتخابيون يجوبون الأزقة تسولا للأصوات وقد تركوا أبناءهم في أحسن المدارس الخاصة، ومنهم من يدرس أبناءه خارج البلد، هذا إن لم يكونوا محسوبين على بلد آخر من الأساس، فقد انتبهوا إلى مسألة “التجنيس” وصاروا يسارعون للحصول على جنسيات “غربية”، فإن لم تكن لهم فعلى الأقل لأبنائهم، صاروا يسفّرون زوجاتهم الحوامل ليلدن في بلدان أوروبا وأمريكا ضمانا لتجنيس أبنائهم. وكيف لا يفعلون وهم لا يثقون في مؤسسات هذا البلد كلّها، فهم أدرى بهشاشتها وفسادها منا جميعا.

لقد انتحر الكثيرون على طول تاريخ الفساد بهذا البلد التعيس، لكن الوقع هذه المرة كان شديدا، إنه طفل، “بُرْعُم” صغير يفترض فيه ما ليس فينا من أمل وحب للحياة. طفل لا يعلم أن بهذا البلد معطلين حاملين لمختلف الشهادات؛ من شهادة الحياة إلى شهادة الدكتوراه، لا يعلم أن بهذا البلد مرضى فقراء يهانون على أبواب المستشفيات العمومية يتأوهون دون أن يبالي بهم أحد؛ فقد صار صوت أنينهم مألوفا لا يثير أحدا، تماما كصوت البواخر التي تستنزف ثرواتنا السمكية في عمق البحار وكصوت الشاحنات التي تنقل الرمال والجواهر من مقالعها، وكصوت القطارات التي تنقل المعادن النفيسة لا تكاد تتوقف أبدا…كل هذه الأصوات صارت متشابهة في بلد لا يعلو فيه صوت على صوت الفساد.

نعم، إنه الفساد الذي ينخر هذا الوطن من رأسه حتى أخمص قدميه، السرطان اللعين الذي ينهش اقتصاد البلد، لا مكان للفقراء البسطاء في هذا الوطن، هم مجرد نسمات، أرقام إحصائية فقط يتسولون بها المعونات والهبات والقروض، يلجؤون للفقراء فقط ليجمّلوا ديمقراطيتهم المزعومة كلّما حلّ موعد “مهزلة الانتخابات”، وأي ديمقراطية هذه التي يستأثر فيها عشر عدد السكان بالثروة، مقابل طبقة فقيرة واسعة تحت عتبة الفقر وفوقها، وحتى الطبقة الوسطى خططوا لتفقيرها منذ زمن، وخصوصا في الخمس سنين الأخيرة، في أفق تحويل بلدنا لنظام إقطاعي يملك فيه قليل من الأغنياء كل شيء، ولا يملك فيه ثلّة من الفقراء أي شيء، حتّى أنفسهم !!

وطن جلّ ما فيه يدفع للانتحار، ولحسن الحظ أن للدين دورا قويا في كبح جماح هذه الممارسة “الانقراضية”، فلو لم يكن الدين يتوعد المنتحر بعذاب أليم في الآخرة جزاء على عدم قبوله قدر الله في الدنيا؛ لربّما كنّا أمام ظاهرة اجتماعية خطيرة تهدد وجودنا. وهذا لا ينفي وجودها، إنما يؤكد دور الدين في كبحها فقط. المصيبة أن الله بريء من هذا القدر الظالم الذي نعيشه في هذا البلد، فالله بريء من الفساد الاقتصادي والسياسي، بريء من نهب خيرات هذا البلد وتفقير أبنائه، بريء من الاستبداد والظلم والقمع. الله بريء من كل هذا وغيره. وهو الملجأ الوحيد لمقهوري الوطن، أليس المغاربة يعبّرون دائما “عندنا الله” كلّما أحسوا بغربة في وطنهم !! بلى، فقد صدق من قال أن الأغنياء لم يتركوا للفقراء غير الله، وعلى منواله نقول أن “المستبدين لم يتركوا للمقهورين غير الله” يستنجدون به، فليس عيبا أن تكون غنيا من عرق الجبين، العيب أن تصبح مستبدا تجمع بين المال والسلطة وتستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا على حد قول “عمر بن الخطاب”.

إن هذا الطفل بعفويته التي قادته للموت، يعيش في داخل نسبة كبيرة من مقهوري هذا الوطن، وأكيد أنهم فكروا في الانتحار مرّات ومرّات من هول الضغط النفسي المزمن الذي يعيشونه، منهم من أقدم على فعله ومنهم من لازال ينتظر ساعته.

ماذا يفعل طالب درس بجد واجتهاد وكله أمل في تحصيل عمل يعين به أسرته، أسرته تعقد أملها عليه وهو يعقد أمله على دولة فاشلة، هو لم يخلف وعده مع أسرته لكن وطنه أخلف الوعد معه ورمى بأحلامه في القمامة. لقد صار فجأة معطلا، ليس عن العمل. بل عن الحياة كلها، فقد الأمل في كل شيء…ماذا ينتظر منه المستبدون بهذا الوطن، إنه ليس أحد أبنائهم أو أبناء أعيانهم، هو ابن وسط فقير وجوده خير منه العدم بالنسبة لهم. إنهم ينتظرون بروز الطفل بداخله بعفويته واندفاعه ليضع حداّ لحياته فيريح ويستريح !!

يدفعون أبناء الوطن دفعا للانتحار، فقد يصيحون يوما من أبواق منابرهم أن الانتحار شهادة في سبيل الله والوطن “للفقراء فقط” ما دام هؤلاء عالة على وطن في قبضة زمرة من الفاسدين يقتسمون خيراته في دائرة ضيقة لا تسع غيرهم. يفعلون كلّ شيء خارج هذا الوطن؛ يستثمرون ويدرسون ويعالجون…أما هنا، فينهبون فقط، لا ينقصنا إلا لافتات ضخمة عند مداخل البلد البرية والبحرية نكتب عليها في إطار “الشفافية” هذا وطن للنهب !!

والحال هذه، لا يسعنا إلا توجيه رسالتين، واحدة للسماء نطلب فيها أزكى الرحمات على كل من وضع حدّا لحياته جراء احساسه ب”الحكرة” في هذا الوطن، ومنهم روح هذا الطفل الذي أدمى قلوبنا، ورسالة أخرى لأحياء هذه الأرض الطاهرة:

نحن أصحاب هذا الوطن وليس هؤلاء الزمرة من اللصوص: دعونا ننبذ فكر الانتحار… دعونا نتشبث بالحياة على هذه الأرض… هذه أرضنا، نحن منها وهي منّا، دعونا نفضح اللصوص ونصرخ في وجوههم بحقوقنا كأصحاب أرض وليس كلاجئين فيها… سنعيش حياة واحدة في جميع الأحوال؛ انتحرنا أم استمرينا، فلنحياها إذا ضدّا عليهم…

ملحوظة: هذا واقعنا بكل أسف، وواقعة الطفل المنتحر نقطة انطلاق فقط، فحتى وإن كان قد انتحر لأسباب أخرى فهذا لا يمس مشروعية كتابة هذا المقال البثة، لأننا نتحدث عن واقع مغربي عام وليس عن حالات معزولة.

[email protected]

https://www.facebook.com/rachid.sociologie.7

‫تعليقات الزوار

7
  • مناضل
    الخميس 29 شتنبر 2016 - 23:55

    مقال رائع، ما أحوجنا لهذه المقالات التي تنأى عن لغة الخشب، أتابع مقالاتك دائما…مقالك عن فقراء الوطن كان وجيها كذلك. تحياتي الخالصة لك

  • عاجل
    الجمعة 30 شتنبر 2016 - 00:21

    ألم تصله شكارة سيدنا؟
    كنت اتمنى من النظام وذلك من خلال خطاب مباشر للشعب ان يفسر لنا الاسباب التي حالت دون توصل هذه العائلة "بشكارة سيدنا"!!؟
    مادام النظام يقف الى جانب المفسدين واللصوص (الهمة مقابل بنكيران اثناء الجلسة الحكومية ،النظام تيقلي الزيت لبنكيران ،الضد تع الدراري الصغار) فان المغرب لا محالة سيعرف ليس فقط ربيعا عربيا وإنما سيعرف شتاءا عربيا مغربيا وخريفا عربيا مغربيا وربيعا عربيا مغربيا وصيفا عربيا مغربيا….
    حذاري من الامراض النفسية التي يعاني منها العديد من حكام العرب والتي تسببت في دمار دول بكاملها (سوريا العراق ليبيا اليمن ووووووو)
    الشعب اختار بنكيران ،لم يختار الهمة!!!

  • مواطن فقير
    الجمعة 30 شتنبر 2016 - 01:33

    دولة لا تستطيع توفير محفطة وادوات مدرسية بسيطة لاطفالها الفقراء مما دفع بطفل بريء الى وضع حد لحياته . بينما تسارع الى ارسال عشرات الاطنان من الاغذية والادوية الى دولة افريقية . حلل وناقش !!!

  • غيث من مطر
    الجمعة 30 شتنبر 2016 - 08:52

    المرء في أوطانناذ
    معتقل في جلده
    منذ الصغر
    وتحت كل قطرة من دمهذ
    مختبئ كلب أثر
    بصماته لها صور
    أنفاسه لها صور
    أحلامه لها صور
    المرء في أوطاننا
    ليس سوى اضبارة
    غلافها جلد بشر
    أين المفر؟
    * * *
    أوطاننا قيامة
    لا تحتوي غير سقر
    والمرء فيها مذنب
    وذنبه لا يغتفر
    إذا أحس أو شعر
    يشنقه الوالي.. قضاء وقدر
    إذا نظر
    تدهسه سيارة القصر.. قضاء وقدر
    إذا شكا
    يوضع في شرابه سم
    .. قضاء وقدر
    لا درب.. كلا لا وزر
    ليس من الموت مفر
    يا ربنا
    لا تلم الميت في أوطاننا إذا انتحر
    فكل شيء عندنا مؤمّمٌ
    حتى القضاء والقدر!

  • hassan
    الجمعة 30 شتنبر 2016 - 14:22

    يا لرشد العقل و بياض القلب الله يرحم جدودك و لسماوك
    مقالك عوضني في خطبة الجمعة ولو قراته كل جمعة لكفاني
    اشكرك على هدا المقال يا س رشيد ياس لبيض

  • RABH
    الجمعة 30 شتنبر 2016 - 15:36

    (ياأيها الذين ءامنواكونوا أنصار الله كماقال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين ءامنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين)ناقوس الخطر يدق لكل غافل،ولانجاة سوى بالتقوى والعدل،في الغرب عموما يعدلون ولكن لايقيمون اعتبارا للإيمانيات فنجد أن أعلى دولة في أوربا من ناحية الدخل الفردي هي الأعلى انتحارا،وفي بلداننا صارت طامّة وغول الإنتحار المرعب يشق جدرانا ويدخل بيوتا عنوة ليخربها ويهدمها،وإن لم تنتبه السلطات حفاظا على ثروتها البشرية المهملة،لمسألة التربية والحصانة الإيمانية وتقويتها بالتعليم والدعاية الإعلامية ،والعدالة الإجتماعية بحيث توفر ضروريات العيش لكل مواطن (من صحة ومسكن ومأكل وملبس) خُلق ليعيش كريما مطمئنّا في وطنه،فاليعدّوا للحساب العسيرأمام الله جوابا،وفي الدنيا ليتّقوا دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجابا….

  • RABH
    الجمعة 30 شتنبر 2016 - 17:55

    رحمة الله عليه أحمد الذي مضى واستعجل الرجوع إلى ربه وهو في عمر الزهور،ولكن للتصحيح فإن الطفل لم يقرر لقاء الله لأجل اللوازم المدرسية،كما راج وشاع فوزارة التربية ووالديه نفوا نفيا قاطعا كون الطفل انتحربسبب عدم تحصله على اللوازم كونه تحصل ككل التلاميذ على المحفظة ولوازمها المعطاة لكل التلاميذ الصغار بهبة ملكية عممت على أرجاء الوطن،بل نبه والده بأنه أهدى ابنه حاسوبا وقالت أمه بأن كل خير من مأكل ومشرب وملبس كان متوفرا لدى الأسرة،وقال الأب أن ابنه مضى وسره معه،فاليرحمه الله.

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | اعتقال العثماني
السبت 16 مارس 2024 - 23:00

شهادات للتاريخ | اعتقال العثماني

صوت وصورة
نكتاشفو بلادنا | نكهات بني ملال
السبت 16 مارس 2024 - 22:00 2

نكتاشفو بلادنا | نكهات بني ملال

صوت وصورة
التسول يستفحل في رمضان
السبت 16 مارس 2024 - 21:25 19

التسول يستفحل في رمضان

صوت وصورة
أزبال وروائح كريهة في سلا
السبت 16 مارس 2024 - 20:13 5

أزبال وروائح كريهة في سلا

صوت وصورة
الفهم عن الله | اليقين والرزق
السبت 16 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | اليقين والرزق

صوت وصورة
مهن وكواليس | حنان والفلاحة
السبت 16 مارس 2024 - 17:30 2

مهن وكواليس | حنان والفلاحة