الانقلابات الناجحة على التعليم العمومي

الانقلابات الناجحة على التعليم العمومي
الجمعة 2 دجنبر 2016 - 13:24

وظلم ذوي القربى:

ذهلت وأنا أقرأ لأحد أعضاء المجلس الأعلى للتعليم- وهو بالمناسبة رئيس المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية الإسلامية، بتطوان – إفادات يحاول فيها تلطيف مسلسل التراجع عن مجانية التعليمين الثانوي والجامعي متهما وسائل الإعلام بالتضخيم والتهويل.

وفي الإفادات، إياها التي نقلتها عنه هسبريس، لم يُغفل- ولغرض ما- تبرئة ساحة الحكومة المنتهية ولايتها من أية علاقة لها بالموضوع.

ولما كنت -كمفتش تربوي- على معرفة ببدايات هذا العضو/ الرئيس المهنية، وقد كانت واعدة على كل حال، تفاجأت أن أجده، وهو ابن التعليم العمومي، تمدرسا وأستاذية في حي شعبي، يقلب الطاولة ويرحل إلى الضفة الأخرى، ليُفتي مع من أفتى بأن آفة التعليم في المغرب مجانيته أو على الأقل: من شأن الإسهام الأسري في تمويل التعليم أن يصلحه.

فعلا، إن للمناصب وللمواقع سِحرا.

وقد وجدت هذا ينسحب على أغلب من أعرف من أعضاء المجلس. تتلمذوا في التعليم العمومي المجاني، ومارسوه مهنيا في أوساط موغلة في الشعبية والفقر.. وها نحن نواجههم اليوم وهم في مراكز المشورة والقرار، أُسُدا على طبقات فقيرة ليس لها من وطنها غير التعليم العمومي؛ كما ليس لها من غذائها غير العدس والبطاطس، وقد عَزَّا.

لم يتأخر السيد عمر عزيمان كثيرا في توضيح الأمور؛ لنفهم بأن رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران هو من استشار المجلس في موضوع المجانية، ولنتأكد بأنها (المجانية) في طريق الزوال، مهما نُمقت القصيدة. ومهما قلنا شعبويا: “بارد وسخون آمولاي يعقوب”.

يا رجال المجلس – من نعرف ومن لا نعرف – لقد خذلتم فرحتنا، إذ توهمنا فيكم الصلاح والإصلاح، فبدل التفكير في آنية الحَلْب، فكان عليكم أن تفكروا في البقرة، من أين مرضُها وهزالُها، حتى وهي تستنزف ربع الميزانية؟

ماذا تعني مجانية التعليم للمغاربة؟

الخلفية:

لعل المجلس الأعلى للتعليم، وهو يدشن – مشورة – حلقات تراجع الدولة عن مجانية التعليم، لم ينجز القراءة السياسية المطلوبة، في أمر جلل كهذا؛ له مساس بأهم مكتسب حققته الحركة الوطنية – الملكية والشعبية – بالدم والحديد؛ مما سيدخل البلاد، أكثر من كل رزايا الحكومة المنتهية الحكم، في متاهات مفتوحة على كل الأخطار؛ خصوصا والمحيط الإقليمي الملتهب حَرَّاث وزَرَّاع.

لقد آلى الاستعمار الفرنسي على نفسه – تأسيسا على نكسات بداياته في الجزائر الشقيقة – أن يشتغل، في المغرب تعليميا، أكثر من اشتغاله عسكريا واقتصاديا.

بدل تحريك فيالق الجيش – فقط – في المداشر والقرى، وفي المدن، تحركت المدرسة المسماة، وقتها:

Ecole franco musulmane؛ معززة بخيرة المنظرين، والممارسين؛ ولا داعي لإثقال الموضوع بنصوص الأدبيات التربوية الكولونيالية، التي تؤكد أن فرنسا لم تكن ترى لها مستقبلا في المغرب؛ في وجود منظومات التعليم الأصيل، الوحيدة وقتها.

ولم تكن ترى لها مستقبلا، أيضا حيث تسود الأعراف الأمازيغية، دون مؤسسات ناظمة لها، عدا القبال وأنظمتها القائدية التقليدية.

أدرك رواد الحركة الوطنية، منذ البدايات، أن أفضل السبل لمواجهة التغلغل الاستعماري، اللغوي، الوجداني والثقافي، هي في حمل الشعب المغربي على التشبث بلغته ودينه و باقي مقومات وطنيته.

ومن هنا الاستماتة في تأسيس مدارس وطنية، خارج نفوذ السلطة؛ حيثما تأتى ذلك

إذا كانت أغلب الحواضر قد استفادت من هذا التعليم الحر المناضل، فإن المستعمر خلا له الجو تماما في البوادي، وخصوصا الأصقاع النائية؛ وصولا الى اتخاذ مراكز للتنصير، والتفكير في الحصار الشامل للأمازيغ، بالخصوص، تعليما وقضاء وأعرافا. ولهذا وُفرت لـ:école franco berbère، كامل مقومات العمل والاستقطاب: البناء، شق الطريق، التغذية.. ولم يغفل المستعمر أن ينشئ حول المدرسة نواة للتمدن: مستوصف، بريد، بيطرة…

باللرغم من الأهداف الاستعمارية الواضحة، وبالرغم من تحريض الحركة الوطنية على نبذ المدرسة الفرنسية، فإن الموضوعية تفرض علينا الاعتراف – تربويا وتعليميا – بكون فرنسا أقامت في المغرب – كما في تونس والجزائر- منظومة تعليمية متكاملة وراقية، بمقاييس ذلك الزمان.

منظومة تعليمية لم يجدها ساسة الاستقلال تصلح – وقد رُحل أطرها قبل الأوان- الا للانقلاب عليها.

بل حتى مفاوضات الاستقلال لم تستحضر، كما يجب، ولأمر ما، مصير التعليم، وكأنه من سقط المتاع الاستعماري.

و”لأمر ما جدع بصير أنفه”

الانقلاب الأول:

لعل تخبطنا اليوم، في حل معضلة التعليم، راجع، بالأساس، إلى تخريب حكومات ما بعد الاستقلال لهذه المنظومة، قبل بناء منظومة وطنية قوية، تحل محلها، تدريجيا؛ دون أن يعني هذا عدم الحفاظ على عناصر القوة فيها.

لقد سعت فرنسا إلى تمكين جميع المغاربة من الفرنسية، دون تمييز طبقي، ولا مجالي؛ لكن غداة الاستقلال تبين لقادة حزب الاستقلال، بالخصوص، بأن في هذا “تبذيرا” لغويا، وترفا كبير، لا يمكن أن يكون مستحقا لجميع أبنا ء الشعب.

نعم الفرنسية غنيمة حرب، كما قيل، لكن ليس للدهماء.

وتحت عنوان التعريب شُرع في الاشتغال على أجندة سياسية، قبل أن تكون تعليمية؛ وهذا الاشتغال الذي يفوق الاشتغال الكولونيالي، دهاء وخبثا، هو الذي يحبط كل المساعي الخيرة لإصلاح المنظومة التعليمية؛ على مستوى الجامعات ومراكز البحث والتكوين، وعلى مستوى البقية الباقية من جنود المدرسة العمومية.

ومن باب ذكر الفضل لأهله لا بد من التذكير بدور المرحوم الحسن الثاني، ووزراء من طينة “بنهيمة” في مواجهة التيار التعريبي – السياسي – المتوحش.

لم يكن ممكنا مواجهة الطوفان؛ خصوصا والفئات الشعبية المتضررة هي التي تصدت – بفقدان وعي تام – لاستمرار الفرنسية لغة حاملة للمعارف، وللمدنية.

الانقلاب الثاني:

وهو من إنجاز دهاقنة الاستقلال، استكمالا لخطتهم في إبعاد الطبقات الشعبية عن اللغة الفرنسية، لغة الحكم والاقتصاد والرقي الاجتماعي. ويتجلى في الانقلاب على المدرسة الوطنية الحرة، التي واجهت بها الحركة الوطنية مخططات المستعمر، في المجال التعليمي، وحتى السياسي طبعا.

يتذكر جيلي كيف حاصرت جحافل المواطنين – غب الاستقلال – المدارس العمومية، رغبة في تسجيل أبنائهم، وكلهم ثقة في المستقبل، وكلهم ثقة في حكومة الاستقلال، وان ضاقت يدها، وراحت تستقطب – في خضم المنازلة المزعومة للفرنسية -أساتذة مشارقة، خربوا أكثر مما علموا.

يُفسر موسم الهجرة صوب المدرسة العمومية – هذا – بكون المواطنين جعلوا من هذه المدرسة رديفا للاستقلال؛ إن لم أقل بأن الاستعمار – كما الاستقلال – كان تربويا بالأساس.

هُجِرت المدرسةُ الحرة -التعليم الخاص اليوم – لأنها اعتُبرت مناضلة ضد الاستعمار؛ أمَا وقد استقلت البلاد، فلم يعد هناك مبرر لاستمرارها.

لم يكن هذا رأي العقل السياسي الريعي المتحكم، وهو العقل الخِبُّ الضَّبُّ؛ فراح يستصفي، تدريجيا، المدرسة الحرة لأبنائه؛ جاعلا للفرنسية، المنبوذة شعبيا، استجابة لمكر الماكرين، مكان الصدارة.

فعلا، نحن اليوم إزاء تعليم خاص، مُفرنس منذ الحضانة، ومعزول، ثمنا، وسكنا، وأطرا، ومستقبلا، عن ويلات التعليم العمومي.

هكذا، حازت المدرسة الوطنية الحرة، غنيمة الحرب اللغوية “لها لا لغيرها”.

الانقلاب الثالث: يتبع

Sidizekzi.blogvie.com

‫تعليقات الزوار

6
  • meriem
    الجمعة 2 دجنبر 2016 - 17:47

    يا رجال المجلس – من نعرف ومن لا نعرف – لقد خذلتم فرحتنا ،اذ توهمنا فيكم الصلاح والإصلاح ،فبدل التفكير في آنية الحَلْب، فكان عليكم أن تفكروا في البقرة ،من أين مرضُها وهزُالُها ،حتى وهي تستنزف ربع الميزانية؟

  • حياك الله أستاذي ...
    الجمعة 2 دجنبر 2016 - 18:18

    التعليم هو مصنع الإنسان ، هو الذي يخرج الكائن البشري من الحيوانية إلى الإنسانية أويجعل منه حيوانا عاقلا.ولكن الحيوانات الناطقة أفسدته بجهالتها.
    قبل 1912، كان المغاربة منعزلين يركبون البغال والحمير، ولما تولى الفرنسيون مهمة ربطهم بمحيطهم الدولي وتحديث بلادهم وتنوير عقولهم بموجب معاهدة الحماية ، استطاعوا إركابهم السيارات والحافلات ، وتعويدهم الإستضاءة بالكهرباء والتواصل بالهاتف ، ولكنهم عجزوا عن تغيير طينة أمخاخهم من طينة أمخاخ البغال والحمير إلى طينة مخ الإنسان.
    خير ما أدخلت الحماية إلى المغرب مدرسة Jules Ferry العلمانية ، التي تخرج منها وزراء وأطباء ومهندسي ما بعد الإستقلال. وما زال أبناء الأسر الميسورة الذين يسيرون المؤسسات الإقتصادية في المغرب ، يتخرجون منها في فرنسا إلى اليوم.
    هل يخفى على عاقل أن الغرب تغلب علينا بالبحث العلمي وابتكاراته المصنوعة. وأن للتعليم هدفان لا ثالث لهما :
    – تأهيل الطالب لولوج أرقى معاهد البحث العلمي في العالم
    – تأهيله لولوج مسالك المهارات المطلوبة في سوق الشغل الدولية.
    التعريب أنتج الدعاة والوعاظ بدل العلماء الباحثين في المجالات العلمية الحديثة.

  • عبد الهادي
    الجمعة 2 دجنبر 2016 - 20:13

    من المصباح الى مصباح ( معزة و لو طارت )
    نفى عبد الإله بن كيران رئيس الحكومة في أول تعليق له، الكلام حول إلغاء مجانية التعليم، مشيرا أن الأمر غير صحيح ويتعلق فقط بتوصية للمجلس الاعلى للتعليم.

    وقال عبد الإله بن كيران في تصريح صحفي لموقع “لكم” الإلكتروني، أن القرار فيه نقاش كثير بين عدد من الهيئات الدستورية، بداية من المجلس الوزاري والبرلمان ثم المجلس الحكومي، الذي يعنى بدراسته قبل الموافقة عليه في الأخير.

  • med
    السبت 3 دجنبر 2016 - 00:08

    La non gratuité a été proposée d'une manière plus claire dans le Mitak de 2000…
    Mr Ramadane n'avait pas critiqué cette proposition en ce moment; parce qu'il faisait partie du système;comme inspecteur pédagogique…

  • استاذي الفاضل ...
    السبت 3 دجنبر 2016 - 00:36

    … لقد سبق أن تخوف الحسن الثاني سنة 1995 من إصابة البلاد بالسكتة القلبية ، ولكن يبدو أنها مصابة حاليا بالسكتة الدماغية.
    من المؤكد أن أدمغة المتعلمين والمسؤولين معطلة لا تشتغل.
    هل يعقل أن يطرح مجلس استشاري أو حكومي احتمال مراجعة مجانية التعليم ، و30 % من المغاربة أميون وآفة الهدر المدرسي مستفحلة ؟.
    لا شك ان مجرد احتلام التخلي عن مجانية التعليم في بلد أغلب سكانه من الطبقة الكادحة ، يعتبرحماقة.
    ومما يدل على السكتة الدماغية أيضا ، أنه في الوقت الذي كان من المفروض وضع برنامج لتدريس التقنيات الحديثة من معلوميات وأنترنيت باللغة الأنجليزية في الطور الإبتدائي ، لتمكين الطفل المغربي من التواصل مع محيطه الدولي ، يتم وضع برامج لتدريس تيفيناغ اومراجعة دروس التربية الإسلامية ، التي كان يجب إلغاء ثلثيها المحشو بمعارف غير صالحة .

  • ملاحظ
    السبت 3 دجنبر 2016 - 22:55

    عن الكاتب العام للنقابة الوطنية للتعليم العالي:
    "هناك حقيقة يجب أن يعرفها المغاربة، يقول الكاتب العام لـ" النقابة الوطنية للتعليم العالي"، وهي أن "مستشار رئيس الحكومة، خالد الصمدي، هو رئيس اللجنة الحكومية التي أعدت القانون الإطار حول إلغاء المجانية عن التعليم، الذي أرسلته الحكومة للمجلس الأعلى ليعطي رأيه فيه، وهو في نفس الوقت عضو وناطق باسم المجلس الأعلى، وهذا تناقض خطير".

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 7

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء

صوت وصورة
“أش كاين” تغني للأولمبيين
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:52 1

“أش كاين” تغني للأولمبيين