إنهم يدمرون الدولـة !

إنهم يدمرون الدولـة !
السبت 3 دجنبر 2016 - 12:39

في مقالة سابقة بعنوان “دفاعا عن الدولة”، حضرتْ إشكالية مطروحة بحدة في الخطاب السياسي الراهن، وهي وجود حالة من التماهي النظري والفكري في تناول مسألة الدولة والسلطة والمجال السياسي، وما ينتج في أعقاب ذلك من ممارسات سياسية خاطئة، قد تصل أحيانا حد شيطنة الدولة والمطالبة بإسقاطها، أو في أحسن الأحوال تطويعها خدمة لمشروعٍ أو لفكرةٍ طوباويةٍ، ممتنعة التحقق في جميع الأحوال، مع أنها (أي الدولة) دولة الجميع وفوق الجميع.

ولهذا الحذر النظري ما يبرره، ليس أقله استحالة الادعاء بممارسة السياسة وتناول مسألة السلطة خارج مجال الدولة، لسبب بسيط هو أن تدبير شؤون الدولة ومؤسساتها يقع في قلب أهداف السياسة ومن صميم وظائفها. والأحزاب السياسية تتنافس انتخابيا من أجل هذا الهدف بالذات، في مسعاها إلى البحث عن أفضل السبل لتنزيل تصوراتها وبرامجها حول حسن تدبير مؤسسات الدولة، بما لا يتعارض مع الثوابت الجامعة والمشروع المجتمعي المشترك بين كافة القوى المجتمعية بالبلاد. ممارسة السياسة، إذن، تقع في الإطار المؤسساتي للدولة وداخل مجالها، وليس خارجه كما قد تذهب إلى ذلك بعض الاتجاهات الطوباوية والعدمية والفوضوية.

غير أن تناول مسألة الدولة من هذه الزاوية ليس كافيا بقدر ما هو منهجيٌ بالأساس، فرضه مقام المقال ليس إلاَّ، ولم يكن ليحيط بجميع مستويات التحليل السوسيولوجي والبنيوي، نظير ذاك المرتبط بقاعدتها الاجتماعية/ الإنتاجية/ المعرفية، بحسبانها بيئتها الحاضنة التي نمت في رحمها وتغذت من معينها. فالدولة الحديثة لا تقوم لها قائمة العقلنة والنجاعة والتوازن، إلا بانتظامٍ في العلاقة وتداخلٍ في الوظيفة بين السياسية والمعرفة والإنتاج. وبقدر ما نطرح مسألة الدولة بهذا الشكل الشمولي، بقدر ما تتعدد أمامنا فرص ملامسة الإشكالات المرتبطة بوجودها والإكراهات التي تعيق استمرارها وفعاليتها داخل المجتمع.

وإذا عددنا مجمل المخاطر التي تهدد كيان الدولة في وجودها ووظائفها الأصلية، جاز لنا، بالنتيجة، أن نقيم القياس على ذلك في تعداد المخاطر عينها المهددة للسياسة، ما دامت بيئتها الحاضنة معرضة للتدمير. وقد أصاب عابد الجابري في توصيفه، مثلاً، لمخاطر العولمة بالنسبة للدولة، معتبراً أنه “إذا كانت السياسة تدبيرا لشؤون الدولة، فإن شؤون الدولة تبتلعها العولمة…وإذا تقلصت مهام الدولة انحسر مجال السياسة… فجميع هذه الشؤون التي تنتزعها العولمة من الدولة الوطنية تنتزعها أيضا من السياسة، فتتركها بدون موضوع”.

واضحٌ، إذن، أن تقلص مجال الدولة – وهو مجال السياسة كما أسلفنا- يُحوِّل عملية التنافس الانتخابي والتعددية الحزبية، إلى ديمقراطية سياسية بدون رهانات مجتمعية.

وبالقياس إلى مخاطر العولمة ونتائجها في هذا الباب، يمكن ترتيب الآثار المدمرة نفسها للدولة وللمجال السياسي الوطني بالنسبة للمخاطر الأمنية المرتبطة بالإرهاب، أو في حال وجود اعتداء خارجي. غير أنه ثمة قوة مدمرة ومهددة لاستقرار الدولة قد تكون أشد وطأةً وخراباً من غيرها، وهو خطر فقدان الدولة لقاعدتها الاجتماعية التي تمدّها بأسباب الحيوية والتجدد، وهي هنا الطبقة الوسطى، لأن الجزء الأعظم من التكوين الاجتماعي لهذه الطبقة ينتمي إلى الدولة أو نما في أحضانها وتحت رعايتها، بما هي الفضاء الأساسي لذلك التكوين، وبما هي – في الوقت عينه – أداة الإنتاج الرئيسي له.

لا يكفي، إذن، الترافع من أجل الدولة فقط بالنظر إليها من زاوية المؤسسات والأفكار والبرامج والتصورات السياسة، دون الانتباه إلى بنيتها الطبقية الأساس وبيئتها الحاضنة التي تنمو فيها وتتغذى منها، والتي تشهد، اليوم، على حالٍ من الاندحار والهشاشة، نتيجة سياسات عمومية مدمّرة، قادت إلى الإضرار بمصالح الطبقة الوسطى، وإضعاف مركزها الاعتباري في المراتبية الاجتماعية. فالاختلالات التي رافقت الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية للدولة، كما أظهرت مختلف الدراسات التشخيصية لوضعية البلاد (كتقرير الخمسينية وتقارير المندوبية السامية للتخطيط والمجلس الاقتصادي والاجتماعي…)، والمتجلية أساسا في سوء تدبير الموارد وإهدار الطاقات والقدرات الإنتاجية للبلاد، فضلا عن سياسة الاستدانة الخارجية المفرطة، وتفكيك القطاع العـام وفي القلب منه الوظيفة العمومية، وضرب التعليم ومجانيته، ونقص في تمويل الاستثمار العمومي، وتهميش المقاولات الصغرى والمتوسطة، (كل هذه الاختلالات) ما انفكت تلقي بتبعاتها السلبية داخل الحقل الاجتماعي، لعل أبرزها توسيع هامش الهوامش، وسحق الفئات المسحوقة، وترييف المدن، ونشوء فئات خدماتية طفيلية هجينة وغير منتجة.

هذه التجليات المقلقة تؤشر على أزمة الدولة التنموية / الاجتماعية، وتُندر بتعميق الهوة في علاقتها بالمجتمع ومن ثمة خطر انهيار عنصر الثقة في مؤسساتها، وهي الفجوة التي تشكل مدخلا للتشكيك المنهجي في الحاجة إلى الدولة الوطنية وأدوارها الحمائية ووظائفها الاجتماعية والتضامنية. فالدولة، ورغم ما طال أدوارها من تغيرات جراء أحكام العولمة وزحف قوانين الاقتصاد الحرّ، فإنها لازالت هي مفتاح التنمية وعمودها الفقري، وضامن التماسك الاجتماعي. ولذلك، بمقدار ما سيكون عليها أن تنهض بأدوار رئيسية في مضمار عملية التنمية، بمقدار ما سيكون عليها تنمية الطبقة الوسطى وتوسيع حيز انتشارها بكل فئاتها، كمياً ووظيفياً، بالنظر إلى ما تضخّه من عوامل الكفاءة العلمية والثقافية، والحيوية التي تلعبها في تحريك عجلة الاقتصاد وتنمية الطلب العام. فحضورها الوازن في الدولة والمجتمع إنما هو تعبيرٌ عن تحقيق التوازنِ ورسوخِ الاستقرار الاجتماعي والسياسي. لذلك، لا مناص من استحضار علاقة التلازم بين دور الدولة في التنمية وهاجس تقوية الطبقة الوسطى لحظة صياغة السياسات العمومية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ولا حاجة لنا بالتذكير أن الوعي بهذه المسألة قد حضر في الدستور المغربي من خلال تنصيصه على دور الدولة الحمائي لمجمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ليظل المجتمع المغربي في حاجة إلى دولته، والدولة في حاجة إلى قاعدتها الاجتماعية. ومفتاح التوازن في انتظام هذه العلاقة هو إعادة الاعتبار للطبقة الوسطى بكل فئاتها. وهنا بالضبط تظهر الحاجة إلى الارتقاء بوعي النخبة السياسية المغربية، من الفكر اليومي إلى التفكير الإستراتيجي.

‫تعليقات الزوار

5
  • عبد الهادي
    السبت 3 دجنبر 2016 - 17:00

    انهم يدمرون التحكم
    التحكم يريد ان يقنعنا بانه هو الدولة
    فلما احس بعض ادوات التحكم بانهم مهددون و لم تعد هناك حاجة اليهم
    لجأوا الى التباكي على مصير الدولة
    الدولة ستكون بالف خير بدونكم
    و الطبقة المتوسطة ستكون بالف خير بدونكم
    والشعب سيكون بالف خير بدونكم

  • amazigh
    السبت 3 دجنبر 2016 - 19:43

    هناك مثل شائع ادا أعطيت الفقيه بضع دراهم دعى لك بدعاء عادي وان أعطيته 200 درهم دعا لك بدعاء تقشعر منه الأبدان ..ادا كنت معي تغاضيت على عيوبك و ان عارضتني فأنت التحكم و الكافر و الفاسد و التمساح و العفريت و العلماني و الملحد و المافيوزي و البزناس و و و هدا هو حال البجدة بالأمس مزوار ش و حين خرج الاستقلاليون من الحكومة أصبح مزوار وزيرا للخارجة بالأمس شباط هبيل و فاسد و عميل البام و و و و الآن معي فهو مواطن يمثل الحزب الوطني … هكذا هم المنافقون .. بنككككيررران لا يؤمن بدولة الحق و القانون و لا يؤمن بالتغيير فادا كان حزب الأصالة و المعاصرة متشبث بموقفه و هو ما يحسب له فان باقي الأحزاب المهرولة لا هم لها لا المشروع المجتمغي و لا هم لها لبرنامج وطني همها الوحيد الكراسي و المناصب حزب الأصالة و المعاصرة له كلمته و و له مستقبله لما يحمل من مشروع واضح لمىنسمع منه لا جنة و لا نار خطابه مبني على احترام الآخر و مبني على أرقام واقعية و تقوة دولة المؤسسات لا العبث كما يفعل بنكككيررران المنبطح بقفشاته و البنك العالمي ينخر في وطننا لا تعليم لا صحة

  • أحسنت يا أستاذ...
    الأحد 4 دجنبر 2016 - 13:01

    … الثقافة أو التعليم ، المعاييش أو الإقتصاد . الحفاظ على التوزنات وإصلاح الإختلالات أو السياسة ، هذه هي أسس الدولة المعاصرة . قاعدتها الإجتماعية الواجب توسيعها وتقويتها هي الطبقة الوسطى الميسورة .
    العولمة فرض عين ومطلب للجميع بسبب مصنوعاتها المبتكرة التي تستجيب لحاجات الناس ( الأنترنيت ، الهواتف الذكية ) وقبلها ( السيارة، القطار، الطائرة) إلخ…
    المطلوب من الأسر والمجتمع والدولة بكل مؤسساتها ، التكفل بكل طفل (ذكر أو أنثى) ، يولد ورعايته لتوفير ما يحتاجه للإندماج في العولمة.
    وأول ما يؤهله للعولمة ، التعليم العصري المبني على مناهج صقل المواهب وتنوير العقول بتلقين العلوم والتقنيات الحديثة باللغات التي تنتجها منذ الطور الإبتدائي.
    فإذا تخرج الطالب وهو ملم باللغات الأكثر انتشارا في العالم ، وهو مؤهل لولوج أرقى معاهد البحث العلمي عالميا ، ثم اكتسب المهارات المطلوبة في سوق الشغل الدولية ، فإنه سيحصل على عمل يدمجه في الطبقة الوسطى الميسورة ، وهكذا تتوسع قاعدتها ويتطور المجتمع إلى ما هو أحسن ويكتسب المناعة ضد مرض الأيديولوجيات العلمانية أوالدينية ، فيعم الرخاء ويسود الرضى.

  • BANY
    الأحد 4 دجنبر 2016 - 18:09

    موضوع في المستوى ونفاق واضح. فهناك فرق بين الدولة والمجتمع المدني ان تكون مسؤولية الاحزاب يعني كل الاحزاب .ان نقول الشعب يعني كل الشعب وهذا واضح.

  • محمد بلحسن
    الإثنين 5 دجنبر 2016 - 15:19

    رحم الله الأستاذ عابد الجابري الذي قال عبارة أذكر بها هنا لفتح نقاش حول تزاوج المجال السياسي بالحكامة. قال الرجل رحمة الله عليه "إذا كانت السياسة تدبيرا لشؤون الدولة، فإن شؤون الدولة تبتلعها العولمة…وإذا تقلصت مهام الدولة انحسر مجال السياسة… فجميع هذه الشؤون التي تنتزعها العولمة من الدولة الوطنية تنتزعها أيضا من السياسة، فتتركها بدون موضوع".

    تبارك الله على كاتب المقال الأستاذ لقماني الذي قال عبارة أجدها معبرة جدا لإعداد أرضية النقاش. قال الرجل: "تقلص مجال الدولة يُحوِّل عملية التنافس الانتخابي والتعددية الحزبية، إلى ديمقراطية سياسية بدون رهانات مجتمعية".

    أنا شخصيا مقتنع بأن المجال السياسي المغربي (هذا الرجل الغريب في تصرفاته المتهاون تارة و المراهق تارة أخرى و خليط هجين تارة أخرى أخرى تفوح منه رائحة النفاق و الرياء و الغرور) عرف تحولات متنوعة و متعددة طيلة 19 سنة الأخيرة و بالضبط منذ تعيين حكومة التناوب التوافقي في 14 مارس 1998.

    إجمالا, يظهر أن ذلك الرجل (المجال السياسي) محتاج لسنة كاملة -2017- لنختبر قدرته على تلبية ضروريات زواج شرعي من امرأة رزينة جملية محترمة هي الحكامة.

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30

احتجاج أساتذة موقوفين