نشوة الكتابة !

نشوة الكتابة !
السبت 25 مارس 2017 - 23:12

لا أكتب إلا حين تتراقص الخيالات تحت ناظريّ. أتخيل الأفكار صورا تتحرك. وعلى شاشة مخيلتي، أتابع أفكاري وقد استحالت كائنات من لحم ودم تصنع ماجريات حياتها مستقلة عني. حينذاك، أعمد إلى القلم فأصور الظلال المتراقصة على الورق.

ذاكرة بصرية، يقول المختصون. لكن الأمر أعمق من ذلك وأدق.

الكتابة، بهذا المعنى، حاجة نفسية عميقة، لا أقول لتحقيق “التسامي”، مثلما يعتقد النفسانيون، ولكنها حاجة أصيلة في نفوس المبدعين، لعلها وجدت قبل أن تخط الأيادي الحروف الأولى على الورق.

إن الخطوة الأولى على درب الكتابة: أن “يرى” المبدع ما يكتب، أنى كان الجنس الأدبي أو الحقل المعرفي الذي يبدع من داخله. وهذه الخطوة سباقة عن كل ما عداها من قراءات وتمرينات. وهي الباب الذي يدخل منه المبدعون، وإلا فلا مدخل لهم في هذه الصنعة ولن يشموا رائحتها.

والحقيقة أنني لم أضع قط تصورا قبليا لأي من مكتوباتي. إنما أتابع الصور المتحركة في خيالي وأنظِمها في نسق (خيالي هو الآخر)، فإذا هي تنسرب بين يدي كلمات متدفقات. ولا تسل، بعد ذلك، عن متعة اكتشاف النص ودهشة اللقاء الأول معه وانسيابية الصور المتولدة فيه وإيقاعية الموسيقى الداخلية بين سطوره، كأنما هي يدي “من” تكتب، لا أنا.

وقد كتبت، قبل هذا اليوم:

“أكتب متى ما دعتني حاجتي الفطرية إلى الكتابة، غير آبه بتنميق العبارات، ولا بزخرفة الجمل. إنما هي يدي من تكتب، وانتهى السؤال. قل إنه فعل آلي يتحرك تلقائيا. أراقبه من بعيد، فلا أتدخل بالتنقيح ولا بالزيادة أو النقصان. مراهق يرسم السهام تخترق القلوب! بل قل إنها قربة مملوءة كلاما، أثقبها فإذا هي تسيل بالكلمات. هكذا، بلا تعقيد ولا تزويق ولا سعي كاذب إلى الإبهار”.

غير أن هذا الأسلوب، وإن كان شديد الإغراء، تعتريه مزالق ومحاذير. أولها أن تصبح الكتابة فعلا “مزاجيا”. أعني أنه ما لم يكن المزاج رائقا والشهية مفتوحة والخيالات تتراقص، فلن تخط حرفا. وهو عقاب قاس يشبه وضع “الحرمان” لدى المدمنين، بل قد يكون أنكى.

ثم إن الكلمات قد تستعصي. والرغبة المشتعلة قد تخمد. وليس متاحا للمرء في كل يوم أن يتوحد مع ذاته وينقب في أعماقه عن الصور والكلمات. وتلك مزالق، وغيرها كثير، تعيق المبدع عن الانتظام في الكتابة، فما بالك بالنشر ومتاعبه.

ويرحم الله نجيب محفوظ فقد عانى في بداية حياته الأدبية شيئا كهذا، لكنه عرف كيف يستدعي “نشوة الكتابة” في أوقات يحددها بدقة كل يوم. عرف الرجل – وكيف لا يعرف وهو من هو – كيف ينظم ساعات الكتابة في يومه دون أن يتسلل الروتين إليها ودون أن يفقد القدرة على السفر بعيدا بخياله.. إلى حيث لا أرض ولا سماء !

‫تعليقات الزوار

3
  • هسبريسية
    الأحد 26 مارس 2017 - 06:46

    أنا كذلك تتراقص الخيالات في عقلى وتكون لدي أفكار كثيرة …ولكن صياغتها تتعبني أحيانا …كم من الفكار ضاعت فقط لأنهم لم يفكروا في تبني فكرة الكتاب الشفهي …فقط تتكلم دون أن تكون مجبرا على الشكل والقافية…
    انه فعل ليس بالسهل..

  • شاعرة
    الأحد 26 مارس 2017 - 16:33

    أسلوبك جميل قريب من الموسيقى الشعرية… عرضت للموضوع بطريقة فيها الكثير من القدرة على ترويض الكلمات. دام لك التألق.

  • stream of consciousness
    الإثنين 27 مارس 2017 - 18:11

    قد أتفق معك في هذا الانسياب وربما هذا ما يُعرف ب"تيار الوعي" تلك التقنية التي برع فيها مثلاً تولستوي فيرجينيا فولف وجيمس جويس، التقنية المبنية على ترك العنان لسيولة الوعي أن ينطلق من أي نقطة ترد عليه أي دون مقدمات ثم الانطلاق في سرد ما يتواتر على سطح الوعي إلى أن يجف. لكن أتساءل كيف يمكن بناء رواية مطولة فيها شخوص كثيرة ومتنوعة المنازع النفسية والأشكال والأدوار المجتمعية، هذه الشخوص التي تتغير مع المكان والزمان فتتطور وتتصارع بل ومنها من يموت الخ، كيف يمكن ضبط هذه الشخصيات دون تناقض ودون تعسفات فيما تفعل وفيما تترك الخ فقط بالاعتماد على سيولة تلقائية لما تجود به قريحة الوعي في اللحظة والآن؟ المعروف عن الكتاب الكبار ومنهم ن. محفوظ كونهم يقومون بصنع ملف لكل شخصية في الرواية يضم كل ما يخص هذه الشخصية من اسم وجنس ولون وسن ووضع اجتماعي الخ وإلا سيتناقض الكاتب آجلا أو عاجلا فيقتل العمل خصوصا إذا كان العمل طويلا ويجري عبر حقب زمنية مختلفة وطويلة تتطور فيها الاحداث والشخصيات بحيث يكبر الصغير ويشيخ الكهل وقد يموت البعض وتتغير أوضاع وظروف الشخوص. أعتقد أن الأعمال الكبيرة تبنى بناء مُحكما وشكراً

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 4

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 5

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال