الأدوار البيداغوجية الجديدة للأسرة

الأدوار البيداغوجية الجديدة للأسرة
الأربعاء 29 مارس 2017 - 09:48

لم تبرح الكثير من الكتابات التي تتخذ من الأسرة موضوعا لها تلك الصورة التي تؤكد على مركزية الأب فيها، باعتباره صاحب السلطة العليا، الذي لا تشق عصا طاعته، والتي يستمدها من الموروث الثقافي الذكوري، وأيضا للدور الاقتصادي الذي يلعبه داخل الأسرة والمجتمع عموما. أما باقي أفراد الأسرة ما عليهم سوى الذوبان في شخصه والانصهار في بوثقته. فالأم تضبط إيقاع البيت على مزاجه، وتوفر له أسباب الراحة التي ينشدها حين العودة من الخارج. أما الأبناء فعليهم الظهور بمظهر البررة وعلى الطراز الذي يتمناه والمصمم قبل قدومهم. وإلا عدوا من العاقين الذين يلحقهم سخطه وما يتبعه من التعاسة الدنيوية والأخروية.

ولا يخفى على أحد التغيرات التي طرأت على هذه الصورة، والتي انحصر وجودها بشكل كبير حتى في الأوساط التي لم تحظى بأسباب التمدن والعصرنة إلا بالنزر اليسير. وتختفي كلما ارتفع منسوب التعلم لكل من الرجل والمرأة، والاستفادة مما جاد به العصر من انفجار معلوماتي، وهبوب رياح التواصل الالكتروني الذي أتى على أوتاد خيامنا فأقلعتها ورمت بها في واد سحيق، ليس اختيار منا، بل أوجبتها اللحظة التاريخية، ومستلزمات الشهود الحضاري. فاهتزت الكثير من القيم، وغيرت من نظرة الرجل والمرأة إلى بعضهما البعض، وأحدثت ثورة لا تقل عنفوانا وقوة عن تلك التي يشهدها المجال المعلوماتي، فطال التغيير العلاقة بينهما وأدوارهما.

دور الأم:

بعد النصيب الوافر الذي حظيت به المرأة من التعليم، دخل النموذج المهني في حياتنا الاجتماعية، فتحررت من جزء كبير من المهام المنزلية التقليدية التي أوكل أمرها إلى الزوج نفسه، أو مشاركة الأبناء فيها وتحمل مسؤولياتهم في وقت مبكر من العمر. أو إلى خادمة والتي يتجاوز دورها أحيانا العمل المنزلي، إلى المشاركة في تربية الأبناء والقيام بمهام الوساطة بينهم وبين آبائهم المنشغلين بأعمالهم، فملأت جزءا كبيرا من حياتهم الذي هجرته الام. بفعل الحركية المهنية ودرجة التمدن والتحضر التي شكلت قطيعة مع الطرق التربوية التقليدية، وظهور أنماط تربوية جديدة تولي الاهتمام الأكبر للتعليم والتكوين، ودفع الأبناء إلى التنافس لارتياد المناصب القيادية في شتى المجالات، دون اعتبا ر للجنس. بحيث لم تعد البنت تنشأ للحياة الزوجية والمهام التقليدية المرتبطة بها، بقدر ما أصبح الاهتمام منصبا أكثر على السعي منذ وقت مبكر وبدافع من الأمهات أنفسهم الذين يزرعن فيهن بذور السعي للخلص منه عند الكبر. فارتفاع المستوى التعليمي أدى بالمرأة إلى العمل خارجا، وهو دافع إلى معانقة الفعل السياسي والجمعوي أحيانا، وهي الصورة التي تتسرب إلى أفئدة الناشئة ضمنيا أو تصريحا. والولد يعد ليكون أكثر إيمانا واقتناعا ومقدرة على التعايش مع ثقافة المناصفة والمشاركة في المغارم والمغانم.

دور الأب:

لا يمكن طبعا أن لا يؤثر هذا الانقلاب الذي حدث في دور الأم، على دور الأب، الذي لم يعد المعيل الأول للأسرة. الذي يعود من العمل في آخر اليوم ليجد المرأة تنتظره مهيأة له أسباب الراحة التي تفتقدها، تنشد من يخفف عنها هموم ووطأة العمل الذي تستغرق فيه ربما أكثرمما يستغرق فيه هو. فقد يسبقها إلى البيت لإعداد ما هي والأولاد في حاجة إليه، ويتحمل مسؤولية رعاية الأبناء في حضورها وغيابها. وتقوم محلات مأكولات الخفيفة والفطائر التي انتشرت بشكل مهول ،بجزء مهم مما كان يقوم به مطبخ البيت، في تجاهل تام للنصائح والإرشادات التي بحت بها أصوات خبراء التغذية والصحة. لأن إكراه الزمن يعلو صوته على أي صوت آخر.

ولا يمكن لهذا الاب أن ينجح في مهامه الجديدة، ما لم يكن مشبعا بالثقافة الديمقراطية، مؤمنا بالتعاون كقيمة تحقق التوافق الزواجي، وقد تخلص من الحياة الريفية بما يتطلب ذلك من تغيير في العادات والتقاليد التي يفرضها نمط العمران وعلاقات الجوار الحضرية، التي تختلف كلية عن تلك التي تسود في القبيلة والقرية .

مكانة الأبناء داخل الأسرة:

لا شك أن كلا من الزوج والزوجة يسعيان إلى إنجاب الأبناء، لما يوفرونه من متعة وتمسك بالحياة كما أكدت على ذلك العديد من الدراسات. ف «من لم يبن بيتا، أو يكتب كتابا، أو يلد ولدا، فكأنه لا مات ولا عاش» لكن الذي حصل هو هذا الانقلاب من تبعية الأبناء للآباء ماضيا، إلى تبعية الآباء للأبناء حاضرا، حيث سادت بينهم ثقافة تعلي من شأن الحقوق، التي زادتها البرامج التعليمية رسوخا ومشروعية، وغياب تام لأي حديث عن الواجب. الشيء الذي يوقع الآباء فيما يسميه البعض ب: «الابتزاز العاطفي »، فالرغبة في الإنجاب، وبعده الحرص على بقائهم بجانبهم، ولد تبعيتهم بتلبية مطالبهم جلبا لحبهم. إنه الاستبداد المقنع بالحب حسب تعبير المحلل النفسي(إيريك فروم) .« فالطفل يوضع في قفص ذهبي، يمكنه الحصول على أي شيء، شرط أن لا يريد مغادرة هذا القفص». فهو في ملكية أسرته. ورغم ما يبديه الآباء العصريون من تنازل عن سلطات كانت للقدماء، فلا يعدو ذلك أن يكون « تماهيا إسقاطيا» كما يسميه (ميلاني كلاين)، فكون الآباء لم يكن بإمكانهم التخلص من الممنوعات وهي كثيرة في طفولتهم، فإسقاط ذلك على أطفالهم يعطيهم الشعور بالحرية التي افتقدوها في طفولتهم وشبابهم، فيرجعون بالزمن القهقري لممارسة ما لم تتح لهم فرصة ممارسته. فنرى أكثر الآباء محافظة يتسامح مع ابنه وابنته في الخروج عن التقاليد في الهندام وتسريحة الشعر والسلوك. وهذا التسامح مبني على وعي مؤداه: أن التركيز تربويا ينبغي أن ينصب على مستوى بناء القناعات والأفكار، التي تشكل خلفية كل التصرفات والأنماط السلوكية. مع إعطاء فرصة للأبناء بممارسة ما يرونه صوابا وإن لم يكن كذلك في نظر الآباء، دون خفية وتستر، مع التشبث بفضيلة الحوار والتوجيه، اللذان ولا شك سيثمران في مستقبل الايام. وهكذا نكسب الإنسان الجريء الذي لا يمارس في السر ما يخشى اقترافه في العلن. وهو السلوك الذي كان سائدا في أبناء الامس، الذين عاشوا انفصاما في الشخصية امتدت إلى كبرهم، فظهرت في شخصه وهو مسؤول في عمله، وقيادي في تنظيمه…..

فقد تم استيعاب الكثير مما استجدت به الساحة العلمية من طرف الآباء، و التي تحث على النظر إلى الطفل، كذات فاعلة، وليس ذاتا تحتاج إلى الرعاية. ولم يعد البيت مؤسسة إدارية تنضبط بقوانين هي من صياغة الراشد، تفرض على الآخرين الانصياع إليها. فقد استبدل كل ذلك بالحرية والابتكار وإعطاء فرصة للطفل، للتعبير عن ذاته بمختلف الأشكال، لتكون التربية مبنية على أدق الأشعة رؤيا. فتبنى علاقات أكثر تسامحا، وأقل سلطوية وتوترا. فالتربية هي :« تجاوز وليس إعادة الإنتاج» طبعا تجاوز نحو الأرقى والأفضل. ورحم الله علي وكرم وجهه، فهو القائل:« لا تكرهوا أبناءكم على أخلائكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم».

‫تعليقات الزوار

1
  • احمد شقور
    الخميس 30 مارس 2017 - 08:05

    نعم اخي خصوصا نحن في الغرب نعيش تبعية مطلقة للابناء لكن ممكن ان نتحرر منها ولو للحظات …

صوت وصورة
مضاعفة استيراد أضاحي العيد
الخميس 18 أبريل 2024 - 14:49

مضاعفة استيراد أضاحي العيد

صوت وصورة
بايتاس وتأجيل الحصيلة الحكومية
الخميس 18 أبريل 2024 - 14:36 1

بايتاس وتأجيل الحصيلة الحكومية

صوت وصورة
هلال يتصدى لكذب الجزائر
الخميس 18 أبريل 2024 - 13:45 3

هلال يتصدى لكذب الجزائر

صوت وصورة
مع المخرج نبيل الحمري
الخميس 18 أبريل 2024 - 13:17

مع المخرج نبيل الحمري

صوت وصورة
عريضة من أجل نظافة الجديدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 12:17 3

عريضة من أجل نظافة الجديدة

صوت وصورة
"ليديك" تثير غضب العمال
الخميس 18 أبريل 2024 - 11:55 1

"ليديك" تثير غضب العمال