مفهوم العدالة الانتقالية

مفهوم العدالة الانتقالية
الأربعاء 19 يوليوز 2017 - 11:32

ما المقصود بمفهوم العدالة الانتقالية؟ وما علاقته بقضايا التحديث بصفة عامة، والتحديث السياسي بصفة خاصة؟

بالعودة إلى بعض وثائق المركز الدولي للعدالة الانتقالية، سنعثر على توضيحات مرجعية للمعاني التي يحيل إليها هذا المفهوم الذي أصبح واسع الانتشار لدى المنظمات الحقوقية العالمية والوطنية، وفي كل النصوص المرتبطة بالقانون الدولي في الوقت الراهن.

في وثيقة بعنوان “تاريخ العدالة الانتقالية ونظريتها”، جاء ما يلي: “تقوم العدالة الانتقالية على معتقد مفاده أن المطالبة بالعدالة الجنائية ليست شيئا مطلقا، ولكن يجب أن تتم موازنتها بالحاجة إلى السلم والديمقراطية والتنمية العادلة وسيادة القانون”.

إن العدالة الانتقالية نتاج للخطاب الدولي حول حقوق الإنسان، وتشكل جزء منه.

غير أن هناك ثلاث خصائص في تمييز مفهوم العدالة الانتقالية عن مفهوم حقوق الإنسان واستقلاله بذاته:

– “التركيز على الشمولية في التعامل مع إرث الانتهاكات، فأهداف وأدوات العدالة الانتقالية تتجاوز المحاسبة المعروفة على انتهاكات حقوق الإنسان من خلال المحاكمات”.

– “الأولوية التي يحظى بها التوازن والإدماج. فالعدالة الانتقالية لا تسعى إلى عدالة بأثر رجعي بأي ثمن، أو تركز على المحافظة على السلام على حساب حق الضحايا في العدالة، ولكنها تؤكد عوض ذلك على إرساء توازن بين الأهداف على اختلافها وتنافسها…”.

– “التركيز على منهج يرتكز على الضحايا للتعامل مع ماض عنيف، سواء من حيث مساره أو نتائجه…”.

في الجانب النظري والعملي، “تهدف العدالة الانتقالية إلى التعامل مع إرث الانتهاكات بطريقة واسعة وشاملة تتضمن العدالة الجنائية، وعدالة إصلاح الضرر، والعدالة الاجتماعية، والعدالة الاقتصادية”.

تتضمن أهداف العدالة الانتقالية ما يلي:

“وضع حد لجرائم حقوق الإنسان الجارية ممارستها، والتحقيق في الجرائم وتحديد المسؤولين ومعاقبتهم، ومنح تعويض للضحايا، ومنع ارتكاب جرائم حقوق الإنسان في المستقبل، وإعادة بناء علاقات بين الدولة والمواطن، وتعزيز السلام والديمقراطية وتحسينهما، وتشجيع المصالحة الفردية والوطنية”.

تستند فلسفة العدالة الانتقالية بهذه المعاني سالفة الذكر إلى تصور سياسي قوي لمفهوم الحق، وإلى تصور حقوقي كوني لمفهوم العدالة، وإلى تصور فلسفي حداثي لمفهوم الإنسان. وهذه التصورات مجتمعة ومتكاملة، تنمي استراتيجيات مؤسساتية قوية من أجل مواجهة كل أنواع الماضي السياسي العنيف أو المسلح، انطلاقا من فرضية أساس تعتقد أن السير نحو المستقبل يقتضي تصفية شاملة ونهائية لكل نزاعات الماضي التي لم تتم تسويتها بعد بالطرق السلمية أو الديمقراطية.

في هذا السياق الدقيق، يحيل مفهوم العدالة الانتقالية إلى سياسات واستراتيجيات دولية ووطنية، رغم أن لكل حالة وضعها الخاص، وفي غياب واضح لنماذج موحدة حول كيفية مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان الماضية.

ومع ذلك، توجد مبررات وعوامل عالمية قوية لمواجهة كل أشكال الماضي السياسي العنيف من هذا المنظور، أهمها:

1. تقوية الديمقراطية: “إن الديمقراطية لا يمكن أن تقوم على أساس أكاذيب (…) ويتم ذلك بشكل كبير من خلال إرساء المحاسبة مثل مكافحة الإفلات من العقاب، ومن خلال بناء ثقافة ديمقراطية”.

2. الواجب الأخلاقي في مواجهة الماضي: “إن نسيان الضحايا والناجين من الفظائع يعتبر شكلا من أشكال إعادة الإحساس بالظلم والإهانة”.

3. من المستحيل تجاهل الماضي: فهو دائما يطفو على السطح؛ لذلك من الأفضل إظهاره بطريقة بناءة وشافية.

4. “لنمنع ذلك في المستقبل. طبقا لهذا المبرر، نرى أن مواجهة الماضي تخلق نوعا من الردع (….) للحيلولة دون ارتكاب أعمال شنيعة في المستقبل”.

بقراءة وتأمل هذه الأرضية الفلسفية والسياسية والحقوقية القوية التي تسند مفهوم العدالة الانتقالية وتمنحه شرعية دولية متزايدة، نلاحظ ما يلي:

أولا: ليست العدالة الانتقالية مجرد ملفات للانتهاكات جاهزة لتصفيتها حقوقيا أو قضائيا بعجالة، بمعنى آخر لا يتعلق الأمر بتسويات سريعة ومغلقة لملفات آنية وطارئة.

إن العدالة الانتقالية ليست مطلبا قضائيا عاديا اكتسب صبغة دولية، وليست مجموعة مطالب حقوقية، بل مجموعة من المقتضيات المعقدة التي يتكامل فيها المطلب القضائي بالتشريعي والسياسي والحقوقي والإنساني.

ثانيا: يتجاوز مفهوم العدالة الانتقالية حيزه الحقوقي كجبر للضرر أو تعويض مادي للضحايا. إنه يتحول إلى شرط دولي لإنجاح كل مشاريع التنمية البشرية وحيازتها لدعم أممي.

هذا ما تثبته وثيقة أممية خاصة بمفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، جاء في تصديرها ما يلي: “لا سبيل لنا للتمتع بالتنمية بدون الأمن، ولا بالأمن بدون التنمية، ولن نتمتع بأي منهما بدون احترام حقوق الإنسان”.

ثالثا: في السنوات الأخيرة بشكل خاص، أصبحت قضايا إقرار العدالة الانتقالية ذات العلاقة بملفات العنف السياسي (الاختطاف التعذيب، الاختفاء القسري….) شأنا دوليا على نطاق واسع ومتزايد ويتجاوز السياسات المحلية الخاصة بكل دولة على حدة. وهناك اليوم حضور واسع وقوي للمنظمات الأممية والحكومية وغير الحكومية في تدبير السياسات الوطنية في هذا الموضوع.

رابعا: انطلاقا من فلسفة العدالة الانتقالية، يتضح أن هناك معايير دولية ضاغطة في إنجاز التحديث السياسي أو الانتقال الديمقراطي عبر نافذة المقتضيات الأساس لهذه الأخيرة، غير أن الخبراء الدوليين في هذا النوع من الملفات المرتبطة بقضايا العدالة الانتقالية، يعتقدون بأنه ليس هناك وصفة وحيدة رغم وحدة المعايير وكونيتها: “من شأن تطبيق المجموعة نفسها من القواعد على تجارب مختلفة جذريا أن يفقد خيار إدماج مزيد من التجارب والمفاهيم المحلية”.

إن الحركة الدولية لحقوق الإنسان هي ثمرة لزمان ومكان معينين، كما أن الحركة الأوروبية لما بعد عصر التنوير التي تمثلها قد تتخلى عن الثقافات غير الأوروبية، ولاسيما عندما تحاول فرض معايير على الديمقراطيات الناشئة التي لا توجد في الغرب الحديث.

خامسا: تعتبر حركة العدالة الانتقالية عبر العالم اليوم إدانة دولية قوية ومناهضة عالمية واسعة النطاق لكل أشكال الماضي العتيق الذي انبنى على الاستعمار أو الحروب الأهلية، أو انتهاك حقوق الإنسان في الحياة والحرية والعدالة، أو العنف السياسي بأنواعه المختلفة. وهذا يعني بوضوح أنه:

“بعد آلاف من السنين من إفلات الإنسان من العقاب على لا إنسانيته تجاه أخيه الإنسان، أصبح من المعلن بصورة مشتركة في أنحاء العالم أن جرائم الحرب وغيرها من الانتهاكات الواسعة والمنتظمة لحقوق الإنسان، ما عاد يمكن تجاهلها ببساطة عند انتهاء الحرب –أو النزاعات”.

ورغم أن أصول حركة العدالة الانتقالية على الصعيد العالمي تعود إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، بعد القضاء على النازية وبداية سلسلة محاكمات نورمبرغ، فإن الظهور الدولي الحقيقي لهذه الحركة الحقوقية لم يبدأ إلا منذ سبعينيات القرن العشرين، إثر إقرار محاكم حقوق الإنسان في اليونان وبروز لجان تقصي الحقائق في جنوب أمريكا اللاتينية، خاصة في الأرجنتين سنة 1983 والشيلي سنة 1990.

وقد تعززت وتقوت هذه الحركة الدولية بإنشاء جنوب إفريقيا للجنة الحقيقة والمصالحة سنة 1995، وقامت أيضا محكمتان جنائيتان دوليتان في كل من يوغوسلافيا ورواندا، للنظر في الجرائم والفظائع المرتبطة بتحقيق العدالة الانتقالية في ضوء القانون الدولي.

كما ازدهرت هذه الحركة الدولية على نطاق واسع بإقرار وتأسيس كثير مما سمي بلجان الحقيقة عبر العالم، إضافة إلى إحداث المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 17 يوليوز بموجب اتفاقية روما، التي دخلت حيز التطبيق بتاريخ فاتح يوليوز 2002.

يعتقد خبير دولي في ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أن هناك خمسة عوامل تفسر الاهتمام المتزايد بإقرار العدالة الانتقالية على الصعيد العالمي:

1. تغير طبيعة وسائط الإعلام الإخبارية في أنحاء العالم. ففي الوقت الذي يكون من المرجح فيه أن نشاهد الفظائع التي ترتكب في مكان ما وتنقل إلى كافة أنحاء العالم، يكون منتظرا من حكومة ذلك البلد أن ترد بصورة ما.

2. إن النمو في حجم وتأثير دوائر حقوق الإنسان بصفة خاصة، وقطاع المنظمات غير الحكومية بوجه عام، قد أنشأ ضغطا جديدا من أجل مواجهة مسألتي العدالة والمساءلة. ولم تعد الحكومات تستطيع بسهولة حجب هذه المسائل عن النقاش أو تجاهل الانتهاكات التي وقعت في الماضي.

3. أصبح القانون الدولي واضحا بصورة متزايدة في أنه، على الأقل في ما يتعلق بجريمة إبادة الأجناس وجرائم الحرب، والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية والتعذيب، يحظر إصدار عفو شامل، وأن الحكومات يقع عليها التزام قاطع بالتحقيق في هذه الجرائم ومقاضاة مرتكبيها.

4. تغير طبيعة معظم الحروب. فبحلول نهاية القرن، كان ما لا يقل عن 93 في المائة من الصراعات العنيفة الرئيسية في أنحاء العالم لا يدور بين الدول، وإنما داخل الدول. وبما أن أطراف هذه الصراعات التي تدور داخل الدول عليها أن تعيش معا، فإنه يصبح من الضروري إقرار شكل من أشكال العدالة.

5. هذه الزيادة في تواتر الصراعات داخل الدول قد واكبها توسع ملحوظ في الاستهداف النشط للمدنيين، وهذا ما أثار بدوره اهتماما واسعا بإقرار العدالة في حالات ما بعد انتهاء الصراعات كوسيلة للمعاقبة على هذا السلوك.

إن أحد الأهداف الإستراتيجية للعدالة الانتقالية بالنظر إلى فلسفتها الخاصة هو السعي إلى عدم تكرار الفظائع والانتهاكات التي تتم محاسبة ومساءلة المسؤولين عنها.

ومما لا شك فيه اليوم أن تثبيت العدالة الانتقالية على أرض الواقع لن ينجح في نهاية المطاف إلا عندما يسهم في الحد من ارتكاب الفظائع بصورة فعلية، لكي يعفينا من الاحتياج بعد ذلك إلى بذل جهود أخرى لإقرار العدالة في حالات ما بعد انتهاء الصراعات.

‫تعليقات الزوار

1
  • massinissa
    الخميس 28 مارس 2019 - 13:51

    لماذا يطبق هذا المفهوم على دول دون الأخرى؟ هل فعلا المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية تؤمن بهذا الحل ،خاصة في البلدان الاسلامية؟
    أنا أرى أنه ، في الحقيقة ،في الجزائر ، في غياب حل آخر ، تبقى الديمقراطية هي أحسن حل، لكن لانجاحها يمكن أن يمر ذلك بدون هذا المفهوم ، أي يجب تقديم تنازلات من طرف الشعب والسلطة الحاكمة.لتسهيل اقامة جمهورية ثانية .مع امكانية العودة الى مرجعيتي ،أول نوفمبر ،ومؤتمر الصومام ،اضافة الى فتح ملفات اتفاقية ايفيان وملف الأزمة البربرية.وارساء مصالحتين حقيقيتين ألا وهما :المصالحة مع التاريخ ، والمصالحة مع الشعب وحريته في تقرير مصيره.

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 9

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء

صوت وصورة
“أش كاين” تغني للأولمبيين
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:52 1

“أش كاين” تغني للأولمبيين