بعيدا عن البحر

بعيدا عن البحر
السبت 19 غشت 2017 - 17:02

أستغرب كثيرا لما يدعوني للكتابة والبوح، فقد ولى منذ سنوات ذاك الزمن الذهبي الذي كان فيه الناس يقرؤون بشغف القصص والحكايات. هل هذه قصة؟ هل هي شهادة؟ هل هي نص أدبي؟ لا يهم ! إنها باختصار كلام من القلب. فلأكتب الآن ولأدع الكلمات تمزق الصمت وتترك لها ذاكرة في الزمن مثل آثار لأقدام إنسان بدائي في إحدى كهوف إفريقيا.

ولدت عام 1971 في مدينة تبعد عن البحر بـ333 كلم، وأمضيت فيها أزيد من 11 سنة. وحكمت ظروف عمل والدي أطال الله في عمره أن ننتقل في مستهل عيد ميلادي الثاني عشر إلى مدينة ترقص ليلا ونهارا على إيقاع البحر وعبيره الفواح وأنغامه الساحرة. كان البحر ولازال رغم أني بعيد عنه لحظة كتابة هذه السطور جزءا لا يتجزأ من حياتي وطقوسي اليومية. كنت أستمتع بمشهد البحر المعانق للأفق من سطح البيت، وكنت في سنوات مراهقتي شديد الحزن بسبب وبلا سبب، وكان البحر وعاء وحاضنا لنوستالجيا المراهق الذي كنته آنذاك.

وعندما أكملت السادسة عشرة من عمري قلت لأبي ونحن جالسان في مقهى ميرامار المطل على الأطلسي:

– أبي، أنا وحيد في هذا العالم. أريد أن أتزوج…

وقهقه والدي حتى دمعت عيناه وقال لي مازحا ولكن بكثير من التعاطف والندية:

– لقد نضجت مبكرا يا بني. مشروعك نبيل وفكرتك ممتازة. انتظر حتى تكمل الثامنة عشرة، السن القانوني للزواج، وسأبحث لك عن زوجة جميلة وأسكنكما معي في بيت واحد…

وكان رد فعلي أن قهقهت بدوري لجوابه الطريف الذي لم يخطر يوما على بالي…

ومرت 11 سنة أخرى ووجدتني أعمل وأنا في مستهل السابعة والعشرين في المبيعات على ظهر سفينة “بلادي” المتنقلة ذهابا وإيابا بين طنجة وسيت، في أقصى جنوب فرنسا. وكنت في منتصف كل ليلة أصعد إلى الطابق العاشر للسفينة وأطيل النظر إلى البحر الهائج “المصطفقة” أمواجه في سكون الليل. كنت أكتب على الأمواج أسراري وهواجسي وأحلامي. ما معنى مقامي في فرنسا وقد نلت دبلوم الدكتوراه وآن لي ربما أن أعود إلى الوطن؟ هل أصبحت مثل سفينة بلادي متنقل الوجدان بين ضفتي المتوسط دون أدنى إحساس بالانتماء؟ هل هذه السفينة التي اشتغلت بها 3 أسابيع كاملة رائحا غاديا بين المغرب وفرنسا…هي حياتي اللامستقرة منذ أن غادرت مسقط رأسي في الثانية عشرة وسكنت في مدن كثيرة بحكم تنقلات أسرتي ومساري الدراسي والمهني الحافل بالتحولات؟.

البحر في عمقه وصخبه اللامنتهي…مرآة لذاتي المشردة… مستودع للأسرار… مساحة من الحلم في صحراء الحياة…

ما في الفؤاد والخيال الجامح إلا البحر…

وأعود بذاكرتي إلى خريف 2015، وإلى أحاديثي الدسمة مع رفيق ونحن في مقهى روج إي نوار المطل بدوره على البحر:

– كلنا نحب الوطن آ سي عاطف، ولكن… (وتنهد من قلب متألم مكلوم)

– ولكن ماذا يا عزيزي؟

– أنا أؤمن بفكرة الإنسان الكوني. إني مواطن عالمي وأحلم رغم أني أقترب من الخمسين أن أهاجر إلى الضفة الأخرى للأطلسي، إلى كندا. أريد أن أبحر إلى كندا وأتخلص من حياتي المقرفة هنا. كثير من البلدان تمضي قدما في مسار التنمية والإصلاح وبلدنا يسقط يوما بعد يوم في مهاوي التخلف…أنت أستاذ نجيب وطموح وأنا مثلك أعشق العلم والتعليم…ولكن ما الذي قدمه هذا البلد للعلم والمعرفة؟ لا شيء…إننا نعيش في نظام أخلاقي واجتماعي واقتصادي أصبحت قيمه الرئيسة المال والفساد والزبونية. إن نهاية هذا الثالوث تساوي انهيار الدولة. هل هناك أمل أن يتغير شيء في هذا المستنقع الآسن؟.

كان كلام رفيق قويا، صادقا وصادما إلى أقصى حد. نحن نعيش في بلد غارق في الجهل، وثمة عدد هائل من المواطنين فقدوا الأمل والقدرة على الحلم…

إني أستغرب كثيرا لما يدعوني إلى الكتابة والاعتراف، لكني أحلم بدوري أن أسافر بعيدا، أن أبحر إلى عالم جديد، أن أعيش قلبا وقالبا مفهوم المواطن العالمي المنتمي إلى ما أؤمن به من عظيم القيم.

هل هذا مجرد حلم؟ هل يصبح الحلم جزءا من الواقع؟

هناك حياة…هناك أمل…

بعيدا عن هنا…بعيدا عن البحر…

‫تعليقات الزوار

6
  • الجوهري
    السبت 19 غشت 2017 - 20:50

    أن يحلم الإنسان ليس عيبا بشرط ألا يتجاهل الواقع فقد حكى لي صديق نكثة جميلة بطلها كلب هولندي بعد ما زاره صديقه الكلب المغربي عزمه لزيارة المغرب
    فقبل وركب الباخرة وجاء عند صديقه المغربي لكنه تفاجئ كلما مر أمام مواطن مغربي نهره أو ضربه طيلة مدة العطلة وهو يودع صديقه للعودة قال له لأول مرة في حياتي أشعر أنني كلب وشكرا

  • متفاءلة
    السبت 19 غشت 2017 - 22:17

    قصة جميلة… لكن فيها الكثير من التشاؤم. ما نحتاجه اليوم هو التفاؤل لكي نقدر على تتمت المشوار …مع كل الاحترام و التقدير

  • البحر عدوي !
    الأحد 20 غشت 2017 - 01:54

    بعيدا عن البحر أظل ملكه ، أو شيأ كان منه وقذف به و هو منقلب إليه ذات يوم

    و إليه راجع ، البحر عدوي، للبر أشكوه و لا يصيخ السمع لكأن ذكرى الطوفان

    لم تزل تعظه فيرد شكواي و يتنصل ، مثلك ايها الكاتب ولدت بعيدا عن جواره

    بمكان موزع بين زمهرير سفوح جبال الأطلس شتاءً و وعيد الصحاري صيفا وهي تتنفس

    مثلك ايها الكاتب الأديب أو أكثر كانت السفن دياري و قد خبرت مرات مشيتها

    على الماء كالمسيح رويدا ثارة و حذرا اخرى ، و كيف يتحد موج البحر بسدول

    الليل فلا تكاد تميز ايهما البحر و ايهما الليل بقلب اليم ؟ ستون شهرا مرت على

    آخر إبحار ، آخر إركاب ، آخر إنزال و لم يزل يقيني يحدثني أن لحظاتي ها هنا ما هي

    إلا نصيبي من راحة البحار و حقه ، و أني بعد حين سأعود لإبحار في رحلة

    أخرى، ستون شهرا و أنا أواسيني بصوت فيروز وهي تغني " سافرت البحار

    لم تأخذ السفينة" و ازعم أن البحر عدوي !.

    تحياتي من مراكش – دليل العنفوان –

  • pidro
    الإثنين 21 غشت 2017 - 00:04

    استنفذنا شروط الاقامة هاهنا كالقطة والعجوز هذه المرة المذكورتين في الحديث فلا هي اطعمتها و لا هي تركتها ترحل

  • سحر العربية
    الإثنين 21 غشت 2017 - 06:00

    قريبا من البحر:

    البحر مصب كل الأنهار والسواقي فكلها تنتهي إلى البحر لذلك اسْتودِع كل أسرار الترسبات منذ غابر الزمن، وكم حضارة أطمرها البحر وكم هي القصص التي يرويها البحر لبحارة خبروا أهواله وهدوءه وشهدوا حروبه منذ رحلات البطل الأسطوري "سندباد" فقيل "أما ترى البحر يعلو فوقه جيف وتستقر أقصى قعره الدرر"وقيل أيضا " البحر أورى بني الدنيا وأغرقهم.. فهم رواء وغرقي في سواحله."

    البحر أيضا طبيب للنفس تذهب إليه ممزقا في دواخلك وتعود منه وقد عاد إليك هدوئك و شيء من ذاتك التي تضيع في يم الجري وراء الرغيف وكل الأحزان والذكريات والطموحات والآمال تحضر في لحظات تأمل البحر في هدوئه وصخبه موجه وهيجانه فهو المرآة التي ترى فيها نفسك بكل وضوح ودون مجاملة. " وفي هذه الحالة قاصده مفقود والعائد منه مولود" وما يدعو إلى التأمل أكثر أن صوت تلاطم موجه لا يهدأ حتى في سكونه وهدوئه. و"وحده البحر يسمع أنين الحيتان في المحيطات"

    تحياتي إلى د.العنفوان

  • المريبطي محمد
    الأحد 14 يوليوز 2019 - 15:54

    جميلة فكرة الانسان الكوني.
    عن طريق الكتابة أنت كذلك. لعلك تحاورت و بكيت و فرحت مع كتاب من أزمنة و أمكنة بعيييييدة. اكتب أنت كذلك و لا تأبه لمن تكتب. سيأتي يوما سيحتاج أحد ما في مكان أو زمان ما كتاباتك. لا تكترث.
    سافر عبر الكتابة و انحت أجمل و أجمل. كن في كل مكان و زمان.
    للابداع متعة لا يحسها الا المبدعون. و لا تكترث للألم فهو طبيعي و ضروري و أنت تعرف يا صديقي أنه للخروج من "La zone du confort" لا بد من الألم.
    لكنه ألم جميل.
    الكتابة وشم و ليكون الوشم قويا و جميلا لا بد من الألم.
    الكتابة سفر و ابحار.
    نحو بحور أخرى.
    من أعماق أغوارك النقية استمر عصفنا بكلمتاك.
    لملمنا.
    و ارحل أينما شئت داخلك.
    مع حبي و احترامي

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة