نحو مراجعة إستراتيجية للفكر القومي العربي

نحو مراجعة إستراتيجية للفكر القومي العربي
الإثنين 25 شتنبر 2017 - 14:10

من كردستان في العراق إلى كاتالونيا في إسبانيا وإسكتلندا وإيرلندا في المملكة البريطانية وقبلها الصرب والبوسنة والتشيك والسلوفاك، وعشرات الحركات القومية على مستوى العالم تطالب بحقها في إقامة دولتها القومية الخاصة بها، بعضها أقام دولته القومية وأخرى تناضل لتحقيق تلك الغاية.

لا شك في أن لكل حالة من هذه الحالات خصوصيتها التاريخية وإشكالاتها السياسية، وخصوصا مع الدول التي تحتضنها، وحتى إشكالات قانونية دولية فيما يخص مفهوم حق تقرير المصير القومي ومدى تطبيقه إذا ما أخل بسيادة الدولة الأم واستقرارها وحدودها المعترف بها دوليا، ولكن المهم هو أن العالم يشهد موجة جديدة من النهوض القومي.

أسباب كثيرة تفسر ظهور النزعات القومية؛ منها: فشل العولمة الثقافية، انهيار إمبراطوريات أو دول اتحادية، أزمة الدولة وغياب الديمقراطية التي تؤسَس على المواطنة التي تساوي بين جميع ساكنة الدولة دون تمييز على أساس ديني أو إثني أو جهوي، وتدخلات دول الجوار بإثارة النزعات الإثنية /القومية لتحقيق مصالح خاصة بها إلخ..

العرب وحدهم من بين كل شعوب الأرض الذين لم يتمكنوا من تحقيق دولتهم القومية ليس هذا فحسب بل إن الفكر القومي العربي في حالة تراجع وانحسار، مع أن العرب يتوفرون على كل خصائص وسمات الأمة من لغة مشتركة وتاريخ وعادات مشتركة وتواصلهم الجغرافي . في منطقة الشرق الأوسط – ومسمى الشرق الأوسط بحد ذاته مسمى غربي هدفه تغيير مسمى العالم العربي وإسقاط هويته العربية – يوجد مشروع إيراني فارسي ومشروع تركي عثماني ومشروع إسرائيلي صهيوني ومشروع قومي كردي ومشاريع إسلاموية ولا يوجد مشروع قومي عربي.

كل هذه المشاريع معادية للمشروع القومي العربي فكرا وممارسة، بل إنها تنهض وتتوسع على حساب أراضي الأمة العربية، ليس هذا فحسب، بل إن الدولة القطرية أو الوطنية التي كان يُراهن عليها كنقطة انطلاق نحو الدولة القومية الشاملة تتعرض للتفكيك والعودة إلى مرحلة ما قبل الدولة، ولم يكن عبثا إسقاط نظام صدام حسين واحتلال العراق، استهداف معمر القذافي وقتله بغارة أطلسية، وتخريب وإضعاف الدولة السورية، ومحاولة خلق فتنة في مصر العربية.

إن كان لا يمكن إسقاط نظرية المؤامرة كأداة تفسير لِما أصاب ويُصيب الأمة العربية من ويلات إلا أنه يجب الحذر من اختزال وتفسير ما يجري بفكر المؤامرة، لأن ذلك سيخفي حقيقة الخلل الذاتي في الفكر القومي من حيث التكوين الأول والخلل في الأدوات التنفيذية لهذا الفكر، ونقصد هنا الحركات والأحزاب التي رفعت رايته ونصَّبت نفسها ناطقة باسمه، كحزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب والحركة الناصرية.

فمن حيث التكوين فقد ظهر الفكر القومي العربي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر عندما كان العرب جزءا من دولة الخلافة العثمانية وذلك من خلال بعض الحركات القومية العربية الصغيرة كجمعية بيروت السرية وحزب العهد والعربية الفتاة، حتى (الثورة العربية الكبرى) بقيادة الشريف حسين وابنه فيصل 1915 يمكن نسبتها للحركة القومية العربية.

هذا الظهور المتأخر عن ظهور الفكر القومي في أوروبا بحوالي قرنين من الزمن يعود لأن العرب كانوا جزءا من الخلافة الإسلامية وبالتالي جزءا من مشروع إسلامي يحكمه خليفة غير عربي، ولم يبزغ الفكر القومي ويتجرأ العرب على الحديث عنه وتجسيده بحركات سياسية إلا بعد أن ظهرت النزعة التركية الطورانية وتجرأ قوميون ليبراليون أتراك على تحدي الخلافة العثمانية وتأسيس حركات قومية تركية كتركيا الفتاة وحزب الاتحاد والترقي ثم ظهور مصطفى كمال اتاتورك (1881-1939) مؤسس تركيا الحديثة.

ما بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وتحرر العرب من الحكم العثماني أصبح العرب أكثر جراءة في التعبير عن نوازعهم القومية وتجسد ذلك بالحكم الفيصلي في سوريا (1918-1920) الذي تم إسقاطه من قِبل الجيش الفرنسي في موقعة ميسلون، وبعده ظهر حزب البعث العربي الاشتراكي وبقية الحركات ذات التوجهات القومية العربية، إلا أن هذه الحركات كانت تصطدم بواقع التجزئة من جانب وبممانعة غربية قوية لأية محاولة لتوحيد العرب في دولة واحدة من جانب آخر.

بالإضافة إلى ملابسات التأسيس والمعيقات والتحديات الخارجية، فإن أوجه خلل بنيوية وفكرية لعبت دورا أساسيا في تعثر الفكر القومي العربي الوحدوي وفي عدم تحقيقه للدولة القومية العربية كما جرى مع الفكر القومي في أوروبا، ويمكن تلخيص أوجه الخلل مقارنة بما جرى في أوروبا ودول أخرى بما يلي:

1- الفكر القومي والدولة القومية في أوروبا ظهرا بعد الثورة الدينية والفصل بين الدين والدولة بحيث كانت الدولة قومية وعلمانية في الوقت نفسه، وهذا ما لم يحدث في العالم العربي حيث لم يتم الحسم في علاقة الدين بالدولة؛

2- الدولة القومية في أوروبا لم تواجه بتحديات خارجية كالاستعمار، بينما العوامل الخارجية كانت معيقة للفكر القومي العربي وللوحدة العربية؛

3- ظهر الفكر القومي والدولة القومية في أوروبا في ظل عصر النهضة والتنوير وتزامنا مع الثورة الصناعية، أما في العالم العربي فإن الفكر القومي ظهر في ظل مجتمع عربي متخلف اقتصاديا وثقافيا؛

4- الدولة القومية في أوروبا بصورة عامة كانت دولة ديمقراطية تحترم الخصوصيات الثقافية للقوميات الأخرى وتحترم حقوق الإنسان داخل حدودها، وكانت دولة كل مواطنيها وليس دولة قومية بعينها، باستثناء المرحلة الأولى لقيام الدولة، بينما في العالم العربي فإن الفكر القومي كان أقرب للشوفينية والانغلاق؛

5- جرت أدلجة الفكرة القومية العربية ومصادرتها من لدن أحزاب متعارضة ومتصارعة فيما بينها، كما أن الأنظمة التي حملت راية القومية كانت أنظمة غير ديمقراطية وعسكرية؛

6- الفكر القومي في أوروبا تغلغل إلى الثقافة الشعبية، أما في العالم العربي فكان فكر نخب؛

7- تأسست فكرة الوحدة القومية، سواء داخل الدولة الواحدة أو بين الدول. كما جرى مع الاتحاد الأوروبي على المصلحة العامة، بينما في العالم العربي كان الفكر الوحدوي ومساعي توحيد الأمة يتسم بالمثالية والعاطفة، وفي بعض الحالات كانا أداة لخدمة مصالح أنظمة الحكم وليس لتحقيق مصلحة مشتركة للأمة.

وملخص القول، لا شك في أن كثيرا من العقبات والتحديات تواجه إحياء الفكرة القومية العربية بحيث سيبدو من يرفعها أو يطالب بالوحدة العربية كمن يسبح عكس التيار أو أنه رومانسي حالم، إلا أن هناك ضرورة ملحة ومصلحة مشتركة لكل العرب ليستعيدوا مكانتهم كأمة وكمشروع قومي وحدوي، والمدخل لذلك هو إعادة بناء الدولة الوطنية على أسس ديمقراطية حضارية، والانطلاق منها نحو الوحدة العربية، وما يجري في سوريا وفي مصر من استعادة الدولة الوطنية مكانتها وانتصارها على الطائفية والفوضى والجماعات المهدِدة لوحدتها يؤشر على بداية مرحلة جديدة؛ ولكن الأمر يحتاج إلى أن يستعيد المفكرون والمثقفون القوميون العرب ثقتهم بنفسهم ويعملوا على تجديد الفكر القومي بما يتناسب مع متطلبات العصر وخصوصا الديمقراطية وثقافة الاعتراف بالآخرين الذين يشاطرونهم العيش المشترك في الدولة .

[email protected]

‫تعليقات الزوار

8
  • ع الجوهري
    الإثنين 25 شتنبر 2017 - 14:46

    بمثل هؤلاء الحكام الأنانيين لن تتحقق القومية العربية ولو بعد ألف عام وأعتقد أن الدول الإسلامية وليس العربية مثل إيران وتركيا وماليزيا يمكن أن تخلق تكتل إسلامي أو قومية إسلامية بحكم نضجهم وتقارب اقتصاداتهم والتهديدات المحيطة بهم أما حكامنا الميامين فسيضلون عبيد للغرب إلى أن يبعث الله البشرية وشكرا

  • زينون الرواقي
    الإثنين 25 شتنبر 2017 - 15:09

    القوميات التي ذكرها الكاتب لم تسقط في مستنقع الخسة والتآمر لوأد رموزها الكبار كما برع العرب في ذلك قبل ما يزيد عن ستون سنة ، كنت أتمنى لو أفاض الكاتب في تسليط الضوء على حقبة الخمسينيات وسطوع نجم انطون سعادة بمشروعه القومي الذي جعله محط تآمر قوى الغرب قبل اشقائه العرب وإجلاء الغموض عن حقيقة الغدر الذي طاله من حسني الزعيم رئيس سوريا يومها الذي استضافه بإيعاز من بن غوريون قبل تسليمه لاعدائه في لبنان من حزب الكتائب ليرحل من سوريا يوم استضافته ويعدم في ذات اليوم ببيروت تمهيدا لتخصيب تربة الماسوني ميشيل عفلق الذي هيأته القوى الإمبريالية في باريس .. نعم العرب سبقوا الى تبني الفكر القومي لكنهم سبقوا أيضا الى وأد أنبياء القومية في شكلها الجنيني …

  • Hassan
    الإثنين 25 شتنبر 2017 - 16:13

    الله يهديك اسي ابراش اشمن قومية بقات, وزير سوداني يطالب بالتطبيع, ملك البحرين كدلك, امريكا لعبت بنا و على تناقضاتنا و كسرت الفكر القومي ببني جلدتنا

  • ايت واعش
    الإثنين 25 شتنبر 2017 - 17:19

    اذا كان الكاتب يقصد بالوطن العربي شمال افريقيا وكوردستان فهو واهم واضن ان اطروحة البعث اوصلت بلادا كثيرة للخراب .واضن ان الاستاد يعرف جيدا شمال افريقيا بانها مستعربة قسرا وفرضت العربية ضمن خطة حزب الاستقلال وما يسمى حركة وطنية ابان تلاتينات القرن الماضي اتفق مع الاستاذ بودهان بقوله ان ثلة من الامازيغ تنكرت لهويتها الاصلية وتحولت بشكل غريب للبحت عن هوية جديدة .

  • almohandis
    الإثنين 25 شتنبر 2017 - 20:51

    من اهم إيجابيات العصر الحديث سرعة الولوج الى المعلومة اذا كان أجدادنا في القديم يقطعون مسافات و شهور لنسخ كتاب بخطهم حين لم تكن هناك مطبعات حجرية و لا رقمية فأن غوغل اليوم بمجرد ان تطرح عليه سؤالا يعطيك جوابا في الحين من أمهات المراجع العلمية
    القوميات الاروبية و لغاتها وضع لبناتها الاولى المسيحيون المتعصبون اول ما يصادف من يقرأ تاريخ نشوء اللغات القومية في الغرب كتاب Gramática de la lengua castellana اول كتاب وضع في قواعد اللغة الاسبانية سنة 1492 و اول لغة قومية في اروبا و من اهتم بهذا الامر ؟ انهم المتعصبون المسيحيون الكاثوليك الذين اخترعوا محاكم التفتيش و هم اول من قضى على حكم النبلاء قل الشرفاء و معهم بدأت النهضة الغربية و اول من وضع معجم الألمانية هو القسيس مارتن و اول من وضع معجم الفلامنية البلجيكية هو قسيس
    فادعاء ان انعدام العلمانية في العالم العربي الهلامي هو سبب تخلفها هو محض افتراء
    مشروع العروبة لم ينجح لانه غير طبيعي لانه يقصي شعوب لها تاريخ عريق مثل الامازيغ و يقضي على ثقافتها و ماضيها و ذاكرتها الجماعية مشروع جهنمي

  • KANT KHWANJI
    الثلاثاء 26 شتنبر 2017 - 20:10

    أعتقد أنه من الأجدر تحديد مفاهيم العالم العربي أو الأمة العربية أو الوطن العربي، قبل الحديث عن الوعي القومي العربي!
    فأين الحدود التاريخية/الجغرافية لهذا الوطن/العالم العربي؟
    كيف لنا أن ندعو إلى بناء قومية خاصة بنا -عربية – على حساب قوميات أخرى في حين نتهمها ب"إثارة النزعات الإثنية /القومية"؟
    هل يحق لنا أن نحلل ما نحرمه على غيرنا؟
    إن القومية العربية تحمل داخلها جينا ميمتا لها ألا وهوه بناء هذه القومية الشوفنية على انقاض قوميات أخرى!
    إسقاط الشرقيين لمفاهيم الأقليات على شمال أفريقيا خطأ بدائي، فشمال أفريقيا أمازيغية بأغلبية كاسحة(تاريخيا،جغرافيا، جينيا، طوبونميا، ديموغرفيا)، ولا يمكن أبدا مقارنتهم بأقليات مثل الدروز أو السامريون أو الازيديون! وهذا الإسقاط، يكرره حتى القوميون العروبيون المغاربة و اتباع الشرقيين !
    ليس هناك تجانس في يسمى بالعالم العربي، وليس هنا تاريخ مشترك وألا ابطال تاريخيون مشتكون وليست هناك لغة عالمة مشتركة(بل العربية – لن تكون أبدا لغة علم- مفروضة بجرة قلم شوفيني إستبدادي)، بل حتى الأديان، متعددة و تقمع كلها – بل تجرم- لصالح دين العرب!
    KK

  • مغربى
    الأربعاء 27 شتنبر 2017 - 00:23

    و لا زال بعض الناس يحملون افكار قومية على الرغم من استحالة تطبيقها على الواقع سواء بالشرق او الغرب لانها ضد الصيرورة والطبيعة البشرية ,الحاضر والمستقبل بحاجة الى رجال عقلانيون يعلمون ان القوميات مهما تقنعت باقنعة مختلفة فهي فى النهاية مشاريع خراب

  • مغربى
    الأربعاء 27 شتنبر 2017 - 00:52

    ا لعاطفة مكانها بين الرجل وزوجته وابنائه وعائلته , اما مصير الشعوب وتنوير طريقها نحو الرقي واتقدم فتدبيره يتم بالعقل ولامكان فيه للعواطف

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 5

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 5

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال