تحدّي إصلاح العمل والجشع الرأسمالي

تحدّي إصلاح العمل والجشع الرأسمالي
الأحد 15 أكتوبر 2017 - 11:00

فرض منطق الربح والمنافسة الاقتصادية على الشركات العالمية طلب المزيد من تحرير السوق أمامها لتسهيل استثماراتها وتشجيعها. وقد غدا شعار هذه الأخيرة: المزيد من المرونة من طرف الدولة لصالح الشركات المستثمرة. في مقابل ذلك، أصبح شعار الدولة المعاصرة: “إنّنا بحاجة إلى المزيد من رؤوس الأموال لخلق الثروة ومحاربة البطالة”.

هكذا، تحوّل شعار التنمية للجميع ليصبح مختزلا في ضرورة البحث عن التوافقات حول قوانين العمالة وفسح المزيد من المجال أمام الشركات لكي تقرّر ما يخدم أرباحها ويشجّع استثماراتها. وبناءا على ذلك، أصبح مطلوبا من الدولة، من خلال مؤسّساتها السياسية والقانونية والتشريعية، القيام بالمزيد من الإصلاحات الاقتصادية لصالح أرباب العمل في شكل تعديل مدوّنات الشغل، أو التوجّه نحو تشريع المزيد من القوانين الخادمة لأصحاب المقاولات لتشجيعهم على الاستثمار.

لكن ذلك ما كان ليتمّ دون أن تتضرّر مصالح العمال الكادحين وكذا الطبقة المتوسطّة. وقد أظهرت الوقائع الاقتصادية في أوروبا بتأثير من الأزمة المالية، أنّ مختلف الإجراءات الإصلاحية المتخذة لإنعاش الاقتصاد، كانت مؤلمة في غالبيتها للطبقات العاملة.

نعم، فقد مكّنت بعض الإصلاحات البنوك من رتق توازناتها المالية، كما ساعدت بعض الإجراءات الشركات المأزومة من معاودة تحقيق أرباح لا بأس بها، كما يدعو إلى ذلك التوجّه الليبرالي الجديد في الاقتصاد، حيث المزيد من النمو الاقتصادي يتوقّف على المزيد من المرونة في سوق العمل.

لقد قُدّم هذا الإجراء على أنّه عمل خلاّق ومفيد لتحقيق المزيد من النمو للاقتصاد العالمي، لكن في واقع الأمر، يعتبر ذلك حيلة من حيل الرأسمالية الجديدة للاستحواذ على مختلف منابع ثروات ومقدرات الشعوب، لصالح فئات من الأثرياء الذين لا يهمّهم المصير المشترك للموارد الطبيعية المستنزفة.

الظاهر أنّ الأغنياء الجدد في عالم اليوم لا يشعرون بالبطون الفارغة للعمال والكادحين والفقراء، لأنّ ما يهمهم هو المزيد من تحرير السوق، وتغيير القوانين المقيّدة لاستغلال العمال قصد إمكان تسريحهم عند الضرورة، ثمّ زيادة ساعات العمل وعدم التقيّد بالأعباء الاجتماعية والنقابية.

ينطلق منطق هؤلاء الأثرياء من القول بأنّ تخفيض الضرائب على الشركات يؤدّي إلى إضفاء المرونة على سوق الشغل ممّا يفضي إلى توفير فرص العمل. غير أنّ الوقائع تثبت أنّ الإجراءات المتخذة لتحفيز النمو وتشجيع الاستثمارات لم يسبق لها أن حدّت من الازدياد المضطرد للفقر، وبالأحرى إنهائه.

كشفت السياسات الاقتصادية المتبعة لتجاوز الأزمة المالية الخانقة (في اليونان، اسبانيا، إيطاليا) أنّها إجراءات إصلاحية تصبّ في مصلحة الشركات المالية وبصفة خاصة البنوك. ولقد بيّنت مختلف تلك الإجراءات المتخذة على الصعيد الأوروبي أنّ الأولوية، الآن، صارت للاقتصاد وليس للسياسة ممّا يعني التضحية بالوعود السياسية للفئات الهشّة والعمال.

إنّ تحوّلا من هذا النوع، قد انعكس بشكل كبير على دولة الرفاه الاجتماعي والتي تسمى عادة في فرنسا بالدولة الاجتماعية. فهل نَعُدّ هذا التحوّل تنازلا للسياسيين عن مبادئهم الأيديولوجية والديمقراطية لصالح أرباب العمل الجشعين؟

الواقع أنّ فرض تحرير الدولة ولجم تدخلاتها في الاقتصاد، قد نجم عنه تخلّيها التدريجي عن بعض من وظائفها الأساسية، وبصفة خاصّة فرض قانون العمل لصالح الشغيلة العاملة لدى الشركات وحماية الفئات الضعيفة عن طريق البرامج الاجتماعية. لكن الأغنياء الذين ألفوا المزيد من الاغتناء والبحث المستمر عن المزيد من النمو وتحقيق الأرباح؛ قد فرضوا، بحكم سلطانهم المالي، على الدولة الاجتماعية تقديم المزيد من التنازلات، كما هو عليه الحال في قانون الشغل الجديد في فرنسا الذي اشتهر في عهد فرانسوا هولاند بقانون “الخومري” (نسبة إلى الوزيرة مريم الخومري ذات الأصول اللبنانية).

أظهر النقاش حول إصلاح قانون الشغل، ذاك، في فرنسا الوضع المتأزّم للاقتصاد الجديد؛ كما كشف عن الجشع الرأسمالي الذي يهتمّ بتحقيق الربح وتراكم رأس المال دون غيره. وقد تبيّن أنّ إصلاحا اقتصاديا على حساب مكتسبات الطبقة العاملة الاجتماعية، لا يفضي سوى إلى الاحتقان وازدياد الفقر والهشاشة. فهل تخفيض الضرائب ورفع ساعات العمل يمثّل دوما الحل المثالي؟

لقد تمّ فرض المزيد من الضغط على نظام الرعاية الاجتماعية في أوروبا بموجب واقع حال فرضه منطق سوق العمل، فانعكس ذلك سلبا على أجور العمال وازداد فقرهم. وهكذا، أصبحت الليبرالية الجديدة تحالفا للأغنياء ضد الفقراء، بعدما كان تفاؤل نظارها من الاقتصاديين الجدد يصدّعون رؤوس الناس بتحقيق الليبرالية الجديدة للثروة والنمو للجميع.

ليس في ذلك ما يفاجئ المحلّل الناقد للعبة الكبار، حيث يكفي تأمل النموذج الرأسمالي عبر مراحله التاريخية لنفهم ماذا تريده الفئات الغنية من الدول لتحرّك لها عجلة النمو! فالظاهر أنّ حديث منظري الاقتصاد الليبرالي الجديد حول الإصلاح يسير في مجمله في اتجاه واحد: يجب على العُمّال أن يقدموا المزيد من التنازلات لصالح أرباب العمل حتى تسير عجلة نمو الاقتصاد.

تعتبر هذه الدعوى الواقعة السياسية والاقتصادية الجديدة التي تعمل النخب السياسية والاقتصادية النيوليبرالية المنبطحة لرجال الأعمال على تكريسها بتنفيذ مخطّطات إصلاحية لفائدة كبار الحيتان في بحر الاستغلال الرأسمالي للعمال.

لذلك، وفي ظلّ هذا الواقع المستجد، وجد الرئيس الفرنسي الحالي إمانويل ماكرون نفسه مجبرا على تنفيذ إصلاح قوانين الشغل لانقاد المقاولات الفرنسية من ضعف تنافسيتها، استجابة منه لدعوات نظّار هذا النمط الجديد من الاقتصاد. لذلك، ليس أمامه سوى التوقيع على المدوّنة جديدة للعمل التي تجعل الشغل في خدمة مصالح الأثرياء.

ذلك ما تفرضه الواقعية السياسية ليتعافى الاقتصاد المأزوم، لكن ثمن ذلك سيدفعه العامل البسيط. والواقع أنّها معادلة صعبة جاءت من كون المجتمعات التي لا تتمكن من الإنتاج المادي بتكلفة أقل، هي التي يخسر اقتصادها رهان المنافسة الاقتصادية العالمية. لذا، فأيّ إصلاح لا بد وأن يحصل على حساب الأنظمة الاجتماعية الرعوية التقليدية لدولة الرفاه مثل فرنسا، وواقعية السوق تفرض ذلك: التضحية بالمبادئ السياسية لدولة الرفاه لصالح تحقيق نمو اقتصادي أعلى يكون دوما في لصالح الأغنياء.

والمفارقة المسجلّة بصدد هذا الواقع الجديد، تكمن في كون الدول الرأسمالية قد سبق لها أن جرّبت التحرير الكامل للسوق لصالح وعود زائفة بالتقدم والنمو. لذلك، فالمُهدّد اليوم هو نموذج دولة الرفاه الذي طالما نظّرت له النظريات الاقتصادية الليبرالية وطبّلت له، وها هو اليوم قد صل إلى حدوده القصوى ولم يعد بإمكانه تقديم المزيد من الرفاه في ظلّ الجشع الرأسمالي المتواصل.

‫تعليقات الزوار

2
  • abdossalam
    الأحد 15 أكتوبر 2017 - 12:13

    قال ماركس : "هناك طريقة واحدة فقط لقتل الرأسمالية : الضرائب ، والضرائب، و المزيد من الضرائب". لو كانت ضريبة الثروة مفعّلة في الدول الرأسمالية لما وجد هذا الغنى الفاحش وبجواره الفقر الفادح. غير أنّ الاغنياء الماكرون جدّا يعملون جيّدا بمقولة ماركس الأخرى التي تقول بأنّ "أي فئة تطمح إلى الهيمنة يجب عليها أولا التمكن من السلطة السياسية لتمثل بدورها مصالحها الخاصة كأنها المصلحة العامة "، وتجدهم هم أنفسهم من يحكم الدول أو يتحكمون فيها.

  • ياسر
    الأحد 15 أكتوبر 2017 - 15:47

    انتهى المطاف بالراس مالية باكل دولة الرفاه في سبيل ارطاء وتغدية الجشع الخالص و الغرور ..وهما خصلتان يحاربهما الدين بالزكاة و التواضع فسبحان الله الخالق الدي انزل الكتاب رحمة للعالمين…في الاخير هي حرب قيم خير و شر
    مشكور يا استادي الكريم ..لقد كنت قد قمت ببحت حول اوروبا و البريكست كلفني به استادي انتهيت فيه الى ان اوروبا تعاني من انمحاء اقتصادي ..شكرا كدالك لهسبرس

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55

تقنين التنقل بالتطبيقات