أيُّ ضمانةٍ تَحفظُ ميراثَ المُجدّدين؟

أيُّ ضمانةٍ تَحفظُ ميراثَ المُجدّدين؟
الثلاثاء 17 أبريل 2018 - 08:30

عَــتَبَــةٌ

( حاولوا الإصلاح والتصحيح، ولكنهم عجزوا عن إيقاف ما يحدث.

كانوا يتلقون التكريم والتشريف ـ والأسوأ، التبجيل والتقديس ـ

ولكن لم يعد أحد يستمع إليهم.

وأخذ عدد الطيور التي تتدرب على الطيران يتناقص،

حتى رحل “التلامذة الأصليون” الواحد في أثر الآخر،

تاركين وراءهم أجسادا باردة. )

ـ رواية “النورس جوناثان لفنجستون” ـ

درس من التاريخ

يُخبرُنا التاريخ بسند مُتّصل غاية في الصّحّة والمتانة بأن كلّ الحركات التي كانت تهدف إلى النهوض بالأمة وتجديد أصولها، بدون استثناء، يكون عندها أمل ـ خاصة مع المؤسس والجيل الذي صحبه ـ يكون عندها رجاء للاستمرار في الزمان كفكرة ومعنى وإمكانية واقتراح. بل إن الكثير منهم أكدوا ـ بنوع من الثقة والوثوقية ـ بأن “مائدتهم لن تُرفع إلى قيام الساعة”. ولكن الحقائق التاريخية والواقع يثبتان بأن كل هذه المدارس ـ بلا استثناء أيضا ـ إما أزيحت من على الوجود، أو استمرت، ولكن مع تضييع ما عمل المؤسس على غرسه والعناية به. وكلا التجربتين تصبحان، مع مرور الزمن، درسا بليغا لمن يريد أن يستوعب سنة الله في التاريخ، ويتحرك بعد ذلك على ضوء شرائعها وقوانينها.

سؤالي: هل يمتلك أبناء المُجدّدين المعاصرين وتلامذتهم “ضمانات” بأنهم لن يسلكوا نفس هذه الطريق ؟

بمعنى، كيف يحافظون على ما عندهم من مَعانٍ تربوية، واجتهاد يُشبِّك بين التربية والفكر والحركة والسياسة في سلوك جهادي، ويستمر مع الأجيال القادمة ؟

كيف ينبغي أن يتعاملوا مع هذا “التهديد بالفناء” المعلق قريبا من رؤوسهم؟

ميراثٌ بمثابة عائق

قرأت مؤخرا عملا أدبيا رفيعا، هو عبارة عن رواية قصيرة للكاتب الأمريكي ريتشارد باخ موسومة بـ”النورس جوناثان لفنجستون”. وهي ـ كما قال ناشرها ـ عبارة عن حكاية تحاول أن ترسمَ صورةً “للذين يتبعون قلوبهم، ويصنعون قوانينَهم الخاصة، ويستمتعون بعمل الأشياء بدقة وأمانة حتى لو كانت لأنفسهم فقط، ويعرفون أن في هذه الحياة ما هو أغلى مما تراه أعيننا”.

تدافع الرواية عن معنًى مركّبٍ للحياة وللإنسان مفاده: كي ترى بعيدا عليك أن تحلق عاليا. وتنتقد بأسلوب أدبي أنيق وعميق، ومُتَحَيِّزٍ أيضا (وهذا مهم جدا)، تنتقدُ كيف تتحوَّلُ نصائحُ الشيوخ والمُربّين والمُرشدين ورسالاتهم، مع مرور الزمن، إلى مُجرد طقوس فارغة، بل إلى عقبات مانعة عن العمل والحركة والتقدم، فيصبح التلامذةُ مُتهمّمين ومنشغلين بالكشف عن مميزاتِ المُربّي وكراماتِه، وتأويلِ حركاته وإشاراته، والمحاربةِ في جميع الاتجاهات من أجل التأكيد على أنه غيرُ مسبوقٍ ولا مَلحوق، واضعين فهمهم لسُنَنِ الله في التاريخ في الدرجة الصفر.

في ماهيَة التّلمذة

السؤال عند أبناء حركة التجديد الإسلامي، وبالضبط أبناء الحركات الإسلامية، خاصة تلك التي تعطي الأولوية القصوى للعمق التربوي في مشروعها التغييري ـ هل سيكونون تلامذة نجباء لمربين حكماء فقط لكونهم يلتزمون بتوجيهاتهم ـ النبوية أصلا ـ بأهمية إقامة فرائض الدين وشعائره: صلاة وصياما وقياما وذكرا ودعاء.. وما نصحوا به من أوراد وروابط، أم أن هناك “أمرا” أجلّ وأعمق يسبقُ كلَّ أعمال القلب والجوارحِ ويَصحبُها.

وقائع تاريخية

وقائعُ تاريخنا القريبةِ العهدِ جدا من فترة النبوة تعلّمنا بأن الخلل الأكبرَ لم يدخل بيتَنا من قلّةِ صلاتنا ولا من نقصٍ في صيامنا أو ذكرنا، ولكنه غَزانا من جهة “الفهم” لمقاصد الدين وأوامره ونواهيه، والوعي بالبُعد المُركّب والعميقِ لشعائره.

1 .

فكتب التراجم والسير تؤكد ـ مثلا ـ أن سيدنا عبد الله بن عمر كان أكثر الصحابة اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخلاق والعبادات، ولكن هذا الجانب من الاتباع لم يَنسحبْ على “وعيه السياسي”، لأنه حافظ ـ بقوة وأمانة ـ على بيعة كان قد قدّمها لمُمَثّل الاستبداد تحت الضغط والإكراه، بل وهدد كلَّ أبنائه بالمَعَرّة والتّبَرّي إن هم خلعوها من أعناقهم، وحجته ـ رضي الله عنه ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم: “يُنصبُ لكلّ غادر لواءٌ يوم القيامة”، وقد غاب عنه حينها، أو نسي، أو فُتن في زحمة الفتنة عن الفهم بأن الأصول السياسية في ديننا تؤكد بأن “بيعة الإكراه لا تجوز”، وربما قدّر ـ بما معه من أحاديثَ وفهمٍ ـ بأن المصلحة َوالتّوازناتِ تقتضي ذلك.

2 .

وقبل ذلك، الصحابة الذين شاهدوا إمامهم ـ سيدنا عثمان ـ يُحاصر ويُقتل من قِبل الغوغاء، ماذا فعلوا؟ لماذا لم يدافعوا عنه، ويضحّوا في سبيل البيعة التي في أعناقهم، حتى وإن ارتأى ـ خطأ ـ أن يمنعهم من ذلك ؟

وبعض الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة بين سيدنا علي ومعاوية. لماذا فعلوا ذلك ؟ وبأي فهم فعلوا ذلك ؟ لنتجاوز القلة القليلة منهم، و التي كانت في حوزتها أحاديث خاصة بهم تمنعهم ـ لضعف، ربما، في أنفسهم من المشاركة في الشأن العام السياسي.

من هنا جاءنا الخللُ الأكبر، من اعتزال الكبراء وعدم تحيزهم، مما أضعف موقف الإمام الشرعي، وأعطى للأصاغر فرصة للبروز في واجهة المشهد.

3 .

و”الخوارج”، ألم يكونوا ـ بشهادة خصمهم سيدنا عليّ ـ كرم الله وجهه ـ صوّامين قوّامين، و”من الكفر فرّوا”، ولكن فهمَهم العليلَ السَقيم جعلهم ـ مثلا ـ يُؤمِّنون المُشركَ ويقتلون المُؤمنَ بحجة قوله تعالى:”وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون”. وجعلهم يتعسفون في فهم مبدأ الحاكمية لله، ويُرسلون من يَفتك بمُمثلها الشرعيّ، ويدفعون ـ بسوء فهمهم وضحالة وعيهم ـ بمُمثل “الفردية” و”الجبرية” إلى القيادة.

لقد عبّدوا المُنحدر فسهُل الانحدار.

ماهيةُ ميراث العلماء المُجدّدين والمُربّين

الميراثُ الحقيقيُّ للأنبياء وورثتِهم من العلماء والمربين نجدُه أساسا في فهمِهم ورؤيتِهم وفقهِهم العقليّ والقلبيّ المستتبع لأعمال القلب والجوارح.

وفهمنا لمقولة “الفهم” ـ والذي ندّعي بأنه أصيل ـ لا يذهب في اتجاه تَعقيل كلّ الأمور وتسبيبها كما فعل المتفلسفة والمعتزلة مثلا، وإنما يضعُها ـ أساسا ـ في قلب الحكمة العقلية ولب الرحمة القلبية.

إن الفهم الصحيح والوعي السليم مرتبط، في نظرنا، بالصُّحبة الموفَّقَة المُفضية إلى الاقتحام والعمل القاصديْن في جماعة، حتى لا نكون مثل تلامذة “النورس جوناثان” الذين كانت لهم صحبة، وكانوا منتمين لجماعة، ولكن العُروة بينهما كانت قد انفصلت وانفصمت، فانشغلوا بالبحث في طبيعة لون عَينيْ شيخهم، وهل كان قبل طيرانه يتَّخذُ خطوةً واحدة أم خطوتين.

قد يَمتلك هذا الفهمَ في درجاته العليا من هو في الدّرجات الدنيا من “السُّلَّم الاجتماعيّ” بالمنظار الدنيويِّ الصِّرْفِ، كما كان الأمر مع سيّدَيْنا بلال ورِبعيّ بن عامر. الشّرط المشروط هو القرب القلبي والعقلي من المنبع وإن بَعُدَ الزمانُ والمكانُ “فَرُبَّ مُبَلَّغٍ (بفتح اللام) أوْعَى من سامِعِ”.

في الضّمانة والبوصلة

إن الضّامنَ الأكبرَ لفهمٍ قرآنيّ نبويّ أصيل واستمرارِه ـ فالتّحدي ليس فقط في وجوده، ولكن في استمراره وعدم انقطاعه ـ يوجدُ ويرتبطُ حيثُ توجد الصُّحبة والجماعةُ وترتبطان، فذُلُّ الأمة واندحارُها مَرَدُّه أساسا ليس إلى غيابهما بل إلى افتراقهما.

إن المَتْنَ الثابت، الوحيد والأوحد، الذي ينبغي أن يتشبث به أبناءُ المجدّدين الإسلاميين وتلامذتهم هو ذلك الفهم العميق والأصيل لـ”صحبة داخل جماعة”، وما عدا ذلك يُعدُّ ـ في نظرنا على أهميته ـ طُرَّةُ وضَميمةُ.

[email protected]

‫تعليقات الزوار

3
  • عين طير
    الثلاثاء 17 أبريل 2018 - 14:07

    رفع فلاسفة عصر الأنوار شعار Sapera aude، وهي عبارة لاتينية للشاعر اللاتيني هوراص Horace تعني حرفيا "تجرأ على المعرفة"، وكثر استعمالها بمعنى امتلك الشجاعة لتعرف بنفسك دون توجيه من غيرك أو وصاية على فهمك.
    وفي العام الميلادي 1784 عرف الفيلسوف الألماني إمانويل كانت حركة الأنوار فقال عنها إنها حركة خروج الفرد من قصوره الذاتي باتجاه المعرفة – أي تلك التي لم يسهم في بنائها – محملا إياه مسؤولية قصوره الذاتي. فذاك القصور بنظره ناجم عن جنوح الفرد إلى عدم رغبته في اتخاذ القرار لأجل المعرفة بنفسه.

    بقي فقط أن أشير إلى أهمية معامل الإرتباط Correlation coefficient بالإنجليزية، بين الإيمان والعقل. فكلاهما يتأثر ويؤثر في الآخر، ومتى كان الإرتباط ضعيفا ضعف العقل والإيمان كلاهما، ومال الفرد كنتيجة حتمية إلى فقدان الفطرة التي فطر الله الناس جميعا عليها.

  • Mhamed
    الثلاثاء 17 أبريل 2018 - 15:12

    الأخ الكريم، قلت أن أهم رسالة للمربين هي :"أهمية إقامة فرائض الدين وشعائره: صلاة وصياما وقياما وذكرا ودعاء.. وما نصحوا به من أوراد وروابط، أم أن هناك "أمرا" أجلّ وأعمق يسبقُ كلَّ أعمال القلب والجوارحِ ويَصحبُها".

    لبها هو الشعائر.

    ألم تلاحض أن في كتاب لله، ليس هناك آية واحدة فيها: أن الله يحب المصلين، أو الراكعين، أو أن الله مع الصائمين!!

    لكنك تجد العمل الصالح: الله مع الصابرين، المحسنين، إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ

    ( رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) و ليس لأقيم الصلاة أو أركع أو أصوم.. بل العمل الصالح !

    اسغرقني سنين قبل أن ألتقي فكرة رجل أعادت إلى معاني الدين القرآني: الإيمان بالله و العمل الصالح.

    الشعائر لا تدخل لا نار و لا جنة. بل هي طقوس روحية قد تساعدنا (إن هي أديت في سياقها الحقيقي) على عمل الصالحات… و ليس العكس!

  • sifao
    الثلاثاء 17 أبريل 2018 - 21:11

    عندما قال كانط ، في سياق رده عن سؤال :ما هي الانوار"تجرأ على استعمال عقلك" دون توجيه اوصاية من غيرك ، فكان يقصد بالغير،"غير الانسان" والخطاب الذي حاول ويحاول توجيه وفرض وصايته على الانسان هو الخطاب السماوي ، استعمل عقلك،تعني ضع جانبا كل افكارك واعتقادتك التي تلقيتها على انها حقائق مطلقة وابدأ في بناء معارفك اعتماد على نفسك ، وهذه الفكرة قريبة جدا من الشرط الاول الذي وضعه ديكارت في سعيه نحو اعادة بناء المعارف على اسس يقينية.
    مركزية الانسان في الوجود والمعرفة هي الشرط الاول والاساسي في اية عملية اعادة بناء الذات والعالم ، وهذه المركزية تجسدت في تأملات ديكارت ك"انا" واعية بذاتها وقادرة على التمييز بين الصحيح والخطأ واعادة بناء نفسها والعالم على اسس جديدة غير التي وردت في خطاب السماء،رغم ان اللاهوتيين يدعون ان الانسان هو مركز الكون ، لكونه حضي بالاهتمام الاول في الديانات السماوية الا ان موقعه فيها لا يتعدى حدود المفعول به ولا يكون فاعلا حقيقيا الا اذا تطابقت افعاله مع معايير السماء كما وردت في "الصحاح الثلاثة" دون ان يجرأ على طرح السؤال "لماذا" ؟ في حين تشكل الجرأة احد اهم ركائز "الانوار"

صوت وصورة
تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:12 1

تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين

صوت وصورة
احتجاج بوزارة التشغيل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:02 2

احتجاج بوزارة التشغيل

صوت وصورة
تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 15:15 2

تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات

صوت وصورة
حملة ضد العربات المجرورة
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 11:41 20

حملة ضد العربات المجرورة

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 9

جدل فيديو “المواعدة العمياء”