"السياسة الكحلة"

"السياسة الكحلة"
الثلاثاء 11 شتنبر 2012 - 14:53

لا يتعلق الأمر حين الحديث عن “السياسة الكحلة” بحكم قيمة حول السياسة في المغرب بقدر ما يتعلق بتوصيف لنوع من السياسات الخطرة التي تشكل الوجه الآخر للاستثناء المغربي. ويلخص العنوان ذلك التوصيف، ويستمد تأصيله، وبكل الدلالات السميائية، من قصة “الميكا الكحلة” في المغرب.

و قصة “الميكا الكحلة” يمكن تلخيصها كاتالي: كل ما يحتاجه المرء للحديث عن انتصار غير مسبوق في المغرب على الأكياس البلاستيكية، وخاصة السوداء منها، متوفر.

فالترسانة القانونية متكاملة ودخلت حيز التنفيذ منذ يناير من السنة الماضية، والحملات التحسيسية واكبت حركة التشريع حول الموضوع مند القرار الوزاري لشهر شتنبر من سنة 2009، مرورا بالمصادقة على القانون المانع لاستعمالها بمجلس المستشارين وبالإجماع في السادس من شهر يوليوز من سنة 2010 بعد التأشير عليه في المجلس الوزاري في 16 يونيو من نفس السنة. ورغم المدة المهمة التي استغرقتها عملية التشريع والتي واكبتها عملية تحسيس من طرف المجتمع المدني وعملية التهييئ للمصنعين فقد أعطيت مهلة أشهر، حتى بعد دخول القانون حيز التنفيذ، للمصانع والباعة بالجملة كي يتخلصوا من مخزوناتهم. وبالفعل عاين المستهلك المغربي كيف اختفت “الميكا الكحلة” لعدة أسابيع بعد انتهاء مهلة سحبها من التداول وكيف أن الدكاكين وبائعي الخضراوات وغيرهم قد عوضوا الأكياس السوداء بأخرى بيضاء، بل واستعادت الأكياس الورقية رواجها… وتحدتث تقارير إعلامية عن انتصار “استثنائي” على “الميكا الكحلة” مبشرة أنصار البيئة بالتخلص الأبدي من أحد أكبر مصادر التلوث الخطير في المغرب. لكن الواقع يكذب كل هذا، فلا شيئ تغير في موضوع “الميكا الكحلة”، التي تتداول اليوم على نطاق واسع، سوى لونها الذي انتقل من الأسود الداكن إلى البني الداكن أيضا، لتستمر “الميكا الكحلة”، في حلتها الجديدة وفي ظل الترسانة القانونية الصارمة بذعائرها الكبيرة وبعد جهود رسمية ومن المجتمع المدني، في تهديد البيئة المغربية، بعد أن شعر الجميع أنهم قاموا بالواجب وحققوا المأمول !

“السياسة الكحلة”، بناء على مؤشرات صادمة، سلكت كعادتها نفس الطريق، فبعد اعتماد الدستور الجديد بما له وما عليه، وبعد توفر كل المعطيات التي يمكن على أساسها الحديث عن “الانجاز المغربي الاستثنائي” خاصة في الجانب الحقوقي والدموقراطي، عادت “حليمة إلى عادتها القديمة” بشكل سريع لكن تحت شعارات جديدة. ومند أول قانون في ظل الدستور الجديد سجل الجميع أول خطوة لإفراغ الدستور من محتواه الديموقراطي حتى قبل أن يجف مداده، كان ذلك في محطة الانتخابات التشريعية و في أكثر من موضوع، لكن أكثرها فجاجة هو موضوع إشراك الجالية المغربية في العملية الانتخابية. وتوالت عمليات إفراغ الدستور من محتواه الديموقراطي في شكل قرارات ومبادرات ومحطات رمزية مختلفة أعلنت للجميع أن لا شيء تغير في “دار لقمان” إلا طلاؤها.

ولئن كانت المفارقة في خطورة “الميكا الكحلة” هي أنه مع كونها تمثل أكبر تهديد بيئي في المغرب غير أنها تجد في “ثقافة السترة” لدى المغاربة ( حيث تقضي الثقافة الشعبية بان يستر المرأ ما اشتراه لاعتبارات كثيرة لا داعي للخوض فيها الآن) وفي رخص سعرها وتوفيرها ما يجعلهم مرتبطين بها طالبين لها. فكذلك شأن “السياسة الكحلة” فرغم الخطورة التي تنطوي عليها فالمواطن العادي ينظر إليها نظرة مخالفة، بحكم تقسيط تنزيلها وعدم الاعلان عن أهدافها التحكمية في الاقتصاد والسياسة والدين وفي كل شيئ تقريبا، وبحكم الاستراتيجيات التسويقية الماكرة، فهي تجد لها نوعا من “القبول” من طرف أغلب المواطنين إلى درجة اتهامهم المناوئين لتلك السياسات بشتى التهم التي أقلها إنهم فوضويون “ما عرفنا آش بغاو”.

ومظاهر عودة “السياسة الكحلة” متعددة نبه إليها كثير من الملاحظين، ولا تقتصر فقط في الالتفاف على مضمون الدستور على المستوى التشريعي، بل نجد هذا التمظهر يتخذ شمولية مخيفة تنبئ بعودة التحكم بقوة من جديد. ولعل أكبر مؤشرات ذلك، تراجع خطاب “إجراءات الثقة” الذي كان مهيمنا قبل التعديل الدستوري وقبل التعيين الحكومي، و عودة الحديث عن الاختطافات و استمرار انتهاك الحقوق في مخافر الشرطة وفي قمع الاحتجاجات السلمية بالتعنيف والمحاكامت على أساس ملفات يتم فيها تضخيم الجانب الأمني على حساب الجانب الحقوقي وخاصة المتعلق بالحق في التعبير والاحتجاج. ينضاف إلى ذلك التنكر لأي دور للربيع الدموقراطي في الإصلاحات التي عرفها المغرب إمعانا في تيئيس الشعب المغربي من أي دور له في التغيير بإعادة قراءة الأحداث قراءة لا تعترف بأي تغيير يكون مصدره الشعب…

لكن أكثر المؤشرات خطورة على الاطلاق على عودة “السياسة الكحلة” هو تحول وزارة الداخلية تدريجيا إلى لعب دور “أم الوزارات” كما كانت من قبل، وقد اتضح ذلك جليا في أكثر من مناسبة وفي أكثر من ملف، ويطرح هذا التوجه سؤالا محوريا حول مستقبل الانتخابات الجماعية المقبلة ومستقبل الحريات السياسية في المغرب. وبالموازاة مع هذا التحول في دور وزارة الداخلية يتابع الجميع عودة حزب الدولة، الذي تم تبييضه في الانتخابات التشريعية الأخيرة، إلى الواجهة، وأصبح له حضور متنامي غير مبرر في جل وسائل الإعلام، وفي كثير من المجالات والأوساط، مما قد يؤكد فرضية تنشيط مشروع تهيئته لاستعادة التحكم من جديد، ويتم في نفس الوقت ترويض المعارضة، وخاصة اليسارية منها، لقبول حزب الدولة شريكا سياسيا في مرحلة التحكم ما بعد الدستور الجديد.

إن “السياسة الكحلة” وهي تستعيد مواقعها استطاعت إيجاد إديلوجية سياسية تمكنها من التخفي و من التعبئة الواسعة، و أوقعت في فخاخها، بوعي أو بدون وعي، إعلاميين وحقوقيين وأكاديميين، وهذه الايديلوجية ليست سوى الترويج لـ”الفشل الحكومي” في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية. وهنا يجب التمييز بين ما يمكن أن يواجه أية حكومة في ظروف مماثلة في تدبير الملفات الاقتصادية والاجتماعية، وبين ما يشبه حملة منسقة ليس الغرض منها في الراجح النقد والتنبيه والنصح، و لكن خدمة مشروع “السياسة الكحلة” الذي يرتكز مرحليا على إفشال التجربة الحكومية الحالية بأي ثمن. ولا يتعلق الأمر هنا بوجود حزب محدد على رأس الحكومة الحالية بقدر ما يتعلق بدلالة هذه الحكومة والسياق التغييري الذي جاءت فيه وطبيعة التطلعات الشعبية المرتبطة بها.

فهل يستعيد الشعب المغربي وعيه المعهود في إدراك دقة المرحلة للوقوف من جديد في وجه السلطوية والفساد والاستبداد؟ وهل يكتب للمغرب أن ينعم بإنجازه التاريخي في الاصلاح والاستمرار في درب التغيير حتى يجني ثمار الاستقرار والازدهار؟

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 3

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 5

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال