إن الهزيل إذا شبع مات

إن الهزيل إذا شبع مات
الثلاثاء 29 مارس 2011 - 08:37

مقامة من مقامات مفجوع الزمان الجوعاني



حدثنا مفجوع الزمان الجوعاني ، وهو من ضحايا القمع المجاني فقال : لما مللت من بوائق الجارْ ، ويئست من ظلمة النهارْ ، وساءني ما أسمع هنا وهناك من أخبارْ ، خرجت من بيت يشبه ما عند الفقراء من منازلْ ، وطويت أزقة ودروبا تشكو الظلم العاذلْ ، وكلي أمل ينخره يأس قاتلْ ، في أن أجد بمجمع خلي ابن أبي الرعايهْ ، صاحب الألف حكاية وحكايهْ ، ما أنشده من مراد وغايهْ ، فلما وصلت إلى مجمعه الفريدْ ، ألفيته كعادته في سوق هارون الرشيدْ ، يطرب الناس بما عنده من أشعار وأناشيدْ ، ويغرد خارج سرب الخط الأحمر العتيدْ ، فاقتربت بخطايا نحوهْ ، وتسللت من بين الملتفين حولهْ ، حتى أسمع عن قرب قولهْ ، فإذا هو ساخط على أوضاع الأمّهْ ، يهجو حكام الغمّهْ ، ويمحو عمن بقربه بقايا الظلمهْ ، ويقول في كلمات تحرك ما للعزائم من همّهْ : (( أول الحزم يا أيتها الجماهير المقهورهْ ، قبول النصح والمشورهْ ، والرجال كما قال فاروق هذه الأمة المنصورهْ ، ثلاثة أصناف باتت في الكتب مذكورهْ ، أولهم رجل ذو عقل ورأي حكيمْ ، يحكم بالعدل وبالعدل أموره تستقيمْ ، يتسعيذ بالله من الشيطان الرجيمْ ، ويسوس الناس بحكمة وحسن تنظيمْ ، فهذا يعيش ومن معه في الجنان والنعيمْ ، وثانيهم رجل إذا حز به أمر من الأمورْ ، أتى كل ذي رأي معروف ومشهورْ ، فاستشارهم من غير أنانية تلف حول الاستبداد وتدورْ ، فهذا سعيه مشكور وفعله مبرورْ ، وثالثهم رجل حائر بائرْ ، لا يأتمر رشدا ولا يطيع مرشدا ولا لرأي الحكمة يناصرْ ، يستبد برأيه في كل القضايا والمسائلْ ، ولا يصغي لأهل الخير والفضائلْ ، ولا يرى إلا ما تريه أناه في المستجدات والنوازلْ ، وهذا الصنف الأخير من الرجالْ ، صنف حقير لا تكفي في وصفه العبارات والأقوالْ ، وهو صنف وللأسف الثقيل في المكيالْ ، ابتليت به أمة العرب وعلى أعلى مستوَى ، فخبروني بربكم عن حاكم عربي ما ضل برأيه وما غوَى ، وعن رئيس عربي لم ينطق بغير ما له من هوَى ، إنهم جميعا ملة واحدهْ ، لا يستشيرون إلا العقول المفسدة الفاسدهْ ، ولا يفكرون إلا فيما لهم من أرباح عائدهْ ، أما مصالح ما يحكمون من شعوب وأممْ ، فقد ضيعوها في المؤتمرات والقممْ ، وضيعوا معها كل المفاهيم والقيمْ ، فأمسوا جميعا في حكمهم يستبدونْ ، وباتوا لعصور الرق والعبودية يستردونْ ، وأصبحوا بآهاتنا يستلذونْ ، فمن قال منا لا قمعوهْ ، ومن تكلم عنهم بالحق ردعوهْ ، ومن حاول الانقلاب عليهم في الجنائز شيعوهْ ، وهكذا كان الذي يعلمه الصغير والكبير والرضعْ ، لصوص لهم الأرض بالورود تحرث وتزرعْ ، وشعوب في الذل والمهانة تقبعْ ، وغرب يدعي حماية الحقوق لمصالحه يتبعْ ، وأبناء علية تأكل ولا تشبعْ ، ورصاص يقتل به كل من لغير الله لا يركعْ ، فضيعت الأمجاد بصمت الآباء والأجدادْ ، وقسمت الوزيعة على اللصوص والأوغادْ ، وبنيت الحدود بين ما للعروبة من بلادْ ، وزور الاستقلال لنعيش فصولا من الاستبدادْ ، فاسمع يا باحثا عن لم الشتاتْ ، وأنصت لي يا غارقا في النوم والسباتْ ، ” إن الهزيل إذا شبع ماتْ ” ، مثل عربي يغازل ما لك من إحساسْ ، يضرب لمن استغنى فتجبر على الناسْ ، وهو مثل أقول إنه وبعيدا عن كل وسواس خناسْ ، ينطبق على حكام العروبة في هذا الزمانْ ، وإليك هذا البيان والتبيانْ ، ولا خوف علي إلا من نقمة الواحد الديانْ ، ففي تونس الخضراءْ ، تسلم السلطة في ليلة ظلماءْ ، شاب هزيل لكنه ثخين الدهاءْ ، وعد شعبه في أول أيامه ولياليهْ ، بتحقيق ما يريده ويبتغيهْ ، وبالعمل على ما يسعده ويرضيهْ ، وأقسم بالله على تنفيذ ما أطلقه من وعودْ ، ومرت السنين والعقود والعهودْ ، والحاكم الهزيل ينفذ بالمعكوس كل موعودْ ، يسمن نفسه وأهله وصويحباته وذويهْ ، ويمعن في سياسة الاستحمار والتسفيهْ ، ولا يبالي بمحطات الإنذار والتنبيهْ ، يقمع هذا وذاكْ ، ويتوعد من خالفه الرأي بالهلاكْ ، ويصدر ما يستعبد به الشعب من قانون فتاكْ ، فنهب ما فاق كل نهبْ ، وسلب من المواطن ما لا يحتمل السلبْ ، وما اعترف للرياضيات إلا بالجمع والضربْ ، فلما أراد الشعب يوما الحياةْ ، تجمع حول قصر الرئاسة في ليال معدوداتْ ، وقال في صوت لا يخشى القنابل والمتفجراتْ ، ” إن الهزيل إذا شبع ماتْ ” ، وما نفع ” الهزيل ” فهمه المتأخرْ ، وما رد عنه كيد الثورة بطشه المتكبرْ ، ولا نفعه في الهروب خل مستهترْ ، واسألوا مكة عن حاله بعد الشبـَعْ ، إنه بكى وتوجع مما الشعب له صنعْ ، وتلك عاقبة من طغى وتجبر وبغير العدل ما اقتنعْ .


وهذا هزيل آخر كان زميلا للأولْ ، حكم شعب مصر بيد تسرع في الفتك ولا تتمهلْ ، رأى ما صنعته الثورة بزميله وما تعقلْ ، بل دشن معركة الخيول والجملْ ، وأصر على النهب رغم ما ابتلع وأكلْ ، وأقسم أن لن يبرح الكرسي إلا بعدما يقتلْ ، فكان رد الشعب له ” إرحل ، إرحلْ ” ، فلما أبى واستكبرْ ، زحف الشعب نحو قصره بـ ” الله أكبر الله أكبرْ ” ، ففر هاربا وبغير جلده لم يظفرْ ، ولو أنه اعتبر بقصة جده فرعون ما تفرعنْ ، لكن الهزيل يتمسكن حتى يتمكنْ ، ثم يموت ميتة ” الجيفة ” ليتعفنْ .


وهذا هزيل آخر من اليمنْ ، نسى ما لله في كونه من سننْ ، وتناسى أن الحكم من أكبر الفتنْ ، سرق شعبه وفي العواقب ما نظرْ ، استبد برأيه وبغيره من الهاربين ما اعتبرْ ، لما قام الشعب لإسقاطهْ ، أمر حماة قصره وبلاطهْ ، بجلد ورمي شعبه برصاصه وسياطهْ ، فقتل في يوم واحدْ ، أزيد من خمسين شاهدْ ، ظنا منه ومن مستشاري حكمه البائدْ ، أن الرصاص قد يوقف زحف الأحرارْ ، وأن القتل قد يخمد نيران الثوارْ ، وما درى هذا الطاغية الجبارْ ، أن البطش بشعبه لا يزيد الثورة إلا ثوراتْ ، وأن الجبر لا يحول أما الرغبة في اقتحام العقباتْ ، وأن الهزيل إذا ما شبع ماتْ .


وهذا هزيل اقترب موته لأنه أحمقْ ، مجنون لا يطاق ولا يصدقْ ، اغتنى من ليبيا وبالفتات على شعبه لم يتصدقْ ، شبع العالم من كذبه ومن النهب هو لم يشبعْ ، توجع الكل لجبروته ومن آهات مواطنيه هو لم يتوجعْ ، لما علم وهو الذي لغير أنانيته لا يسمعْ ، بأن أحفاد عمر المختارْ ، قاموا للوقوف ضد ما في نفسه من مغول وتتارْ ، فتش في كتب الأدب عن قافية تسعف ما سيتلوه عليه من أشعارْ ، فخطب خطبته المشهورة بالجرذان والفئرانْ ، واتهم شعبه بالجنون والزور والبهتانْ ، وتوعده بملاحقته في كل ركن من الأركانْ ، وما اكتفى بالنهب والسرقة والتهديد العظيمْ ، بل حول الوعيد إلى واقع أليمْ ، فقتل ما قتل رفقة ابنه العتل الزنيمْ ، فثار عليه الشعب بأسرهْ ، وتوجه بما يملك من عتاد إلى قصرهْ ، ولأنه هزيل يخشى نهاية فجرهْ ، جند كل مجرم في العالم لقتل شعبهْ ، وموله بما جمع من سلبه ونهبهْ ، فدكت تحت قصفه وضربهْ ، مدن حررها من قال للإيطاليين ” نحن صامدونْ ” ، وأحرقت آبار نفط لم يذق نعمتها الليبيونْ ، فتدخل غرب لمصالحه يعرف كيف يحمي ويصونْ ، وقال دماء المدنيين تستدعي قصف المجنونْ ، وهذا سؤال للغرب أوجهه بقلب غير مفتونْ ، أقول له ولحلفه من بني عربونْ ، ودماء المدنيين الفلسطينين ما بالها لا تحظى باهتمامْ ، وما بالها تراق كل يوم وكل شهر وكل عامْ ، ولا من يقصف إسرائيل ولو بأصبع اتهامْ .


وهذا ملك من ملوك الخليجْ ، رفض ما رفعه الشعب ضده من شعارات وأهازيجْ ، وأبى إلا التنكيل بمن قال نعم لإصلاح بهيجْ ، فقتل ومازال يقتل معارضيهْ ، وأعطى لنفسه صفة التقديس والتنزيهْ ، فما عاد له في الحكم نظير أو شبيهْ ، ولولا أنه استعان بجيوش ملوك شعوبها لا تثورْ ، لانطبق عليه المثل المذكورْ ، ولأمسى جارا في مكة لكل مجرورْ .


وهؤلاء وأولئك يا معشر المكلومينْ ، حكام ورؤساء وسلاطينْ ، كل واحد منهم كان فيما مضى من الأعوام والسنينْ ، هزيلا بلا تضخم ولا تسمينْ ، فأكلوا من الحلال والحرامْ ، ونهبوا من خيرات بلدانهم ما سعادة البشرية به تقامْ ، حتى أضحوا كتلا لحمية لا ترى منها العظامْ ، وحين خافوا من العدل ومما فيه من ذوقْ ، أسسوا حول كراسيهم أعمدة للصعق والشنق والحرقْ ، وجهزوها لكل طالب بما له عندهم من حقْ ، ولأن الهزيل إذا شبع ماتْ ، هاهي ذي كراسيهم تهتز بفعل الثوراتْ ، وهاهي ذي التخمة تصنع أجمل الروايات وأبهى الحكاياتْ ، وإني على ما ذكرت شهيد وشاهدْ ، وإني أقول رغم كل ما يقدم لنا من فتات على الموائدْ ، ورغم ما يراد به إسكات المتتبع والمشاهدْ ، إن عشقا خاطئا للكراسِي ، لن ولن يورث إلا المآسِي ، ولن يسكت العاري رغم الجود المتأخر للكاسِي ، وإن العدل مطلوب قبل الفواتْ ، وإن الظلم لا ينتصر رغم ما له من جنود وقواتْ ، وإن الهزيل إذا شبع مات .



http://www.goulha.com

‫تعليقات الزوار

11
  • RACHID
    الثلاثاء 29 مارس 2011 - 08:39

    شكرا على المقالة الرائعة شكلا و العميقة مضمونا
    تحية

  • INCHTAYN
    الثلاثاء 29 مارس 2011 - 08:55

    هذه الكلمات معبرة’ نتمنى ان تسود الديمقراطية بلادنا الاسلامية’ شكرا للكاتب

  • oumadam
    الثلاثاء 29 مارس 2011 - 08:41

    كلام جميل و قيم جزاك الله خيرا

  • mbarka
    الثلاثاء 29 مارس 2011 - 08:51

    تحية كبيرة استاذ ,مقامة رائعة معبرة واصفة لواقعنا العربي المرير باسلوب فني جميل انتظرتها طويلا فشكرا لك و زادك الله ابداعا و تالقا ونسال الله عز وجل ان ينصر هذه الامة على طغاة العرب ان الله على كل شىء قدير

  • لطيفة المغربيه
    الثلاثاء 29 مارس 2011 - 08:43

    عجزت عن التعليق عن هذا المقال
    توفقت توفقت توفقت اخي
    وكلنا شكر لقلمك الذي منحنا فرصة استنشاق عبر كلماتك

  • امين
    الثلاثاء 29 مارس 2011 - 08:49

    انا يا اخ ملوك كما سبق وان اشرت وفي ردي على المقامة الليبية بينت اني بفن المقامة من المعجبين وللسلع التي تعرضها في هذا الباب من المشترين
    إلا انك في هذه المرة قدبالغت في الاطناب ولتقول ما نعرفه اسهبت ايما اسهاب وكما يقول المثل : ليس في كل مرة تسلم الجرة
    فهجر مقامتك القارؤون وولوا عنها مهرولين وقديما قيل خير الكلام ما قل ودل والقارئ عندنا اذا قرأ 20 سطرا كل وطال عليه الامد فمل
    تحياتي

  • طاطانت
    الثلاثاء 29 مارس 2011 - 08:57

    كلام جميل .وان قيل في عصاة الشعوب ومجرميها فهو ينطبق بالتمام و الكمال عل مسيري الشان المحلي بجماعة اقايغان لكن على صيغة الجمع لأننا بصدد عصابة و دورياتها في كل مدشر من النساء و الرجال و الولدان .ذئاب جائعة تملأ بطونها الفارغة من لحوم الجيف من جثث القطعان البشرية .

  • anass
    الثلاثاء 29 مارس 2011 - 08:45

    اشكرك على لحظة توقفتني على اعتاب الابداع

  • yassine
    الثلاثاء 29 مارس 2011 - 08:53

    vraiment c formidable

  • mohamed
    الثلاثاء 29 مارس 2011 - 08:59

    شكرا للاخ الكريم نعم هذا هو حال حكامنا اللهم الطف بنا

  • amin
    الثلاثاء 29 مارس 2011 - 08:47

    اكثر الله من امثالك اخي فعلا وصفك دقيق لحكم هؤلاء المستبدين ولكن الله يمهل ولايهمل ومهما طال ظلام الليل لابد ان يسطع ضوء النهار

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 1

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 10

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج