التعليم من وراء حجاب

التعليم من وراء حجاب
الأحد 5 يوليوز 2020 - 16:13

“التعليم ليس ملء دلو ولكنه إيقاد شعلة”

-ويليام بتلر ييتس (شاعر إنجليزي وكاتب مسرحي)

غريب أمر الساسة والسياسيين تارة ينادون بالقرب وتارة أخرى ينادون بالبعد… في العهد الجديد الكل عزف على نوتة القرب: إدارة القرب، تقريب الإدارة من المواطنين، شرطة القرب، ملاعب القرب… لقد تأكد لهم أن بعد المسافة أصبح مهما في علاقة المواطن بالمؤسسة، وإن كانت نغمة القرب هاته لم تعالج جل أعطاب إدارتنا ولعل قول الشاعر ينطبق عليها إذ يقول:

بكل تدانينا فلم يشف ما بنا *** على أن قرب الدار خير من البعد

وفي ميدان التعليم تم ربط موضوع إصلاح منظومة التربية والتعليم بضرورة انتهاج “سياسة القرب”، عبر تبني اعتماد نهج تشاركي يرتكز على إشراك مجموع الفاعلين الأساسيين في إنجاز وتطبيق البرنامج الاستعجالي؛ وفي هذا الصدد تم اعتبار اللامركزية كإحدى أهم التوصيات الأساسية في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وجاءت الوثيقة الإصلاحية الحالية (الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015/2030) لتأكيد أهمية الحكامة الجهوية عبر تعزيز وتنزيل وتسريع مساطر التدبير والتسيير وممارسة سياسة القرب اللامركزي واللا تركيزي، من قبيل إنشاء مدارس جديدة وخاصة في العالم القروي والمناطق الوعرة، وإحداث عدد كاف من الثانويات الإعدادية والتأهيلية للتمكن من تغطية التزايد السريع لأعداد التلاميذ نتيجة توسع قاعدة التمدرس… إلخ.

لقد كان خيار “التعليم عن بعد” قبل زمن كورونا حكرا على الدول المتقدمة التي تتوفر لديها الشروط الضرورية لإنجاحه، بفضل توفرها على التقنيات الحديثة للاتصال وتمكين مدرسيها من مهارات الاتصال الفعّال والملائم والخبرات البيداغوجية المؤهلة لإدارة التعليم عبر الأنترنت. وهذا التعليم الذي يسمّونه: “التعليم عن بعد” أسمّيه التعليم من وراء حجاب، فغياب الرؤية جزئيا أو كليا حجاب، وتعطيل بعض الحواس كاللمس حجاب… الحجاب يعني المانع، كما يعني المسافة، والتعليم ينبني في الأصل على القرب والاندماج والمشاهدة العينية التي تتيح الملاحظة والنقد، فمنذ أقدم العصور كان المعلم قريبا جدّا من تلاميذه، ولنا في تجربة أرسطو والمشائين خير مثال، حيث كانت المناقشات الفلسفية بينهم تتم أثناء السير بين الأشجار وفي الحدائق، لأنهم كانوا يعتقدون أن استيعاب الأفكار وتمثلها يكون فعالاً أثناء المشي.. وميزة القرب هاته كانت حاضرة في علاقة الأنبياء وأتباعهم، والصوفية ومريديهم، والقادة العسكريين وجنودهم.

الحجاب أو البعد لا يتيح تلك العلاقة الحميمية والدفقات الشعورية التي تحدث بين المعلم والتلميذ، وبين التلميذ ورفاقه من أصحاب الصف، والحجاب عدا عن ذلك يفقد التلميذ الكثير من تركيزه، إذ تغيب صورة الأستاذ في حركيته ونشاطه وحتى قفشاته، ويحضر الصوت -لوحده- كمؤشر للانفصال، وقد تحضر الصورة لكنها صورة فاقدة للحرارة الإنسانية التي تتأتى عبر الحواس وبالحواس، فقسمات وجه الأستاذ تكون مبعثا للجد ودافعا للمثابرة وحثّا على الاجتهاد، فحضوره الفعلي هو الضامن للتواصل الحيّ، الفعال والخلاّق كذلك، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى الكتاب الورقي الذي تنطبع حروفه وصوره في الذاكرة من خلال الرؤية واللمس وحتى الشمّ. الحجاب كذلك يغيّب المدرسة والقسم فتنمحي السلطة الرمزية للفضاء، بما هو مكان مخصوص للعملية التعليمية وحاضن ومحفز لآلياتها المرئية واللامرئية.

الحجاب يكمن أيضا في موت حسّ التنافسية بين التلاميذ فيغذو الدرس مجرد نسخ أو إنصات متقطع يتأبى على الذاكرة والاستيعاب لأنه لحظي ومارق، مارق بمعنى أنه لا يقيم طويلا فهو يمرق بسرعة، إنه مثل الأكلة السريعة fast food تلوكها في وقت قياسي فلا تشبع.

وماذا بعد؟

الحجاب فيه تعطيل لقدرات الأستاذ، لاجتهاده ولكفاياته، إنه يصبح مجرد ملق يحاول أن يتخلّص من بضاعته في أقرب وقت، وهو لا يقرأ وجه تلاميذه حتى يتبين إن كان قد وفق في انجاز مهمته الديداكتيكية والتعليمية أم لا، إنه مثل لاعب كرة بارع يلعب أمام مدرجات فارغة لقد غاب عنه جمهوره وافتقد لتلك الوقدة التي تشجعه على البذل والعطاء والاجتهاد.

التعليم من وراء حجاب قد يكون ناجعا بالنسبة إلى بعض فروع العلوم الإنسانية، خاصة في الكليات التي دأب أساتذتها على اجتزاء مواد محاضراتهم من الكتب أو قرصنتها من المواقع الإلكترونية عبر تقنية النسخ والإلصاق دون اجتهاد أو جهد يذكر.

الحجاب يزداد سمكه حين نفتقر إلى العدة الرقمية ومستلزماتها من آليات وبرامج ومناهج يلزمنا وقت كبير للتمرس على استعمالها وضبطها والتشبع بمعطياتها، فكيف بالله عليكم نتحدث عن تكافؤ الفرص بين التلاميذ ومنهم من لا يتوفر على لوحة إلكترونية أو هاتف محمول من هذه الهواتف الذكية التي كلما ازداد ذكاؤها نقص ذكاؤنا طردا، نحن الذين نستعملها في غير ما يفيدنا، والأمر سيّان بالنسبة إلى أطفالنا الذين ازداد إقبالهم على هذه الألعاب الإلكترونية -بسبب امتلاكهم لهذه الهواتف- التي تشكل عليهم خطرا داهما ما زلنا لم نقدر حجم خطورته بعد، ناهيكم عن المناطق النائية والمعزولة التي ينعدم فيه صبيب الأنترنيت أو يقل. وماذا عن مئات الآباء الفقراء الذين اضطروا اضطروا إلى الاستدانة ولزوم سياسة التقشف حتى يقتنوا لأبنائهم هذه الهواتف الضرورية لتعلمهم “عن بعد”.

شخصيا أرى أن تجربة “التعليم عن بعد” تجربة مستجدة في ثقافتنا، وقد ألزمتنا جائحة كورونا على ركوبها، في وقت لم نكن مستعدين للانخراط فيها لا ذاتيا ولا موضوعيا، فكان من الطبيعي أن تسم الارتجالية والاستعجالية هذه التجربة، ولذلك جاءت نتائجها هزيلة دون أن نبخس جهود الغالبية العظمى للسادة المعلمين والأساتذة الذين اجتهدوا في حدود طاقاتهم والوسائل المتوفرة لديهم، هم الذين أخذوا على حين غرة ودفعوا دفعا إلى خوض تجربة لم يكونوا مهيئين لها. وإذا كنا في السابق نشتكي من ضعف التعليم عن قرب فما عسانا نقول عن هذا الوافد الخديج (الذي ولد قبل الأوان)؟؟.

لقد امتلك بعض الأساتذة ناصية الجرأة والشجاعة فأقروا بفشل هذه التجربة، فهذا الأستاذ الجامعي والمحلل السياسي، عبد الرحيم منار السليمي في إحدى الندوات ينتقد الجامعات المغربية في تعاطيها مع “التعليم عن بعد” يقول: “ليس هناك تعليم عن بعد ولكن نحن فقط نرقع لإنقاذ السنة الدراسية، والمسؤول الرسمي يمكن أن يقول بأن التعليم عن بعد موجود، ولكن بصفتي كأستاذ أقول بأننا لسنا في تعليم عن بعد، ولكن نحن نرقع فقط ونحاول إنقاذ السنة الجامعية، وهذا هو الوضع الموجود الآن”.

إننا بالكاد نتلمس خطواتنا الأولى في مسار طويل تكتنفه الكثير من الصعوبات والمعوقات، وحريّ بنا الآن أن نهيئ الأرضية المثلى والشروط اللازمة لهكذا تحدّ، يتطلب منّا توفير اللوجستيك والخطط والبرامج والتكوينات اللازمة، وإلى حين تحقيق ذلك لنتحلّ بالكثير من التواضع والصبر فلا نركب ظهر المجنّ، وصدق الشاعر إذ يقول:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس.

‫تعليقات الزوار

1
  • mohamed
    الإثنين 6 يوليوز 2020 - 21:21

    النقد سهل و العمل صعب
    اعملوا و لا تبخسوا عمل الآخرين
    التراكم الكمي يعطي الكيف مع مرور الوقت
    الطالب هو أيضا و بالأساس مطالب بالجد و الاجتهاد للتعلم و ليس شرطا أن يصاحبه أستاذ
    الكلية هي لمنح الدبلوم بعد استيفاء حقيقي للكفاءات المتطلبة و ورش للبحث الحقيقي
    و من جهة أخرى كفى من أساتذة الأوراق الصفراء و الذين لا تتعدى معارفهم عموميات مادة تدريسهم و الذين لا يحينون معطياتهم و لا يقومون بأعباء التدريس و البحث إلا لماما هم في شبه راحة بل سبات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 4

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 1

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 2

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة