"كافكا في طنجة" ينثر السحر والملح على جراح المجتمعات العربية

"كافكا في طنجة" ينثر السحر والملح على جراح المجتمعات العربية
الثلاثاء 2 يونيو 2020 - 06:02

لا يخفف عنا في هذه الغربة الباردة التي أرسلتنا إليها لقمة العيش إلا ما يصلنا بين وقت وآخر من رحيق الوطن: عسل وزيت زيتون وفطائر ترسلها الوالدة العزيزة، مع حلويات كعب الغزال التي تتفنن أختي بخبزها. لكن لا شيء وصل إلى الأراضي المنخفضة منذ ثلاثة أشهر، بسبب الحجر الصحي وإقفال الحدود. لم يخفف عني قليلا إلا الانشغال بالمكتبة الغنية لرفيق سكني الذي لا يطلب من عائلته في تطوان شيئا غير جديد الإصدارات الروائية المغربية.

بعد أسابيع من النهل من مكتبة شريكي، انتبهت لرواية صغيرة الحجم بدا لي اسم كاتبها مألوفا جدا. ثم تذكرت أننا تشاركنا سنة دراسية أولى في كلية الآداب في مارتيل، قبل أن يذهب كل منا في طريق مختلف.

ذهبت أنا لدراسة الإعلاميات، دون أن ينقص ذلك من شغفي بالاطلاع على جديد الإبداعات الأدبية والتوجهات النقدية، ثم انتقلت إلى إسبانيا وبعدها هولندا، وقد انقطع تواصلي تماما مع زملاء الدراسة إلى أن أمسكت رواية “كافكا في طنجة” لكاتبها الشاب محمد سعيد احجيوج، وعادت كل الذكريات إلى وعيي دفعة واحدة.

تحكي الرواية عن جواد الإدريسي الذي يجمع بين وظيفة التعليم ومهنة بيع الخضر. تخلى جواد عن دراسته الجامعية وطموحاته الشخصية الخاصة، واشتغل ليعيل أمه وأخته بعد أن اعتزل والده العمل في الحانة وتفرغ للاستغفار.

لكن بعد سنوات من الإخلاص المستسلم للواجب الأسري، وبعد أن تعود جواد ونسي أحلامه الشخصية، جاءت الصدمة المباغتة واستيقظ ذات صباح ليجد نفسه قد تحول إلى مسخ شيطاني بقوى سحرية لن يعرف عنها شيئا وهو يستيقظ كل صباح لا يتذكر شيئا مما حدث الليلة السابقة.

صار جواد يفقد نفسه بعد أن فقد وظيفته وفقدت أسرته معيلها. لقد صار الآن هو ذاته عالة على أسرته، ولم يعد أمامه إلا أن يضحي بنفسه ويقدم حياته خلاصا لمعاناة الأسرة ولأسرارها الدفينة التي برزت إلى السطح.

اختار الكاتب أن يحاكي رواية عالمية شهيرة، هي رواية “التحول” لفرانز كافكا، لتمرير رسائله التي تنثر الملح في جراح المجتمعات العربية، والمجتمع المغربي خاصة، كما استخدم حبكة الرواية العالمية ليبني عليها رواية معاصرة لشاب مغربي يستيقظ ذات صباح ويجد نفسه، مثل بطل رواية كافكا، تحول إلى مسخ. لا يخجل الكاتب ولا يتردد من وضع أصابعه العشرة في الجرح ويدخلها عميقا ليكشف تحولات المجتمع المغربي بأسلوب عذب وسلس مع سخرية مبطنة مما يقع في المجتمع الموبوء بعجيب تناقضاته وتضارب قيمه، المكشوف منها والمستور.

استعان الكاتب في روايته الأولى بخبرة الكاتب المحترف، تقنيات سردية متنوعة، منها تقنية الاسترجاع (فلاش باك) لعرض حكاية الأب في مسار يوازي حكاية الابن، تقنية الاستباق (فلاش فوروارد) ليأتي بأحداث مستقبلية خارج الخط الزمني الأصلي، تقنية تعدد الرواة من خلال سرد يوميات الأخت بصوتها الخاص لتمثل سردا للأحداث من زاوية نظر مختلفة عن الراوي الرئيسي، تقنية التناص، أو التعالق مع النصوص الأخرى، وذلك بصيغ مختلفة، سواء بالإشارات المضمنة في المتن إلى نصوص روائية عالمية أو بتسمية كل فصل بعنوان رواية شهيرة.

من التقنيات الجميلة أيضا الاعتماد على راو غير بشري، بمثابة كينونة تمثل مصدر كل الحكايات. نقرأ مثلا من الصفحتين 7 و8:

“تسألون مـن أنا؟ يـا لفضـول عقلكـم البـشري المحـدود الـذي لـن يسـتطيع اسـتيعاب كينونتـي الشاسـعة. يكفـي أن تعلمــوا بأنني حملــت أسماء كثــيرة علــى امتــداد تاريخكــم الإنســاني. منهــا الشــاعر الضريــر، شكسبير، الحكواتي… وربمــا أشهرها لديكــم هــو شـهـرزاد. وتسألون الآن أين تـدور هـذه الأحـداث؟ يـا لفضولكـم اللامحــدود. هــل هــذا مهــم حقــا؟ فليكــن المــكان هــو مدينـة طنجـة. لكـن بالتأكيد ليسـت مدينـة طنجـة التـي تعرفـون. هـذه طنجـة أخرى تشـبهها. طنجـة موازيـة لمـا تعدونــه العــالم الواقعــي. إلا أن هــذا التــوازي لا يعنــي أنها خياليـة. لنتفـق مـن البدايـة على أن ثنائية الواقـع والخيــال نســبية تمامــا”.

أسلوب الكاتب جميل ولغته رشيقة، والحكاية مشوقة تمسك بك ولا تتركك إلا بعد أن تكمل قراءة الرواية. أنا قرأت الرواية في جلسة واحدة استغرقت ساعتين، وبقيت مشغولا بأحداثها وأفكارها. حين استيقظت من النوم في الصباح التالي وجدتني ما أزال مسكونا بسحر الرواية، فأعدت قراءتها من جديد.

نقرأ من الفصل الأخير من الرواية:

“هل مات حقا؟ هل يمكن أن يكون الكمد قد أوقف قلبه أم تراه انتحر عمدا؟ لن أستغرب لو أن الوالد العزيز قام بالحركة الأخيرة بعد الفضيحة التي سببها لنا مع ضيفنا الفرنسي وأجهز عليه. لكن هل يهم هذا حقا؟ كلا. لا. لا يهم”.

حسب السيرة الذاتية المسطرة في الموقع الشخصي للكاتب، فإنه يستعد حاليا لصدور روايته الجديدة “أحجية إدمون عمران المالح” التي ستصدر في بيروت عن دار نوفل/هاشيت أنطوان.

تعتبر “كافكا في طنجة” روايته الأولى بعد مجموعتين قصصيتين هما “أشياء تحدث” و”انتحار مرجأ”. كما أن مخطوط روايته الأخرى “ليل طنجة” فاز بجائزة إسماعيل فهد إسماعيل للرواية.

* مهندس معلوميات (هولاندا)

‫تعليقات الزوار

9
  • Me again
    الثلاثاء 2 يونيو 2020 - 06:32

    كيف ان الروايات و كذلك الجرائد تكتب و تقراء بالفصحى و كاتبها و قارئها لا يتقنها و لا يتكلمها في حياته اليومية؟ كيف يمكن فهم كل شيء او التظاهر يفهم كل شيء؟ كم هي المجهودات الجبارة التي يبدلها الكاتب في الكتابة بالفصحى و كذلك القارىء الذي يقوم بنفس المجهودات الجبارة لقراءتها و فهمهم حيث لا يتداولون تلك اللغة المكتوبة و البعيدة كل البعد على اللغة المتداولة في الحياة اليومية! نفس الشيء جرى لي الآن في كتابة السطور بمجهودات لا تطاق، حيث استغرقت لي وقت اكثر في التفكير بالعبارات و الكلمات و في بعض الأحيان تختفي الفكرة التي اريد ان اكتبه سابقا و تأتي افكار و هكذا…لكن، لو حاولت ان احكي باللغة او الدارجة او اللهجة التي استعمالها في حياتي ما كتبته، لكان بسيطا و سهلا و بطلاقة و سلسة…

  • شنمي الطنطان
    الثلاثاء 2 يونيو 2020 - 06:33

    وشكون غايقرا ليكفزمن الألواح الالكترونية. المهم بعد هسبريس مشكورة مرة مرة تتحفنا بروائع الأدب فحتى ميزانياتنا لم تعد تسمح بمواكبة المجال الادبي الكتاب في المغرب ما يزال سعره غاليا مقارنة مع الدخل الفردي المحدود و نقولو دابا كاع المنعدم مع هاذ كورونا

  • روميو السوري
    الثلاثاء 2 يونيو 2020 - 07:33

    اشتهيت قراءة الرواية الآن. سوف ابحث عنها في الزيارة المقبلة للمغرب.

  • roka
    الثلاثاء 2 يونيو 2020 - 07:39

    هذا الابداع مثل ابداع المغني الريفي الذي ترجم كلمات اغنية محمد عبده الى الريفية وغنها بنفس الموسيقى الأصلية، فانت حين تسمع الموسيقى يتبادر الى ذهنك انك ستسمع محمد عبده يصدح بالغناء ولكنك تفاجأ بصوت وكلمات مختلفين ، هذا هو الابداع

  • الغرباوي
    الثلاثاء 2 يونيو 2020 - 10:35

    لماذا السمك ثمنه مرتفع وخصوصا في هاد الوقت الصعيب،بعض البائعين همهم هو الربح يستغلون الفرصة،هذا هو تحس بخوك المسلم.

  • سوس العالمة
    الثلاثاء 2 يونيو 2020 - 11:22

    ما أجمل أن ينفتح المهندسون والأطباء على الأدب والفن مجالات أخرى شتى، وما أقبح أن يبقوا دفيني تخصصاتهم.

  • Ramon
    الثلاثاء 2 يونيو 2020 - 12:40

    Dans l' œuvre de Kafka il y a un perpétuel balancement entre le naturel et l' extraordinaire,l' individu et l' universel, le tragique et le quotidien, l'absurde et la logique et c' est-ce qui donne à son œuvre sa résonance et sa signification.

  • صهيل الخيل
    الثلاثاء 2 يونيو 2020 - 13:06

    االى رقم 1 me again
    المجهود الذي لا يطاق الذي بذلت وأنت تكتب بعض السطور باللغة العربية الفصحى هذا يخصك أنت فقط . ويعطي فكرة عن امكانياتك اللغوية .فلا تعتقد ان محمد زفزاف بذل مجهودا جبارا في كتابة مقال صغير باللغة العربية الفصحى.ولا تظن ان عبد الكبير الخطيبي أو ادريس الشرايبي أو ياسمين خضرة يبذلون نفس طاقتك ومجهودك وهم يكتبون باللغة الفرنسية

  • عائد
    الثلاثاء 2 يونيو 2020 - 13:20

    بالأمس أرسلت لي صديقة عزيزة رسما كاريكاتوريا عبر واتساب وهو عيارة عن رسم لشاب غريق على شاطئ بحر من الهواتف، وكتاب يضغط له براحتيه على صدره عله يعاود التنفس فيتقيئ شعارات وسائل التواصل… تأملت الرسم فأجبتها:
    – نعم الكتاب.. شخصيا اشتقت إليه.. هل يستطيع حقا أن ينعش هذه الأرواح المتخمة؟
    وهذا الصباح اجد في هسبريس "كافكا في طنجة.." وكأنه يجبيني عن تساؤلي
    شكرا للصديقة والمهندس…للروح عودة وللعودة نكهة الجنة…

صوت وصورة
اعتصام ممرضين في سلا
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 19:08 1

اعتصام ممرضين في سلا

صوت وصورة
وزير الفلاحة وعيد الأضحى
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 17:34 24

وزير الفلاحة وعيد الأضحى

صوت وصورة
تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:12 3

تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين

صوت وصورة
احتجاج بوزارة التشغيل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:02 2

احتجاج بوزارة التشغيل

صوت وصورة
تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 15:15 4

تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات