محاربة الفساد من السهل إلى المعقد

محاربة الفساد من السهل إلى المعقد
السبت 14 يونيو 2014 - 00:24

يشعرك أحدهم بخطابه الناري المليء بالجرأة والحرقة والغيظ بأنه المنتظر لاستئصال شأفة الفساد من جذوره، وبأنه قاب قوسين أو أدنى من أسر ومحاكمة ومعاقبة أضخم رؤوسه وأشهر رموزه. غير أنك تدهش من حاله حينما تراه يقف عاجزا خانعا أمام فساد تلميذ يشق طريقا منحرفا إلى المستقبل، وربما حول عجزه إلى لطافة وخفة ظل مبررا فعله الشنيع بأولوية محاربة الغشاشين الكبار، وما كان تبريره إلا خداع لنفس عجزت عن تحمل أسهل المسؤوليات، وأخلّت بأمانة السهر على تكافؤ الفرص في التباري بين المترشحين.

هل أجبر أحد المكلف بالحراسة على الإخلال بمهمته وخيانة أمانته؟ ألم تحدد الدولة قوانين صارمة تدعم تدخله لمحاربة الغش؟ هل يصح مبررا السكوت عن الفساد الصغير إلى حين القضاء على الفساد الكبير؟ هل من عجز عن إيقاف مترشح ألِف النجاح غشا قادر على مواجهة مجموعة ألِفت نهب ملايين الدراهم؟ أليس من مفسد صغير نصنع مفسدا كبيرا؟ ألم يقولوا إن معظم النار من مستصغر الشرر؟

يجمل بنا قول الحقيقة المرة، إن مجتمعا طبّع علاقته بالفساد، وأصبح جزء من رموزه المدنية والنقابية والسياسية محليا ووطنيا يبرره ويستفيد من ريعه ولو كان فتاتا، لعاجز عن محاربة الفساد، إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه كما يقال.

إن من يدرك هذه الحقائق ثم يستعجلك بمحاربة الفساد فهو لا يدعوك إلى مواجهة موظفين سامين وأطر إدارية وأمنية وعسكرية عليا فحسب، بل يدعوك إلى مواجهة مجتمع بأسره.

لذلك ليس ثمة دواء ناجعا، ودون آثار جانبية، لعضال الفساد أفضل من الإصلاح. فإطلاق مبادرات الإصلاح الواحدة تلو الأخرى، وجعل المجتمع ينخرط فيها ويطبع علاقته بتكافؤ الفرص والاستحقاق والشفافية ومقت الرشوة، من شأنه أن يحجم تدريجيا وباء الفساد والمصابين بفيروساته، ويوسع دائرة الصلاح ويكثر من دعاته وأنصاره.

قد يبدو هذا الطرح طوباويا ! قد يكون كذلك، لكنه ليس انتظاريا لكونه يركز على الذات التي نملك إلزامها بالقرار، وينطلق من السهل إلى الوعر، ولو أن الانطلاق من الذات هو الخيار الأصعب حقيقة، وهذا ما يرعب كثيرا دعاة الفساد ورموزه إذ كلما انطلقت مبادرة للإصلاح سارعوا إلى عرقلتها لأنهم يعلمون يقينا أن فيض الخيرات سيغمر يوما لهيب المنكرات.

ليس هناك اختلاف حول أولوية محاربة الفساد، إنما الخلاف حول أسلوب مجابهته، فهناك من هو غارق في الفساد، ويستعجل منك الحساب والعذاب، غير أن غرضه الخفي هو إما الإحراج لأنه يعلم أن القضية تحتاج الوقت ودقة التدبير، أو يريد دفع الصالحين “المغفلين” إلى تصرف انفعالي غير محسوب ليجد من خلاله منفذا، وربما ينتهي الأمر بتوريط المصلحين وإحراق البلد، وما سياسة مرسي وانقلاب السيسي عنا ببعيد.

وهناك من لا يمل من ترديد دعوته إلى كشف رموز الفساد وأسماء المفسدين، وحينما يُساير منطقهم الغبي وتوصف موظفة سامية بـ”للتماسيح دموع خاصة” لا تكاد تجد منبرا يسلط الضوء على التصريح ويكتب عنه مانشيت: “رئيس الحكومة يكشف عن تماسيح بصيغة المؤنث !”

أو حينما تكشف لائحة المستفيدين من المأذونيات ورخص المقالع، وبعد انقضاء أجل الترخيص، وإعلان فتح باب طلبات العروض وفقا لدفتر تحملات يضمن تكافؤ الفرض بين الجميع، ثم يخرج من سباق استغلال “الغاسول” من قامت حوله الدنيا حينها بسبب استغلاله الأزلي لهذه الثروة الوطنية، تَصم آذان “دعاة محاربة الفساد” عن الموضوع وتَخرس ألسنتهم عن الكلام.

أو حينما يُتناقل ترشيد مصاريف رئاسة الحكومة والوزارات وميزانية القصر، وتقليص الحسابات الخاصة وإخضاعها لرقابة نواب الأمة، وتوفير طلبات العروض التلفزيوني لمئات الملايين، فلا نسمع لهم همسا ولا رِكزا.

أما عن الورش الكبير المتصل بمحاسبة المسؤولين فيكاد القوم يتجاهلون محاكمات المدراء السابقين لمكتب المطارات، وشركة النقل البحري، وبنك “CIH”، ورؤساء الجماعات الترابية، وعزل ومعاقبة القضاة، وملفات أخرى كثيرة ينتظر أن يحسمها القضاء، فلم لا يكون لأدعياء “محاربة الفساد” حضورا ايجابيا في الإعلام والشارع لتعجيل الفصل فيها, لم يسكتون ؟!

إن محاربة الفساد كلمة حق يراد بها باطل، حيث لا تتم هذه المهمة الخطرة بمجرد امتلاك صلاحيات واتخاذ قرارات، أو بالقدرة على كتابة كلمات وإصدار مواقف راديكالية تتلاشى بعد حين موهمة صاحبها باستفراغ الوسع. بل إن محاربة الفساد تتطلب الانتفاض على الذات، والانخراط الجماعي، والنفس الطويل، والفرص السانحة.

إن محاربة الفساد أشبه بمقاومة الاستعمار، إذ لا بد للقوى الجادة في محاربة الفساد أن تستحضر كلاما نفيسا، لأحد أبطال المقاومة، شعارا لمهمتهم المعقدة: “فَكّر بهدوء ثم اضرب بقوة”.

[email protected]

‫تعليقات الزوار

9
  • AnteYankees
    السبت 14 يونيو 2014 - 06:28

    إن محاربة الفساد لا يمكن استطالتها لأنه كالسرطان يجب بتره وليس التمني بالشفاء دون الأخذ بالأسباب الجدرية. فالبدء بقطع دابر المفسدين و متابعتهم مع دويهم في البر و البحر و البحث في إرجاع المنهوب. فالاغتناء بين عشية و ضحاها ليس من الممكن في ظل اقتصاد شفاف و في بلد مفتقر لأسباب الإبداع. فهذه المهمة ليست بالصعبة كما تدعي، لإنها تتم بمجرد امتلاك صلاحيات القرار واتخاذه بسرعة فائقة. بل إن محاربة الفساد تتطلب الانقضاض عليه والانخراط الجماعي في الورش من الرأس إلى اخمص القدم ،و تقديم كل متهاون أو متستر تحت طائلة العقاب ،مع طول النفس وعدم التهاون مع كذا سرطان. فالفساد له رأس و أذيال فإزالة الفساد تتم بإزالة عقله أي رأسه.

  • مغربي ملاحظ
    السبت 14 يونيو 2014 - 11:49

    كل ما قلتها يا استاذ جيد …
    لكن أمام هذه المعضلة، وظاهرة الفساد، وخاصة الرشاوى…. الحل الوحيد، هو فتح ملفات كل، وعائلته، وأقاربه عندما تظهر علامات الاثراء غير المشروع …. على موظف ،ومسؤول، ومنتخب، وقاضي، وسياسي، ونقابي….، وعائلتهم، وما يبذرونه من أموال….وكل ساكنة ،اي مدينة، وموظفي الإدارات يعرفون مثل هذه النماذج…إذن جعل بنك للمعلومة ،يرسل إليه عبر المدن، ومن طرف ساكنتها ،حالات الإثراء المشبوه وغير المشروع ….البادي، والظاهر على المفسدين، ومايملكونه ،وما يبذرونه على عائلتهم…بهذه الوسيلة يكمن إدخال الرعب في المفسدين ……بالإضافة للإجراءات الأخرى: الوازع الديني…التربية والتعليم…الشفافية…تبسيط المساطر…والتنبيه…التوقيف…العزل والطرد…

  • bouddiouan
    السبت 14 يونيو 2014 - 11:50

    تصحيح: 1-هل أجبر أحد المكلف بالحراسة على …(وليس عن)

  • bouddiouan
    السبت 14 يونيو 2014 - 12:25

    معذرة على بعض الاخطاء، لم ينتبه الناشر إلى النسخة المصححة، وأتدارك معكم بعض التصويبات:
    -هل أجبر أحد المكلف بالحراسة على

    -سارعوا إلى عرقلتها لأنهم يعلمون يقينا

    -حضورا ايجابيا

  • ١محمد١
    السبت 14 يونيو 2014 - 13:43

    كيف للمواطنين أن يطلبوا محاربة الفساد و هم يساهمون في الفساد كل يوم!!!

    محاربة الفساد تبدأ بالمواطن… عندما تبدأ برفض دفع "التدويرة" لأصغر موظف فإنك تضع اللبنة الأولى لمحاربة الفساد…

    لا تدفع أي شيء لتخليص معاملاتك و من تأخر في القيام بمهامه فلا تسكت له و طالب بحقوقك بالقانون و أنشر ما حصل معك في الإعلام… سيبدأ الموضوع بالمواطنين و تذكر أن كل مواطن يرفض المساهمة في الفساد سيكون نقطة في نهر ستجرف الفساد و تحاربه بشكل لا يمكن ايقافه…

    أما لو استمرينا في مساعدة الفساد و مطالبة الأخرين و الحكومة بمحاربته فسوف نعيش في الحلقة المفرغة للفساد إلى ما لا نهاية… و لن نتخلص منه أبداً…

    لا تطالب بمحاربة الفساد… حاربه بنفسك و سترى النتيجة عندما ينظمُّ كل مواطن الى محاربة الفساد كلٌّ حسب إمكانياته…

  • صحصوح
    السبت 14 يونيو 2014 - 14:40

    فليتسع صدر الكاتب لبعض كلمات نبتغي فيها وجه الحق والحقيقة وليس كما تجنى علينا سابقا(ياكما المفسدين صحابكوم..)
    أولا : كفى خلطا للحابل والنابل فالكل يعلم أن عبد الحنين بنعلو مدير مكتب المطارات وصاحبه برق الليل اعتقلا بغضبة ملكية لا دخل للحكومة فيها
    ملف cih اعتقل أصحابه منذ 2009-2010 وقد تمتع خالد عليوة في عهد الحكومة الحالية بالسراح المؤقت لحضور جنازة أمه …يا للعجب
    ثانيا:ترشيد نفقات القصر ملكي ..!!؟نورنا الله ينورك " فنحن نعلم أن الميزانية الأخيرة المعدة من طرف الحكومة لم تخفض ميزانية القصر ولم ترشد ولم يك هناك نقاش ولا معارضة فلمَ الإصرار على الكذب ؟
    ثالثا: ما نعيبه على حكومتكم الراشدة ما يلي:
    في كل بلاد العالم التي تدعي التضامن مع الشعب في الأزمات وتطلب منه التضحية تبدأ الحكومة بالتضحية والبذل أولا فيتم تقليص عدد الوزراء ،تخفيض الرواتب والمنح والامتيازات أما في حكومتكم فالعكس : زيادة عدد الوزراء حتى قاربت الأربعين وزيرا مع إبداعات سياسية روعة: الوزير المكلف لذى الوزير..المكلف ب..وزير بدون حقيبة .. تقسيم وزارة إلى نصفين التجهيز+ اللوجستيك،قد يقول قائل : والله مظطرين نظرا للتحالفات..

  • صحصوح
    السبت 14 يونيو 2014 - 15:07

    قد يقول أحد :والله مضطرين نظرا للتحالفات..نقول : الوزيرة المنتدبة لدى وزير التعليم منكم ، والذي بدون حقيبة منكم والذي قسمت من أجله وزارة النقل والتجهيز حتى يبقى في الوليمة منكم …
    من أراد الإصلاح فعليه أن يرسل إشارات إيجابية للشعب والحقيقة أن حكومتكم الموقرة أرسلت صفعات وخيبات أمل : فقد صور التحالف الحكومي نفسه كجوعى إذا أقبلوا على وليمة..الوزيعة..كلشي مغمس ..
    لم نعد نطلب محاربة الفساد ولكن نطلب على الأقل عدم التحالف معه
    أين الموظفين الشابين الذين كشفا تلاعبات مزوار -بنسودة.؟..السجن
    لم نعد نطلب محاربة الفساد ولكن نطلب عدم إنقاذ المفسدين
    ما معنى أن يبقى الفاسي الفهري في مركزه يتمتع بالبريمات مع إفلاس المكتب على يديه؟؟على الأقل إن لم تكن هناك طاقة لمحاكمته فواجب عزله
    أخيرا : تريد إيهام القارىء أن ميزانية القصور تناقش ويتم ترشيدها وأنا أتحداك أن يقوم أصغر برلماني إلى أكبر وزير بمناقشة الميزانية تلك ناهيك أن يناقش القائمة المدنية أو يطالب أحدهم بتقليصها لأن (المغرب يكون بالملكية أو لا يكون..قول بنكيران).

  • إنسان2013
    السبت 14 يونيو 2014 - 18:34

    أحيي الكاتب على تعريج بمقاله على أسس تحميل المسؤولية التقصيرية إن من اللآمر أو المأمور
    فعلى هذا المنحى أذكر بقصة تحكى – و ليس ثمة أي دليل على حدوثها فعلا – أنه مرة نادى القوم بتنفيذ عقوبة على أحدهم فتقدم آخر بقوله من لم يكن من القوم قد فعل مثل فعلته فليتقدم لأنه الأطهر أن ينفذ الحكم ، فتراجع القوم كلهم منكوسي الخاطر لأن كل واحد منهم يشهد على نفسه أنه قد فعل مثلها من قبل و لكن لم يعلم به القوم.

    الفارق الكبير هو نمط القدوة ؛ ففي السياسة و القوانين الوضعية يكون المِأمور يأتمر بضوابط آمره ، و لكن سُرعان ما يتبين للمأمور أن الآمر نفسه لا يحترم المبادئ التي يأمر بها ، فتفرز أن المأمور يأخذ الآمر قدوة فلا يقوم بتفعيل الأوامر بل يكتفي بمداراتها و التلاعب بها لأنه اكتشف أنها وضعت من أجل كبح حقوقه لا غير
    أما في الشريعة خالق الكون فإن الأنبياء و الرسل لا تـنـزل عليهم الرسالات إلا بعد أن يصبحوا و يعرفوا أنهم قدوة قمة الأخلاق منها الصدق و الأمانة و عليه تجد المأمورين يجدون أن آمرهم ينفذه حرفيا ما يأمرهم به و بذلك يكون قدوة للآخرين فيتبعونه عن قناعة صادقة مطمئنة.
    فلا يجدوا حرجا بما قضى.

  • bouddiouan
    السبت 14 يونيو 2014 - 23:33

    كل شيء تقريبا كان فوق مكاتب الحكومات السابقة(المقاصة، الماء والكهرباء، مشروع حذف الدعم المالي من قبل المواطنين للقناة الثانية…)، فلم تجد هذه الحكومة سوى الأزمات والويلات، وعبقريتها في إدارتها لهذا الوضع أما معجزتها فتكمن في الأرقام التي تحققها على مستوى النمو الاقتصادي في ظل الأزمة مع اهتمامها البالغ بالجانب الاجتماعي(المنحة، رفد الحد الأدنى للأجور…). والأشياء تكتب لمن له القدرة على التنزيل والتفعيل. بل تضمنت ميزانية 2014 تقشفا طال ميزانية القصر. ولا يمكن الفصل منهجيا بين الملك والحكومة حيث أن الملك رئيس هذه الحكومة دستوريا، ولا يسكن هذا التمييز سوى المهووسين بالصراع مع الملكية.
    واهم من يشده الحنين إلى الردة أن يوهم الناس ألا شيء يتغير، وما كثرة الوزراء إلا تسريع لتنزيل إصلاحات حكومة جعلت الكثيرة يعد حياتها بالساعات واضعا يده على قلبه. وإذا رأى اللبيب مثلث المال +المخدرات+ رجال الأمن والسلطة والقضاء يتلقى ضربات متتالية في بلادنا فليبشر بدنو حتف المفسدين.

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة