مديرة شركة الفلوس تخاطب المثقفين

مديرة شركة الفلوس تخاطب المثقفين
الإثنين 16 يونيو 2014 - 23:18

تلقيت دعوة لإنجاز تغطية صحفية لتقديم نشاط ثقافي في فندق فخم. الفضاء واسع، السقف عال والفراش وثير والكراسي بأشكال مبتكرة… في جانب مثقفين أعرفهم من لقاءات سابقة، وفي جهة مقابلة مثقفين لا أعرفهم، يرتدون بدلات جديدة وربطات عنق، وجوهم حليقة وشعرهم مصفف أو رؤوسهم صلعاء تلمع. بجانبهم طاولات تزخر بالحلويات والعصائر… كل واحد يخدم نفسه بسخاء، إذن فالانتظار لذيذ هنا، لذيذ.

هنا وجه آخر للدار البيضاء. صحيح أن المدينة سيئة السمعة لأن الإعلام يركز على جانبها القبيح، أي الزحام والنفايات والمساكن العشوائية… لكن توجد أيضا أماكن أسطورية بشوارع يزيد عرضها عن ثلاثين مترا ومآت الأشجار وفنادق من عشرين طابقا وسيارات تسر الناظرين… من هذا الموقع فشعار تلفزتنا “المغرب أجمل بلد في العالم” شعار صحيح.

الدليل على روعة الدار البيضاء هو أن سكانها يتزايدون كل يوم. إنها توفر الرزق للناس، وهذا أهم شيء. هذه تصفية حساب مع المكان انتهت بمصالحة. لذلك فبعد عام قضيتها في المدينة أشعر أني في المكان المناسب. لأتابع تسجيل الملاحظات حول المكان وما يجري فيه.

بعد الحلويات دخل الجميع قاعة الندوة، خلف المنصة لوحة كبيرة عليها لوغو شركة شهيرة. جلسنا ننتظر تقديم المخرج والممثلين للمناقشة. لكن قبل ذلك هناك تعريف بالشركة المواطنة التي احتضنت ومولت النشاط الثقافي مشكورة. تولت مديرة الشركة التقديم، امرأة في الأربعين، أنيقة وحيوية وفي كامل مشمشها حسب تعبير الشاعر الخبير بالنساء محمود درويش. رحبت بنا المديرة في دكان البراغماتية، شرحت مشروعها في تمويل الثقافة. كثيرون استمعوا لخطاب المديرة بتوتر، يشعرون بأنهم خدعوا. لأنه لا يليق أن يكون الفعل الثقافي في بطن شركة هدفها الربح أساسا. يرفض الفنان المغربي أن يملي عليه مالكو المال القوانين، لدى الفنان الذي بدأ مناضلا لعداء شديد للرأسمالية، تسري كراهية اقتصاد السوق في لا شعوره… خاصة في هذا العصر الذي بلغت فيه الفوارق في الدخل مستويات يعجز الخيال عن هضمها. لكن للضرورة أحكام.

انتقلت المديرة من دور المحاسبة إلى دور “امرأة علاقات عامة”، تخلط بين الماركتينغ والأخلاق. شعرتْ بهذا وهي تراقب وجوه الحضور فأكدت أنه لو احتضنت كل شركة نشاطا ثقافيا لتطور الفن في المغرب… بالنسبة للمديرة هذا الدعم هي الطريقة الوحيدة لجعل المثقفين والفنانين يقدّرون الشركات. الجو متوتر في صمت. يظن المثقف الذي لا يزيد ما في جيبه عن 100 درهم أنه يفهم أفضل من المديرة التي في جيبها بطاقة بنكية مشحمة. أي غرور مضاد للأرقام.

في نظراتها لمساعديها تجمع المديرة بين الابتسامة والقبضة الحديدية. تبتسم بمقدار ولا تضحك، فالمثل الشعبي يقول “الضحك يُفسد البيع”. تظهر المديرة الود للزبناء، أي نحن، وقد جئنا لأن الدعوة كريمة والمكان راق مع ملاحظة جوهرية، وهي أن نص الدعوة قد ذكر الحلويات والعصائر لذا أملأت القاعة التي احتضنت الندوة.

قالت المديرة إن مساعديها يدعمون المشروع الثقافي وأشارت للرجال الأنيقين الجالسين على يمينها فتوجه إليهم المصورون. هؤلاء محاسبون وتحبهم الكاميرات. لا يسبب لهم عملهم أي إنهاك جسدي. يعملون بعقولهم. وهم يمثلون مع المديرة نموذجا من أقلية مجتمعية تملك وسائل الإنتاج. لذلك يظهر خطابها كأنه خطاب الأغلبية المجتمعية. صوتها مسموع والدليل هو أن الصحفي المدعو سيكتب عن الشركة المحتضنة والفنان المدعوم، سيكتب عن تصالح الشركة والفنان وهذه دعاية طيبة طاهرة من شبهة التجارة.

كنتُ على يسار المديرة أفحص المؤشرات السوسيولوجية الدالة عن علاقة الفنان والمقاول. أقارن: في المغرب يكسب المحاسب أكثر من الفنان، لكن لو سألت طفلا: هل تحلم أن تكون فنانا أم محاسبا؟ سيجيب فنان.حين سيكبر سيتمنى لو كان مقاولا. في دنيا المشاعر الفنان أهم. في حساب البنك العكس. في الأسطورة يلتقي المقاولون بهرمس إله التجارة بينما يلتقي الفنانون بسيزيف وباخوس…

ما شكل المستقبل بالنسبة لهما؟ المقاول متفائل دائما والفنان المثقف متشائم إلا إن تخلص من وعيه النقدي أو إذا احتفظ بحلم الطفولة في دمه.

نظريا لا سبيل للمقارنة بين المقاول والفنان لأن هذا الأخير ينفي عن نفسه شبهة ممارسة التجارة. حتى حين يكون بائعا ينادي على سلعته، يتظاهر أن الغاية هي خدمة رسالة سامية حتى لو صارت رسالته سلعة مربحة، وانظروا حولكم لترو كم من فنان يُكري حنَكه ويدعو الله أن “تسلم الأيادي والكرباج والبنادق”.

بينما المديرة تسوق مشروعها تلاشت صورتها وبقي صوتها يخترق أعماقي، صوت نسوي واثق معزز بالمعطيات عن مجالات عمل الشركة ونمو رقم أعمالها وعدد فروعها والعاملين بها…بينما تتحدث المديرة عبرتني مشاعر مختلفة:غضب، عداء، شكر، نقد ذاتي… ماذا أفعل هنا؟

هل الاقتصاد أخلاقي؟ البائع ليس محايدا، إنه منحاز لسلعته. يفترض الفنان أنه موضوعي، محايد وأن الحقيقة سابقة بالنسبة له على الربح. يصدق الناس هذا وأنا أيضا. ومن هنا فإن صورة الفنان فعالة في العلاقات العامة، لذا تستأجر شركات الإشهار الفنانين المحبوبين… يقول المثل “إذا أحبتك الجماهير فحدد السعر الذي تريد”. تحب الجماهير الفنانين، لذا تستأجرهم شركات الإشهار على أمل أن يقع الزبناء في حب الشركة كما وقع في حب الفنان…

لتحقيق هذا الهدف العظيم صارت العلاقات العامة مهنة، تتطلب تمويلا، تنظيما ومتابعة غير موسمية ليصير الزبون وفيا للسلعة. على المدى القصير يحقق الماهرون في العلاقات العامة إنجازات كبيرة.

وبعد الندوة هناك عشاء مجاني في الفندق الفخم. وجبة بثمن مرتفع يتعذر على صحفي دفعها. مسحت دسامة الوجبة العداء الفطري اللاشعوري للمديرة، وساهم اللحم المفروم في هضم دور الرأسمالية في الثقافة… طبعا للوجبات المجانية الدسمة دور كبير في العلاقات العامة. حين يشبع الزبناء يصغون جيدا.

‫تعليقات الزوار

3
  • ahfour
    الثلاثاء 17 يونيو 2014 - 12:55

    …أن تشم الورد ليس كأن تراه ! و هنا أيضا ، و من داخل الأجواء المسرحية الأكثر "تكلفة"، يوخزنا قلم بنعزيز لنتذكر، لأننا نعلم مسبقا، أنواع السلع التي تروجها الشركات الساكنة في القارات :منها الثقافية وغير الثقافية..الماسكة بالخيوط …المتطلعة الى الإشراق الكلي بقيمها و وطنيتها و شهيتها الباذخة …كل الأمور تهون بما فيها ترتيب البيت الفني وتوجيه عصيانه أو نظرته القلقة.. لذلك لا بد من لعب دور الوساطة بين الفن ومخاطبيه من خلال بيع اللعبة المصنوعه من طرف الشركات إياها. تنميرت

  • ادريس _وادي زم
    الخميس 19 يونيو 2014 - 11:15

    السلام…على سلامة حاملي الرسالة النبيلة

    السلام…السلام على كل من يمثل جسرا متينا لوطنه
    الىسلام على من يعبر على الراسخ فينا …عاداتنا…تقاليدنا…
    يقولون ان مداد الدواة-المحبرة-سم فلا تشربوه
    وكل
    من داقه في صغره حلاوة صار لكبره مرارة…..
    الفن وعي قيمة انسانية وحضارية.سلوك نبيل لايوصف .شمعة تنيرالدرب من مكرالظلام. فلا تصروه سلعة.ودروه مصباحا منبرا.

  • حماد
    الخميس 19 يونيو 2014 - 12:25

    شكرا لكم استاذ على كتاباتكم التي تعبر عن واقعنا المغربي كما هو بلا زواق بلا نفاق مع مسحة ادبية ذات نظرة نقدية لواقعنا المرير /انبهكم استاذ الى بعض الاخطاء اللغوية _النحوية بالذات_على سبيل المثال من قبيل قولكم //في جانب مثقفين …وفي جانب مثقفين// والصحيح مثقفون ….مثقفون//ومن قبيل قولكم//هذالدعم هي …//والصحيح هذا الدعم هو//اعرف انكم استاذ اللغة العربية فالرجاء مراجعة المقالات قبل نشرها على القراء حتى تكتمل المادة شكلا ومضمونا شكرا لكم

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 2

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس