أجهزة التخدير ومولدات الجهل العالي

أجهزة التخدير ومولدات الجهل العالي
السبت 11 فبراير 2012 - 02:21

حينما يهيمن على الحياة منطق التخدير المعقلن و السخرية المنظمة و الاستغلال المبرمج، يتم إلهاء المواطن بالفقاقيع السياسية و الفنية و الرياضية و بالمناسبات المصطنعة حتى يسهل استدراجه للمشاركة في الكوميديا البشرية التي يكتب فصولها الشيطان، ويقوم برسم مشاهدها وتوزيع أدوارها فقهاء المكر و أساطين الخدع الاجتماعية و السياسية و الثقافية. حينئذ يفقد المواطن بوصلته الهادية،و يحس بأنه قد أصبح ضحية لسياسة الإلهاء المقصود أو تكتيت تحويل الرأي العام الذي تستخدمه الشبكات الممارسة لطقوس توزيع الثروات واقتسام الغنائم في المزادات السرية و العلنية.حيث يتم استخدام كل أجهزة التشويش و التخدير التي تستهدف العقل و تبعده عن التفكير في الواقع وقضاياه و إشكالاته. وهي أدوات وظيفية قادرة على إبطال مفعول كل القنابل الاجتماعية، وفعالة في توجيه العقل عن القضايا المصيرية وإشغاله بالنقاشات الهامشية و المواضيع الثانوية.

– مواسم الخرافة و الدجل:

في هذه المسرحية الماكرة يتم إغراء المواطن بالباطل المقنع و إغراقه بالمواسم الفلكلورية المبلدة للعقول و المحجرة للفكر و المستدعية لأرشيف الجهل المركب و التخلف الممنهج الذي يتيح للفكر الخرافي بأن يفرغ حمولته الطوطمية و الغثائية في عقول الناس ومشاعرهم، وبأن يلبد سماء بساطتهم و سذاجتهم بسحب الأساطير و الخوارق و العجائبية. فترى الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكن تيار التخدير قوي، يكسر الحواجز النفسية، و يخترق طبقات الوعي، و يستوطن خلايا الدماغ ، ويعشش فيها لينتج عقائد باطلة و مسلمات وهمية و طقوسا جاهلية تؤله البشر و الحجر و القمر و الشجر، وتصنع أصناما آدمية تأكل الطعام و تمشي في الأسواق. في هذه المواسم الفلكلورية يتم إحياء هياكل الأموات و إقبار عقول الأحياء، فيها يتم بعث صدأ الماضي ودفن بريق الحاضر، فيها يقدس تمثال القديم الذي قضى نحبه، ويحارب شعاع الحياة الذي ينير متاهات المستقبل. في هذه المواسم تتحرك ترسانة الخرافة بعتادها القوي و بعياراتها الكبيرة لتعطيل آليات التفكير الحر ولتوجيه العقول نحو معبد السلبية و الانتظار و التواكل و التعلق بالأوهام والتمسك بالأحلام. ومن أجل إلغاء كل عملية للتأمل النقدي وتعطيل كل محاولة للملاحظة أو المحاسبة، تتحرك هذه الترسانة بتغطية كهنوتية يتبرأ منها الدين و العلم و الفطرة، فتفرض على العقول الانصياع التام و الخنوع الكامل و الركوع الذليل لكل تمثال عابر، و تدعو إلى الانخراط في أجواء دينية مفتعلة يتم فيها ترديد تراتيل سريالية تستفز العقل وتحتقره.و أي إعراض أو عصيان يعد في شريعة شبكة التخدير مروقا و زندقة، وكل نقد أو تعليق يعتبر سفسطة و هرطقة. فإذا تكلم الجهل، فعلى ألسنة العقل أن تعطل لغة الكلام. و لكن الأغرب من هذا كله هو أن يجد هذا التيار حماية خاصة وتزكية واسعة وحصانة ممتدة ومساحة إعلامية كبيرة واعتمادات مالية هامة حتى يمارس طقوسه الرجعية التي تعود بالإنسان إلى عهود الأساطير اليونانية حينما كانت كل الظواهر الطبيعية تملك صفة الألوهية و القداسة.

إنه كلما رأيت كثرة المواسم المدغدغة لحاسة السلبية والمستدعية للعقلية الأسطورية والمثيرة لغدة الهذيان في الإنسان علمت أن أجهزة التخدير تضاعف من جرعاتها المسكنة للعقل، وتعمل على تشغيل مفاعلاتها التبليدية و مولدات الجهل العالي التي تصيب الإنسان بالشلل الكلي. ففي فضاء هذه المواسم تؤجل الأولويات و الضروريات و الحاجيات..فيها تتلاشى أنات الجياع ، وتتبدد آهات المرضى و المحرومين، وتضيع صرخات الأيتام و العاطلين. فيها تلغى ثقافة الإحساس بالظلم و الغبن الاجتماعي.

– مهرجانات الفن الصاخب:

ومن أجل امتصاص فتوة الشباب و لإخماد ثوران اندفاعهم ، يتم اصطناع مناسبات للصخب المفتعل باسم الثقافة العصرية وباسم الفن الثائر الذي يلغي الحدود بين المباح و المحرم، و يخلط بين الأصيل و الدخيل، فتكثر المهرجانات المحركة للأجساد والغرائز، وتعلو الأصوات و الألحان بإيقاعاتها الجنونية و الهجينة، و تسود الضوضاء التي تصم الآذان و تلوث الأذواق،ويتم تكريم كل صاحبة جسد متمرد ووجه معدل وفن رديء. فتحلب جيوب الضعفاء السذج البسطاء، فيتحول عرق جبينهم إلى دولارات في المصارف الأجنبية.كل ذلك باسم جلالة الفن و قداسته. والفن من ذلك بريء ، لأنه أسمى من أن تحتكره الخفافيش التي تعيش في الظلام، و أشرف من أن يحترفه الذين يتسترون وراء الجدران و يعيشون في الجحور مع الجرذان.تكثر المهرجانات وتكثر معها مناسبات لإفراغ المكبوتات بطريقة مبرمجة.يفضل خلالها المواطن شراء التذكرة لإشباع جوعه الجنسي بالتملي بجمال الأجساد المتمردة على أن يشبع جوع بطنه ونداء أمعائه.يختلط الجوع والجهل والفقر والفن والإثارة لإنتاج كوميديا إنسانية غريبة. بذاك النوع المبتذل نعلن انتماءنا إلى هذا العصر، وهو النوع الوحيد من الحداثة الذي حققنا فيه أرقاما قياسية، وحطمنا به كل الحواجز.فحينما عجزنا عن إقامة حداثة علمية وتكنولوجية، تعلقنا بأهداب الفن الصاخب لنعلن للعالم بأننا من عائلة الحداثيين؟؟؟

في مهرجانات الفن الثائر المستعار يحرر الجسد و يلغى العقل، ويحرم عليه التفكير والاندماج مع قضايا الواقع و مشاكل الحياة. فمع صخب الإيقاعات وعنف الحركات المتشنجة، ومع هستيريا الهذيان ينفصل الإنسان عن وعيه، فيؤجل حاجياته ومتطلباته، وينسى همومه وانشغالاته. فإذا تحركت الأجساد وتمايلت الأشباح البشرية، فلا وقت لكتابة القصائد البكائية أو لرفع اللافتات المأساوية أو للمطالبة بتحسين الأحوال المادية و الاجتماعية.

– المعشوقة الماكرة الطائرة:

فإذا ما استفاق الناس من شرودهم وغفلتهم، واستعادوا جزءا من وعيهم و إدراكهم، تحركت آليات الإلهاء المقصود من جديد لتحويل الأنظار نحو الملاعب التي تمتص الملايين بعشبها المصطنع . فترى الفئات النشيطة المنتجة قد أجلت مصالحها و أعمالها و دراستها، واستسلمت للصراعات المفتعلة المنتجة للعصبية و المفرقة للجماعة. تقف الطوابير وتصطف الصفوف العاشقة المتشنجة الغاضبة ساعات منتظرة صفارة الانطلاق، فترسل شرارة غضبها المجاني وجنونها السريالي. وهكذا ينسى الشقي همه وبؤسه، وينسى المتدين صلاته و ربه،وينسى التلميذ كتابه و درسه.و كأن اليوم يوم قيامة، يفر الناس من آبائهم و أبنائهم، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يلهيه وينسيه.قيامة من نوع كاريكاتوري.. الكل واقف بين يدي إلهه المقدس/الكرة ..المعبود الهوائي الطائر. الكل يسبح بحمده في خشوع لا وجود له حتى في المساجد، وفي متعة تذهب معها آلام البطون الجائعة والجيوب المثقوبة والأمعاء الفارغة.من أجل هذا المعبود الجديد يعطل الناس مواعيدهم، ويؤجلون دفن موتاهم، ويؤخرون قضاء حاجياتهم، ويوقفون عجلة الحياة و آليات الإنتاج في الشوارع و المصالح و المؤسسات.

قبل كل موعد كروي تكثر الأحلام و الانتظارات وتتعدد التقديرات و الحسابات. وبعد ذلك الموعد المنتظر تجد الناس يستفيقون من غفلتهم بعد أن عاشوا ساعات تحت وقع التخدير وقد استبد بهم الغضب و الغبن و الإحساس بالمرارة.تكسرت آمالهم، تبخرت أحلامهم،تلاشت أمانيهم و تطلعاتهم.الكل يبحث عن كبش الفداء،والجميع يوجه سهم انتقاده ويلقي بحمم غضبه.تكثر التحليلات وتستعر الانتقادات وتتباين التأويلات.يصبح المواطن المسكين منشغلا مهموما ، يبحث عن أسباب الإخفاق وعن عوامل الفشل.يغير ترتيب أولوياته، فيصبح حديثه عن الكرة حينئذ مقدما على موضوع حاجته إلى الخبز ورغبته في التشغيل و عجزه أمام الأسعار وإحساسه بالظلم والتهميش وووو. تتواطؤ وسائل الإعلام على توجيه العقول نحو بؤرة واحدة تتوسطها المعشوقة الماكرة، فتكثر المناظرات و المحاضرات وتتعدد اللقاءات وتتناسل التعليقات ,وكأن كل المشاكل قد حلت و كل الانتظارات المصيرية قد تحققت. فرجال السياسة و الاقتصاد و الاجتماع والدين والإعلام والتربية و الثقافة يغنون نفس الأغنية ويرددون نفس السمفونية ،ويتحدثون على إيقاع واحد.

هكذا أصبحت الكرة أفيونا للجياع و العاطلين و الغاضبين و الحالمين، تحجب عنهم الرؤية، تصيبهم بعمى الألوان. تنقلهم إلى عالم وهمي ، الكل فيه يجري وراء السراب ولا يجني سوى الدخان و الضباب والمزيد من العذاب. يفرغون ما في أعماقهم من غضب، وما في عروقهم من دماء من أجل حلم عابر. وفي النهاية يستسلمون للصمت القاتل بعد أن انهارت قواهم وتمزقت أكبادهم وتكدرت دماؤهم في انتظار شوط آخر من المأساة و المعاناة.

‫تعليقات الزوار

13
  • احمد
    السبت 11 فبراير 2012 - 13:45

    السلام عليكم
    تحية للاستاذ المحترم على هذا المقال الرائع جدا جدا جدا قرائته بتمعن فوجدتك صائب في كل تحليلتك بشكل دقيق وهذا ما دفعني لنسخ هذا المقال لمحاولة نشره فيما بعد فشكرا مجددا على المقال الى مقال اخر انشاء الله.

  • abdel6678
    السبت 11 فبراير 2012 - 14:28

    اولا اشكرك اخي على مقالك هذا و الذي اترت فيه بعض اسباب تخلف هذا الشعب العزيز الذي يستحق ان يكون في مقدمة الأمم.
    اتفق معك اخي كون هذه المخدرات الثلاثة التي آترته : المواسم و المهرجانات و كرة القدم، تعتبر افيون الشعب المغربي. وهنا أريد ان اذكر فاعلا و عاملا اساسيا، يعمق هذه المخدرات و هو الإعلام الرسمي و غير الرسمي الذي يتواطأ و يشارك في تسميم و تخدير عقول المغاربة بأشياء تافهة لاتسمن و لا تغن من جوع.
    من هذا المنبر منبر هسبريس ادعوك اخي لتسلط الضوء على فساد هذا الإعلام و المتواطئين معه من صحافيين و كتاب و فنانون… هؤلاء الذين زجوا بالمغاربة في قضايا لم و لن تدفع بهم الى مقدمة الأمم.

  • مواطنة
    السبت 11 فبراير 2012 - 14:49

    صدقت يا دكتور لكن ما الحل؟

  • marocain pur
    السبت 11 فبراير 2012 - 15:45

    اشكر الكاتب على هذا المقال،قال تعالى:"ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم"صدق الله العظيم

  • aziz
    السبت 11 فبراير 2012 - 16:14

    انه الخوف الخوف من هذه الشعوب أن تقرأ و تفهم وتعي و لكن بدأت الشمس في السطوع و لا بد أن يأتي يوم تضيئ بأشعتها عتمة الجهل و الأمية و التخذير

  • hicham
    السبت 11 فبراير 2012 - 16:31

    كلام جميل و مؤتر متى سنبق هكدا نتأسف كثيرا على حالنا لقد وصلنا إلى الحضيض

  • طارق
    السبت 11 فبراير 2012 - 16:50

    مقال ممتاز و تحليل بارع. لا فض فوك يا استاد.

  • Taw
    السبت 11 فبراير 2012 - 18:20

    You really hit the spot, great article,very smart vision, and I would be waiting to read more of what you're going to write. thank you

  • جلال
    السبت 11 فبراير 2012 - 18:55

    يا خي انت تهاجم الفن الكرة و الفلكلور فمادا تركت لمزاج الناس؟
    هل تريدنا ان نبقى وجها لوجه مع المقالات البكائية متلا؟
    ثم الا ترى نفع المواسم و اضنك قصدت الزاوية البودشيشية،الا ترى انها استقطبت 140 الف زائر في اسبوع؟الا ترى نفع هدا على القرية؟ سواء اتفقنا ام اختلفنا مع الطريقة، اعطني بلدا واحدا ليس فيه مهرجانات فنية او مباريات كرة،لقد رددنا طويلا هده اللازمات و حان الوقت للتخلص منها.

  • بوغابة
    السبت 11 فبراير 2012 - 22:12

    مقالك يأخي توصيفي تحدتث عن مجموعة من الإشكاليات لكن لم تتطرق لسبل مواجهة واحدة منها
    أفضت في جلد الذات المغربية للمواطن المسكين وتركت الجلاد
    أرجو أن تعيد طرح الموضوع بصيغة مخالفة والحديت عن محرك مولدات الجهل العالي وغياب الفكر التنويري

  • مواطن من الدرجة الرابعة
    الأحد 12 فبراير 2012 - 10:54

    بل اني عاينت طرد عشرة عمال من احدى الشركات المتواجدة بطنجة والسبب هو الغياب عن العمل قصد مشاهدة مبارة كرة القدم .وهدا منتهى السخرية

  • خالد ايطاليا
    الأحد 12 فبراير 2012 - 23:59

    مادام هناك سدج ومغفلين ,فسياسة الاستغباء,والاستحمار هي سيدة الموقف .

  • MORAD-MONTREAL
    الإثنين 13 فبراير 2012 - 00:25

    JE M EXCUSE D ECRIRE EN FRANCAIS.JE VOUDRAIS JUSTE RAJOUTER QUE CHEZ LES TRABALSSI EN TUNISIE EN TEMPS DU DICTATEUR BEN3ALI C ETAIS LA MEME POLITIQUE,ON FAISAIT VENIR DES RATÉS DE HOLLYWWOD ET COMPAGNIES A COUP DE MILLIONS DE DOLLARS….POUR L AUTRE DICTATEUR GADDAFI ET FILS,CETTE EQUIPE AUSSI OPTAIT POUR LA MEME STRATEGIE ,PAYER DES MILLIONS DE DOLLAR DE LA POCHE DU PEUPLE POUR DES BUTS OBSCURE.MAIS CE QUI EST CERTAIN C EST QUE CE GENRE D ACTIVITÉ MEME SI LES GENS VONT LES VOIR ,CES ACTIVITÉS REVEILLENT L ESPRIT DES GENS ET ENFLAMMENT LA REVOLTE PLUS TARD CAR ON VOIT BIEN QUE L ARGENT EST LA MAIS C EST PAS LE PEUPLE QUI EN PROFITE C EST LES AUTRE ET QUE POUR DU VENT ET DU BRUITS…

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 5

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 5

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال